منذ أن كتب عبد الرزاق السنهوري، الذي أعد مشروع القانون المدني، وقدم مذكرته الإيضاحية (1948): “أن فكرة النظام العام فكرة مرنة جداً، (وأنه) لا توجد قاعدة ثابتة تحدد “النظام العام” تحديداً مطلقاً يتمشى على كل زمان ومكان، لأن “النظام العام” شيء نسبي”، وحتى اللحظة، لا زال المصطلح/ المفهوم/ الفكرة، يكتنفها الغموض والالتباس. فإذا تذكرنا أن القانون المدني متعلق بالأشياء والأموال، وأن بحثنا متعلق بمنتج ذهني (المصنفات السمعية والسمعية البصرية) فسيصبح الالتباس أعظم.

السنهوري، في شروحه التفصيلية للقانون المدني، يشير إلى الكيفية التي انزاحت بها الفكرة، فيذكر أنه “في هذه المرحلة الأولى، فرضت فكرة النظام العام بعض القيود التقليدية فقط على مبدأ حرية التعاقد، وهي في أصلها قيود ارتضاها أنصاره لتحديد نطاقه، وبسبب محدودية تدخل هذه الفكرة، أصبغ الفقه القانوني عليها صفة النظام العام السياسي والأخلاقي الذي يتسم بطابع سلبي غالبا، إذ يقتصر دوره في دائرة القانون المدني على حظر العقود التي تعتبر غير مشروعة بالنظر إلى محل الالتزام الناشئ عن العقد أو سببه. وقد تقررت غالبية هذه القيود في مرحلة إنشاء العقد”.

عبدالرزاق السنهوري

 

 

ثم يشرح السنهوري، مسار الانزياح من العقود (الأشياء والأموال) إلى النظام السياسي والأخلاقي، فيذكر أن “فكرة النظام العام السياسي والأخلاقي تضطلع بتحقيق أهداف أخرى في بقية فروع القانون، فهي تهدف إلى ضمان سلامة الدولة، واحترام نظامها السياسي ومؤسساتها الدستورية وكفالة حسن أدائها لوظائفها، وتشمل بالتالي سائر قواعد القانون الجنائي، والقانون الدستوري، والقانون الإداري، كما تهدف أيضا هذه الفكرة إلى حماية الأسس التي يقوم عليها نظام الأسرة وضمان احترام القواعد المنظمة له”.

 

 

بقي لنا في هذه المقدمة (القانونية/ الفقهية) ذكر جملة وردت في تقرير مجلس النواب عن مناقشات مشروع القانون المدني: “فمن المقطوع به أن كل نص تشريعي ينبغي أن يعيش في البيئة التي يطبق فيها، ويحيا حياة قومية توثق صلته بما يحيط به من ملابسات، وما يخضع له من مقتضيات”.

 

 

 

 

 

هكذا، إذن، كان الحال فجر يوم 23 يوليو 1952، كان هناك “نظام عام”، غائم، غير محدد، لكنه مقنن في مختلف أوجه الحياة، ومع مساء ذلك اليوم شرعت مجموعة من ضباط الجيش في إحداث ثقوب وشروخ وتصدعات في ذلك البنيان، ومن بعض أنقاضه شادوا “نظام عام” جديدا، أطاح بمقومات دستورية وسياسية واقتصادية واجتماعية، واستبدلها بأخرى.

ولأن سلسلة الإجراءت طويلة للغاية، فلن نتعرض إلا ما هو هام ضمن سياق حديثنا المتعلق فقط بقانون “الرقابة” (رقم 430 لسنة 1955)، الذي يستند على الإعلان الدستوري الصادر في 10 فبراير سنة 1953، وعلى القرار الصادر في 17 من نوفمبر سنة 1954 بتخويل مجلس الوزراء سلطات رئيس الجمهورية، وعلى ما ارتأه مجلس الدولة.

اقرأ أيضا:

النظام العام (1-2)

وهنا تبرز ثلاث إشارات، أو بالأحرى ثقوب جلية في النظام العام (القديم)، ولبنات في “الجديد”: فهناك تعليق للعمل بدستور 1923، وحل البرلمان، يحل محلهما “إعلان دستوري، ومجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء، وهناك إزاحة لقائد ثورة الجيش، محمد نجيب، وهناك مجلس دولة جرى اقتحامه والاعتداء على رئيسه (السنهوري) وبعض الأعضاء.

القديم والجديد معا في سيولة وتحول هائلين. فنلاحظ مثلا تلك الإشارة في نهاية الإعلان الدستوري:

“أيها المواطنون:

إنني إذ أعلن لكم هذه المبادئ والأحكام لا يسعني إلا أن أعلن أيضا عن إيماني المطلق بضرورة قيام نظام دستوري ديمقراطي كامل الأركان إثر فترة الانتقال وبضرورة توفير حياة حرة كريمة ومستقبل مشرق باسم لنا جميع، علينا أن نساهم جميعا في بنائه والله ولي التوفيق.

