في هذا المقال، يواصل الكاتب هشام جعفر تحليل ما حدث في تونس مؤخرا ضمن إطار بحثي واسع بعنوان “سردية الربيع العربي”. وهنا يعرج إلى مسألة الاستقطاب الإسلامي العلماني التي أفرزتها الأحداث الأخيرة، وتحديات الأنظمة في ظل استمرار جائحة كورونا لسنوات.
عن مصر والدرس التونسي “1-2”
الاستقطاب الإسلامي العلماني
أخبرتني زوجتي في زيارتها لي في السجن التي كانت بعد فترة طويلة وكانت عبر حاجز زجاجي ومن خلال التليفون، أنها عندما اتصلت بصديقين عزيزين من كتاب الأعمدة المصرية الشهيرة لفضح الانتهاكات التي أتعرض لها وعديد المسجونين في سجن العقرب، طلبوا منها التأكد مما يجري لأن هذا الحديث مما يشيعه الإخوان عن هذا السجن الرهيب. لمعت في ذهني وقتها فكرة تستحق أن يتوفر عليها أحد الباحثين الشباب وهي مدى تأثير الإخوانفوبيا على التغطية -بتعبير إدوارد سعيد حين عنون كتابه “تغطية الإسلام”- على القضايا والموضوعات التي أولى بالنقاش وهو ما يستخدمه النظام كثيرا باعتباره أحد دعامات دعاياته، ولكن كثيرا من مثقفينا وكتابنا قد وقع في حبائل هذا الخطاب، وقد كانت الحدث التونسي كاشفا ومعززا لهذا الخطاب لأن حزب النهضة- ذو المرجعية الإسلامية -كان أحد أطراف الأزمة الأساسيين والمسئول الأكبر وإن لم يكن الوحيد عنها.
وقد يكون من المفيد تحليل الآليات التي يستخدمها الكتاب لتفعيل الإخوانفوبيا في الخطاب؛ فأحدهم على سبيل المثال قد قارن بين موقف الغنوشي وخيرت الشاطر فيما يخص الهيمنة على التنظيم والنكوص عن وعود عدم الترشح للمناصب السياسية، وكأن هذا صفة لصيقة بالإسلاميين دون سائر السياسيين، فعلى حد قوله فإن “الطبع يغلب التطبع”.
مشكل هذا الخطاب كما قدمت أنه لا يناقش القضايا الأولى بالنظر، ولا يستطيع أن يرصد تطور الظاهرات الاجتماعية وتغيرها وتنوعها، لأنه يتعامل وفق منطق الصور النمطية والصناديق المغلقة التي لا ندري ما بداخلها، وهنا أحيل على مقالي الضافي عن الإسلاميين والسؤال التونسي الذي يقع في 5 آلاف كلمة وهو قيد النشر وقد أشرت فيه إلى “نهاية استثنائية الإسلاميين” في الممارسة السياسية بعد الربيع العربي.
أعود إلى الأطروحة الأساسية التي أقدمها في مسألة الاستقطاب الإسلامي العلماني وهي: أن الصراع الإسلامي العلماني فيه كان ولا يزال ذو طبيعة سياسية تختبر فيها أطرافه المتعددة موازين القوي فيما بينها في ظل هواجس ومخاوف متبادلة، وعدم يقين في نتائج العملية السياسية، وامتزاج شديد للمشاعر الدينية بالمصالح السياسية، وأن ما ظهر من صراع حول موقع الشريعة من الدستور لم يكن -من وجهة نظري- إلا صراعا علي النفوذ وبحثا عن التأييد السياسي واستخداما للتعبئة والحشد للمؤيدين؛ فالشريعة كانت أحد أدوات الصراع ولم تكن جوهره.
تدلنا خبرة الربيع العربي أن الاستقطاب الإسلامي العلماني استخدم للتغطية على أنواع أخري منه كانت أولى بالاهتمام مثل الصراع بين سياسة الشارع وبين بناء المؤسسات، أو الصراع بين الجهوي/المحلي وبين المركزي، والصراع بين الثوري وبين الإصلاحي، وآخرًا وليس أخيرا، بين المطالب الاجتماعية/الاقتصادية وبين السياسية، وأن ما نحتاجه الآن هو “إعادة هندسة الاستقطابات على أسس جديدة تستند إلى سردية الربيع العربي“.
يقدم لنا الحدث التونسي درسين هامين في هذا النطاق: الأول -وبخلاف الحالة المصرية في ٢٠١٣ – هو وجود قطاع معتبر من نخبتها ومؤسساتها المدنية لم يؤيد “انقلاب” قيس سعيد وعنده مخاوف وهواجس حقيقية فيما يخص المسار الديموقراطي في تونس، ولا يعني هذا بالضرورة تأييد موقف النهضة بل يحملها مسئولية كبيرة عما آلت إليه الأوضاع، وفي المقابل فقد أبرزت خبرة الربيع العربي -ليس في تونس وحدها- ولكن في مجمل المنطقة العربية أن هناك نخبة علمانية تتعدد مكوناتها بين ليبرالية وقومية ويسارية عازمة على التضحية أو مقايضة القضاء على الإسلاميين جميعا بالديموقراطية وترى في هذه الأزمات -التي يمكن أن تتعرض لها الفترات الانتقالية -فرصة لتحقيق ذلك.
