تكررت خلال الفترة الأخيرة محاولات سجناء الانتحار داخل السجون، وهو الوضع الذي لا يمكن اعتباره استثناء على سجناء الرأي. بقدر ما هي ميول تسيطر على المحبوسين، لعدة أسباب سواء نفسية أو جسمانية، تدفعهم للهروب إلى الموت من جدارن الزنازين.
في أيام الماضية أقدم سجينان على الانتحار، وهما عبد الرحمن طارق الشهير بـ”موكا“، والمدون محمد أكسجين. أما الأول فلا تعلم شقيقته كيف حاول الانتحار بعد إنقاذه في اللحظات الأخيرة كما وصلها من أنباء. أما شقيق أكسجين فقال إن شقيقه حاول الانتحار بتناول مجموعة من العقاقير الطبية، وتم إنقاذه أيضًا، ونقله لمستشفى السجن.
مؤشرات على ميول انتحارية لدى السجناء
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن ثمة علامات يجب على العاملين بالسجون أخذها بالاعتبار، باعتبارها مؤشرات على ميول انتحارية لدى السجناء. وهي التعبير عن الرغبة في إنهاء الحياة، والإصابة بالاكتئاب أو محاولة الانتحار في السابق، أو سوء العلاقة مع باقي السجناء.
وأجابت المنظمة في تقريرها عن الأسباب التي تدفع السجناء للانتحار، ومنها الوضع في زنزانة انفرادي، والعنف وسوء المعاملة أثناء الاحتجاز. بالإضافة إلى فترات الحبس الطويلة، خاصة الحبس الاحتياطي الذي لا مؤشر لنهايته.
وضع التقرير خطة للتعامل مع تلك الحالات داخل أماكن الاحتجاز، وهي منع وصول السجين لأشياء تمكنه من الانتحار. وفحصه قبل دخول السجن، والفحص الدوري، والتأكد من عدم إصابتهم بأمراض نفسية، وبناء علاقة ثقة بين السجناء وموظفي السجن.
ووفق أحاديث لسجناء سابقين، فإنّ النصائح التي قدمتها منظمة الصحة، تقتصر على منع دخول الأشياء التي يمكن استخدامها في الانتحار. وينفون وجود متابعة دورية أو نفسية مع السجناء.
ففي سجن طره تحقيق، على سبيل المثال، يقول محمد أحمد (اسم مستعار)، إن مستشفى السجن بها طبيب واحد فقط. يتم اللجوء له في كافة التخصصات، ولا يوجد طبيب نفسي أو متابع للحالات التي تعاني مشاكل نفسية. كما أن أدوية الاكتئاب والعلاج النفسي يمنع دخولها من خلال الزيارات.
المحامي أحمد أبو العلا يقول إن حق السجين في كافة أوجه الرعاية الصحية هو من ضمن الحقوق القانونية. ويعتقد أنّ ذلك “لا يتم بشكل كامل على أرض الواقع”، متحدثًا عن وجود إهمال بالرعاية الطبية للسجناء، ومنها الصحة النفسية.
وتنص قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء (قواعد نيلسون مانديلا)، على أن تتولى السلطات مسؤولية توفير الرعاية الصحية للسجناء. إذ يجب أن يحصل السجناء على المستوى نفسه للرعاية المتاحة في المجتمع.
دوافع اختيار الموت
والطريقة التي يمكن من خلالها الاطمئنان على السجناء تتمثل في زيارتهم، لكن الأمر أصبح أكثر تعقيدًا بعد جائحة كورونا. وباتت الزيارات مرة واحدة شهريًا، دون أي وسيلة أخرى للاطمئنان على السجناء. بجانب عدم منح المحامين تصاريح الزيارة.
وقالت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، إنها تقدمت بطلب لزيارة موكلها محمد أكسجين، لكن لم يتم الرد عليه. وهو الطلب المماثل الذي يسعى فريق دفاع موكا الحصول عليه، وفقا لما أكده محاميه محمد فتحي.