محمد نجيب لواء اركان حرب، القائد العام للقوات المسلحة، وقائد ثورة الجيش

10 فبراير 1953”

هذا الإعلان الدستوري، هو اللبنة “الدستورية/ القانونية” الأولى في بنيان النظام العام الجديد، وفي الشهر التالي وقعت أحداث مارس (أزمة مارس، ازمة الديمقراطية) وفي نهايتها ذهب السنهوري إلى بيته (إلى الظل والصمت)، وتبعه، في نهاية العام، بصرامة أكثر، قائد ثورة الجيش.

والآن فقرة فنية (ترفيهية) من الكوميديا السوداء.

فقد رغب صناع فيلم “اللص الشريف”: المنتج والمخرج حمادة عبد الوهاب، والممثل إسماعيل يس، ومؤلف الأغاني فتحي قورة، والسيناريست على الزرقاني، في تحية ثورة الجيش فتم اقحام مونولوج “20 مليون وزيادة”، على أحداث الفيلم.

عرض الفيلم في نوفمبر 1953، وفي نوفمبر التالي بات ذكر اسم نجيب يغلق أبواب الرزق، فتم منع عرض وتصدير الفيلم للخارج، ومنع المونولوج من الإذاعة.

كان ذلك بالطبع استنادا لـ “لائحة التياترات”، فلم يكن القانون الجديد قد صدر بعد. ولم تذكر اللائحة اسم نجيب ضمن مشتملات “النظام العام والآداب”، لكن ضرورات “الأمن، ومصالح الدولة العليا” اقتضت منع الاسم من كل أنواع الفنون السمعية والبصرية.

**************

في مطلع سنة 1953، ظهرت “هيئة التحرير” في 23 يناير، وكان مجلس قيادة الثورة، بقيادة قائد الثورة (نجيب) قد ألغى الأحزاب، جميعا، قبلها بأسبوع، وجاءت “الهيئة” لتسد الفراغ، وكان شعارها “الاتحاد، النظام، العمل”. فراغ الأسبوع كان طويلا، و”الفرح” بالهيئة كان “عارما”، والشعارات لا حدود لعموميتها وتلفيقها.

الأهداف من إنشاء الهيئة كانت بدورها حشو فارغ من المعني المباشر المحدد، القانوني والسياسي، فما معنى: “تحقيق مصالح الشعب في الحياة الحرة الكريمة”، أو: “إقامة مجتمع جديد على أسس من الإيمان بالله والإخلاص للوطن وتعزيز الثقة بالنفس وتوعية الناس”؟، فهل كان المجتمع “القديم” يقوم على عدم الإيمان بالله؟. الإجابة موجودة في مونولوج إسماعيل يس، الذي لو كان صناعه قد تجاوزا عن “نجيب” لظل “مونولوج التحرير بجدارة”.

كان نجيب متحمسا للهيئة، ولشعارها وأهدافها، لكن جمال عبد الناصر كان مذهلا في حركته الدعائية، وفي “قلب معاني الكلمات”.

عودة سريعة للسنهوري، للتذكره، فهو يؤكد في كتابه “الوسيط”، الذي يشرح فيه القانون المدني، على أن “الحريات العامة التي قررها الدستور هي أيضاً من النظام العام، وذلك كالحرية الشخصية. وما يتفرع عنها من حرية الإقامة، وحرية الزواج، وحرمة النفس والحرمة الأدبية. وحرية الدين والاعتقاد، وحرية الاجتماع، وحرية العمل والتجارة. فلا يجوز لأحد النزول عن حريته الشخصية…ولكل شخص الحق في أن يجتمع مع غيره، في هيئة أو جماعة، وأن ينتمي إلى ما يشاء من الجمعيات ما دام الغرض الذي تألفت من أجله هذه الجمعيات مشروعاً”.

الكثير من هذا أطاحت به ثورة الجيش، واستبدلته بـ “نظام عام” جديد.

كانت هيئة التحرير، وشعارها، وأهدافها، كما ذكر شريف يونس في كتابه “نداء الشعب”: “كان شعار الاتحاد والنظام والعمل يفتقر إلى أي دلالة سياسية باستثناء فكرة اتحاد الشعب خلف هذه السلطة المستجدة، أي تحويل حالة الطوارئ إلى وضع سياسي له قدر من الدوام. وأكد تفصيل الشعار هذا التوجه: إخراج البلاد “من عهود التفرقة إلى الاتحاد..[و] من الفوضى إلى النظام..[و] من القول إلى العمل. نوع من الانضباط الذي يشمل وأد كل الكيانات السياسية القائمة، وبغرض واحد هو إنهاء أية تعددية، باعتبارها شقاقا، وتحقيق انضباط قائم على العمل والصمت، باستثناء الضباط وأنصارهم الذين أكثروا الكلام عن مزايا الصمت”.

ومثلما أراد صناع “اللص الشريف” تحية ثورة الجيش، أرادت ليلى مراد المثل، فغنت:

المدهش، وقد لاحظ القارئ، ذلك بلا شك، أن نشر الأغنية جاء عبر “صفحة سامح أبو عرايس على “فيس بوك”، في شهر مايو 2013، ومعها هذا التعليق: “أول أغنية وطنية مصرية في ثورة يوليو 1952 وسميت “نشيد التحرير” أو كما عرفت “على الآلة القوى الاعتماد أو النظام والعمل والاتحاد. وهي مأخوذة من أول شعارات ثورة يوليو وهي “الاتحاد والنظام والعمل” وهو الشعار الذي أعلن سنة 1952″.