هذا الموقف يجعل هذه النخب أمام مأزقها التاريخي، فهذه الصيغة أيضا- أي التحالف مع أنظمة استبدادية للقضاء على الإسلامية في المجال السياسي -قد ثبت فشلها؛ فلا الإسلاميون قد انتهوا من المشهد (بل تدل استطلاعات الرأي علي نمو شعبيتهم من جديد حال محاربتهم)، ولا تم تحقيق ديموقراطية وعدالة اجتماعية وحداثة كما كانوا يستهدفون.
بعبارة أخرى، فإن الدرس الذي يجب أن تتعلمه هذه النخب من عقد الربيع العربي أن الصيغة التي تطرحها الأنظمة العربية جميعا في مناقضة صريحة لسردية الربيع العربي لم تجن منها الشعوب العربية إلا القليل من تحسين حيواتهم، وأدت إلي حروب أهلية ونزوح جماعي .. إلخ، وبات التساؤل حول مستقبل الاستقرار على المدي البعيد مما هو مطروح بين خبراء والمختصين في المنطقة الآن.
خامسا: كورونا ومستقبل الأنظمة العربية
هناك ملمح هام لم أجد له أية إشارة في الجدل حول ما يجري في تونس، وهو مما يستدعي أن تتوقف أمامه الأنظمة العربية جميعا لا أن تضحك في كمها من فشل آخر تجارب الربيع العربي، فلأول مرة في المنطقة نشهد ما الذي يمكن أن تحدثه كورونا في نظام سياسي عربي من ردود فعل جماهيرية.
وهنا يحسن أن نشير إلي الدرس الذي يستخلصه فوكوياما في مقاله المنشور من أيام كانت العوامل المسؤولة عن الاستجابات الناجحة للوباء هي قدرة الدولة، والثقة الاجتماعية، والقيادة. لقد كان أداء البلدان التي لديها الأجهزة الثلاثة – أجهزة دولة كفؤة، وحكومة يثق بها المواطنون ويستمعون إليها، وقادة فعالون – أداءً مثيرًا للإعجاب، مما حد من الضرر الذي لحق بهم”.
ويضيف: “لقد كان أداء البلدان التي تعاني من خلل وظيفي أو مجتمعات مستقطبة أو قيادة فقيرة سيئًا، مما ترك مواطنيها واقتصاداتها مكشوفين وضعفاء.”، ويخلص إلى:أن الوباء المستمر إلى جانب فقدان الوظائف العميق، والركود المطول، وعبء الديون غير المسبوق سيخلق حتمًا توترات تتحول إلى رد فعل سياسي عنيف لم يتضح بعد.
ألقى الوباء -إذن- الضوء الساطع على المؤسسات الموجودة في كل مكان، وكشف عن أوجه القصور والضعف فيها. لقد عمقت الأزمة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، شعوبًا ودولًا، وستزداد أكثر خلال فترة الركود الاقتصادي المطول.
في مقال سابق تعرضت لمأزق الدولة العقدين المقبلين والذي يتأتى من “تطلعات جماهيرية متزايدة وعجز حكومي”. الملمح العام للمستقبل -كما شرحته-هو عدم التوافق بين الطلبات العامة والقدرات الحكومية، فعلى مدى العقدين المقبلين، من المرجح أن تواجه العلاقات بين الدول ومجتمعاتها في كل منطقة توترات مستمرة بسبب عدم التوافق المتزايد بين ما يحتاجه الجمهور أو يتوقعه وما يمكن للحكومات أو مستعدة لتقديمه؛ ففي العديد من البلدان من المرجح أن يواجه السكان الذين زادت توقعاتهم بسبب التنمية البشرية والازدهار الاقتصادي السابق ضغوطًا واضطرابات أكبر بسبب تباطؤ النمو، وقلة فرص العمل غير المؤكدة والتي أعادت التكنولوجيا صياغتها، والتغيرات الديموغرافية، وستكون هذه الشعوب أيضًا مجهزة بشكل أفضل للدفاع عن مصالحها بعد عقود من التحسينات المطردة في التعليم والوصول إلى تقنيات الاتصال، بالإضافة إلي التماسك الأكبر للمجموعات ذات التفكير المتماثل.
وبرغم أن الثقة في المؤسسات الحكومية منخفضة بين عامة الناس، فمن المرجح أن يستمروا في النظر إلي الدول باعتبارها مسئولة- في نهاية المطاف -عن مواجهة تحدياتهم، والمطالبة من حكوماتهم بالمزيد من تقديم الحلول.
أعتذر منكم أعزائي القراء فقد طال الحديث أكثر مما ينبغي، ولكنه محاولة للتفكير بشكل مختلف وأترك تقييم ذلك لكم.