وتحت عبارة “معاملة قاسية” كشفت الشبكة ما يتعرض له موكلها. وقالت: “لعدم إتاحة الزيارة له منذ شهر فبراير الماضي، علمت الأسرة بمحاولة انتحاره من خلال المحامين”.
“أخي حاول الانتحار ليتخلص من حياته وسجنه”، هكذا كشفت سارة طارق شقيقة “موكا” إقدامه على الانتحار. وتصف سارة وضع شقيقها داخل السجن بقولها: “أبسط طلباته ممنوعة، وحقوقه لا يحصل عليها”.
وفي نقاط عايش بعضها المحامي محمود حيدر مع موكليه من الشباب، أوضح أسباب لجوء المحتجز إلى الانتحار, منها طول مدة الحبس وشعوره بضياع مستقبله. وأضاف حيدر، لـ”مصر 360″ أن بعض المحتجزين يفقدون بعضًا من أهاليهم سواء بوفاة الأم أو الأب أو أحد الأقرباء. وذلك دون أن يتمكن من رؤيته في أيامه الأخيرة.
أما الباحثون والطلاب، لهم أسباب تتعلق بالحسرة على تعليمهم الذي انقطع، نظرا لطوال مدة الحبس. كما في حالة الباحث أحمد سمير سنطاوي، الذي حكم عليه بالسجن 4 سنوات، في واقعة اتهامه بنشر أخبار وبيانات كاذبة. وتعد هذه ثاني القضايا المحبوس سنطاوي على ذمتها بعد القضية رقم 65 لسنة 2021، والمحبوس فيها منذ فبراير الماضي.
الاحتجاج بالانتحار
وفي حال الخروج من السجن، يجد المحتجز سابقًا مشكلة في الحصول على فرصة عمل. وهذا ما يوضحه فتحي المصري “اسم مستعار” محتجز سابق، حيث يقول إنه حاول البحث عن عمل عقب خروجه، دون جدوى.
وتابع: “تتعطل الأمور حين طلب مني إجراء فيش وتشبيه… فكرت كثيرًا في الانتحار خلال فترة احتجازي لشعوري بعدم إمكانية النجاح في الحياة خارج أسوار السجن مرة أخرى”. ويضيف المصري، “البعض يقدم على تناول حبوب مسكنة بكثرة لمرور اليوم عليهم داخل الحجز”.
إزاء ذلك، يقول المحامي ياسر سعد إن إقدام الشخص على الانتحار ليس جريمة في حد ذاته. باعتبار أحد أشكال الاحتجاج وكان يلجأ إليه البعض قديما في حالة اليأس.
ويستهجن سعد القول إن السجين يحاول جذب الانتباه إليه عبر محاولة الانتحار، مستشهدا بانتحار “بو عزيزي” اعتراضًا على الأوضاع بتونس. لذلك يطالب المحامي بضرورة إخلاء سبيل المحتجزين الذي طالت مدة حبسهم الاحتياطي، فضلا عن احتجازهم في مكان غير المنصوص قانونيًا.
أسباب نفسية
من الناحية النفسية، تربط بسمة سليم إخصائي علم النفس سبب وقوع انتحار المحتجز بالدرجة الحادة للاكتئاب. وتشير إلى أن هناك عوامل تساهم في حدوث الاكتئاب السوداوي، بجانب الأذى النفسي التي يتعرض له المحتجز.
تقيد حركة وحرية الشخص المعتاد على الحركة تخلق حالة اكتئاب والتي تصل إلى حدتها وبعض المحتجزين الصادر في حقهم حكم بالإعدام يقررون أن ينهوا حياتهم بأنفسهم بدلا من الآخرين
وتوضح سليم أن تقيد حركة وحرية الشخص المعتاد على الحركة، تخلق حالة اكتئاب والتي تصل إلى حدتها، وبالتالي يلجأ للانتحار. وتقول إن إحساس المحتجز بتأنيب الضمير، وتوقف حياته، يجعله يفكر في الإقدام على إنهاء حياته. بالإضافة إلى ذلك فإنّ بعض المحتجزين الصادر في حقهم حكم بالإعدام يقررون أن ينهوا حياتهم بأنفسهم بدلا من الآخرين.