لكن “أبو عرايس”، لم يكن الأول الذي استدعي الشعار في تلك الفترة، فقبله، كتب “نيوتن” في صحيفة “المصري اليوم”، في يونيه 2012، مقالا كان عنوانها هو نفس شعار هيئة التحرير “الاتحاد.. والنظام.. والعمل”.

وسرد في مقدمته بعض ذكريات فتوته: “فى الخمسينيات كنا نسمع بالإذاعة أغنية حماسية تتحدث عن: الاتحاد والنظام والعمل. كان الراديو وسيلة إعلام توجيهية تعليمية. كانت الأغانى تشبه النصائح والإرشادات. كنت فى ريعان شبابى- للدقة: ما قبل شبابى- كنت أرفض هذا الكلام. أنزعج من التلقين والإملاء. تربيت فى بيت حر. تعلمت النظام دون أن أبتلع ذلك فى أغنية”.

ثم يقفز “نيوتن” ستين عاما، ويكتب: “فكرت فى معانى الأغنية بالأمس. قست على ما فيها حال مصر الآن. غيرت رأيى فيها. نحتاج عملياً أن نتلقن قيماً وأخلاقاً هجرناها منذ زمن. البلد يحتاج اتحاداً ونظاماً وعملاً. البلد الآن متفرق وعشوائى وعاطل. ماذا سيكون رد فعل المصريين لو سمعوا تلك الأغنية الآن؟”. وفي الختام يقدم “نيوتن” نصيحته للمصريين: “عودوا إلى القبول بمنطق الاتحاد. ارضخوا إلى قواعد النظام. لابد أن يعود العمل”.

الحماس للعودة ستين عاما للوراء، لم يشمل “أبو عرايس” و”نيوتن”، فقط، وتجاوز “الفيسبوك”، و”المصري اليوم”، وامتد إلى عام 2014، ووصل إلى “الأهرام”، حيث كتب “د. عاطف المليجى، أستاذ متفرغ ـ مركز البحوث الزراعية”، مقالا يتساءل فيه: “ومرت ستون عاما لم تتمسك فيها الأمة المصرية كما ينبغى بقيم الاتحاد والنظام والعمل فلم يتحقق لها نهضة عظيمة مثل أمم أخرى تمسكت بها ماهو السبيل لترسيخ هذه القيم الثلاث مع قيمتى العدل والرحمة فى وجدان وعقول المصريين وفى ضمائرهم لتتحقق لمصر النهضة المرجوة؟”.

**********

شخصيا، أحتاج وقت لفهم وتحليل دوافع “نوستالجيا”/ حنين “أبو عرايس”، و”نيوتن” و”المليجي” للنكوص ستين عاما للخلف كحل سحري، وأثق في ذكاء القارئ ومقدرته على إنجاز هذه المهمة قبلي. لكن ما زال في الموضوع مجال لطرفتين عن “النظام” في الشعار، وعن “النظام العام” في القانون.

الطرفة الأولى أنه ردا على الاتهامات الموجهة للقائد الحقيقي لثورة الجيش، جمال عبد الناصر، بكراهية ومعادة الديمقراطية كنظام للحكم، ذُكر مرارا في الدفوع “العقلانية” أنه: “صاحب إنشاء هيثة التحرير، وتلاه نزول قادة الثورة إلى الشعب. وشهدت سنة 1953 طواف عبد الناصر بين المحافظات والمراكز والقرى والكفور ومواقع العمل يفتح فروع الهيئة الجديدة ويخطب ويشرح ويناقش ويبشر معرفاً الناس بالهيئة وغاياتها داعياً الناس إلى الانضمام إلى أول مشروع لحل مشكلة الديموقراطية في مصر”. فالواقع أن عمر “المشروع” كان قصيرا للغاية، فأعقبه “الاتحاد القومي”، وهو بدور كان قصير العمر، فتلاه “الاتحاد الاشتراكي”، والمشاريع الثلاثة آلت بعد فشلها الذريع إلى الدعوة، بعد ستين عاما، للعودة من جديد إلى: الاتحاد والنظام والعمل.

صحيفة الأهرام تنشر خبر استقالة نجيب في صدر صفحاتها

الثانية، يحملها هذ العنوان المذهل في “الاتحاد والنظام والعمل”، فصورة الصفحة الأولى من صحيفة “الأهرام”، تحمل أنباء لا يمكن تصور لامعقوليتها وعبثيتها المطلقة، فالسيد صلاح سالم، وزير الإرشاد القومي الذي عرض على مجلس الوزراء، المخول بسلطات رئيس الجمهورية، قانون الرقابة الذي ما زالت مصر عالقة في فخاخه حتى اللحظة، يضع نفسه في السجن الحربي لأن رئيس الجمهورية، قائد ثورة الجيش، القائد العام للقوات المسلحة، اللواء محمد نجيب، يتدخل في شئون الإذاعة.