وعن مساعدة المحتجز لعدم الوصول إلى تلك الدرجة من الاكتئاب، أشارت الإخصائية النفسية إلى أنَّ الحل الفردي لا يساعد المحتجز. وهنا يأتي دور الإخصائي النفسي بالسجون، وتفعيل دوره، فبعض الحالات يقدمون على محاولات انتحار فاشلة. وهو ما يستوجب مساعدته نفسيًا حتى لا يتكرر الفعل، باعتباره داخل دائرة فقدان الأمل.
تكرار الوقائع
محاولات الانتحار داخل السجن ليست جديدة، ففي أغسطس 2019 دعت منظمة هيومان رايتس ووتش. ومبادرة الحرية المستقلة ومقرها الولايات المتحدة، السلطات المصرية إلى إجراء تحقيق مستقل بشأن وضع خالد حسن. وهو معتقل مصري-أمريكي في سجن طرة، بعد محاولته الانتحار في يوليو من نفس العام.
“هيومن رايتس ووتش”: حسن زار طبيباً نفسياً في اليوم الذي حاول فيه الانتحار وقُدم إليه الدواء، قبل إعادته إلى زنزانته.
“هيومن رايتس ووتش”، قالت حينها، إن حسن حاول الانتحار بقطع شريان معصمه وتناول كميات كبيرة من حبوب ارتفاع ضغط الدم. وأن سلطات السجن نقلته إلى مستشفى استقبال سجن طرة بعدما عثر عليه السجناء فاقداً للوعي. وأفادت عائلته بأنه زار طبيباً نفسياً في اليوم الذي حاول فيه الانتحار وقُدم إليه الدواء، قبل إعادته إلى زنزانته.
ولفتت العائلة إلى أن محاولة الانتحار جرت بعد فترة وجيزة من عدم سماح مسؤولي السجن لشقيق حسن بزيارته. وأوضح أحد أفراد أسرته أن حسن “كان يأمل زيارة من ابنه (11 عامًا). لكن رفض زيارة شقيقه أعطاه انطباعاً بأنه لن يرى ابنه وبناته في الأيام الآتية.
مصر ليست استثناءً
وتلك الحالات غير مقتصرة على مصر فقط. ففي أغسطس من العام الماضي، أطلق وزير العدل الفرنسى مهمة تهدف إلى الحد من عمليات الانتحار في السجون الفرنسية. وتوضيح الظروف التي انتحر فيها عدد من المعتقلين الفترة الأخيرة، وكان آخر المنتحرين هو مدرس سابق.
وأفادت التحقيقات بانتحار 128 سجينًا عام 2019، وهو أقل بثلاث مرات عن عام 2018، وفقًا لإدارة إدارة السجون. من بينهم مدرس رياضيات سابق يبلغ من العمر 51 عامًا، شنق نفسه في زنزانته في مرسيليا. وكان قد تم وضعه في الحبس الاحتياطي لمدة شهر.
وفي نوفمبر 2019، أعلنت الحكومة الاتحادية، عن ارتفاع عدد حالات الانتحار داخل السجون الألمانية. وجاء في رد الحكومة الاتحادية على استجواب من الكتلة البرلمانية لحزب اليسار الألماني المعارض، أن 173 شخصًا توفوا في السجون الألمانية خلال عام 2017، بينهم 82 شخصا منتحرًا.
في أواخر سبعينيات القرن الماضي، كشفت تحقيقات عن تزايد حالات الانتحار بسجون الولايات المتحدة الأمريكية. ووقع نصف حالات الانتحار في الحبس الاحتياطي خلال الساعات الأربع والعشرين الأولى من الاعتقال.
شارك في إعداد المقال: سوزان عبد الغني وهبة أنيس