لم تنتظر حركة طالبان، 31 أغسطس، موعد الإجلاء الكامل للقوات الأمريكية وحلف الناتو من أفغانستان، وفقا للتسوية السياسية المتفق عليها، حتى أعلنت سيطرتها على البلاد، بما فيها العاصمة كابول، والقصر الرئاسي الذي خلا من حاكمه “أشرف غني”، بعد مغادرته البلاد إزاء علمه باقتحام مسلحي الحركة الإسلامية أطراف العاصمة.

استغرق سقوط الدولة حوالي 3 أشهر منذ الهجوم الأول للحركة في إقليم هلمند جنوب البلاد. كان هذا متوقعا رغم تسليح القوات الأمريكية وأعوانها لـ300 ألف شخص في الجيش الأفغاني، وهو ما يلقي اللوم على الخطة الأمريكية التي تسببت في استيلاء تنظيم مسلح على الحكم في البلاد.

لاشك أن الاستراتيجية الأمريكية بالانسحاب بعد 20 عاما مقابل عدم السماح لتنظيمات إرهابية، مثل القاعدة، لضرب أي أهداف أمريكية، مثل فرصة ثمينة لأعضاء حركة طالبان للعودة مرة أخرى إلى السلطة بعد 20 عاما. ويعتبر استيلاء طالبان على السلطة تأكيدا على فشل الاستراتيجية الأمريكية في مكافحة الإرهاب في معظم الحروب التي خاضتها.

تدخل الولايات المتحدة في أفغانستان

في 20 سبتمبر 2001، صرح الرئيس الأمريكي الأسبق “جورج دبليو بوش” خلال خطاب أمام الشعب الأمريكي، “أيها المواطنين، إن حربنا على الإرهاب تبدأ بالقاعدة، ولكنها لا تنتهي هناك، ولن ينتهي الأمر حتى يتم العثور على كل جماعة إرهابية لها امتداد عالمي ويتم وقفها وهزيمتها”. ومثل ذلك بمثابة إشارة البدء بغزو أفغانستان. كما أصدر مجلس الأمن قرار”1373″، الذي نص على اعتبار الإرهاب أزمة عالمية، ومن ثم ضرورة التعامل معها بشكل دولي، كما أعلن وجوب تقديم المساعدة للشعب الأفغاني وبأن يتم دعمهم لإرساء نظام حكم انتقالي بهدف شرعنة تحركات القوات الأمريكية والتحالف الدولي في أفغانستان.

وفي إطار حربها على الإرهاب، استطاعت الولايات المتحدة الإطاحة بحكومة طالبان بمزاعم قيام الحركة بتوفير ملاذ آمن لزعيم تنظيم القاعدة “أسامة بن لادن”، واستمر التواجد الأمريكي في أفغانستان، بهدف ملاحقة العناصر الإرهابية ودعم القوات الحكومية بحيث وصل عدد القوات في وقت ما إلى 140 ألف جندي بجانب الموارد المالية والعسكرية.

بن لادن

وعلى الرغم من ذلك، أفادت وزارة الدفاع الأمريكية في يناير 2019 بسيطرة الحكومة الإفغانية على 58 % من أراضي البلاد فيما تنشط طالبان في باقي أنحاء البلاد. وحسب التقديرات يتراوح عدد مقاتلي طالبان ما بين 20 إلى 40 ألف شخص، واستطاعت الحركة طوال هذه الفترة استجماع قواتها بحيث أصبحت قادرة على تهديد الأمن القومي واستهداف المناطق الخاضعة للحكومة المركزية في كابول.

وفي نفس السياق، أثناء فترة تولي الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”، اتبع سياسة الانسحاب من الحروب التي لا نهاية لها، كحد لاستنزاف القوات في صراعات لا تمثل أولوية بالنسبة للقيادة الأمريكية، وتأكيدا على ذلك، سحبت أمريكا قواتها من الصومال والعراق. كما اتجهت لعقد اتفاق في فبراير 2020 مع حركة طالبان بعد 9 جولات من المحادثات بين الولايات المتحدة والحركة بغية إحلال السلام في أفغانستان بعد أكثر من 18 عاماً من الصراع، والذي نص على أن الولايات المتحدة وحلفاءها في الناتو سيسحبون قواتهم من أفغانستان خلال 14 شهراً، بحيث تنسحب آخر القوات في 31 أغسطس، وما لبثت أن خرجت القوات، حتى بدأت طالبان بشن حرب شاملة انتهت باستيلائها على السلطة.

إخفاق الولايات المتحدة في استراتيجية القضاء على الإرهاب

تمثل الحرب الأمريكية في أفغانستان أكثر الحروب استهلاكا للموارد المالية والبشرية نظرا لأنها استغرقت أطول مدة قاربت العشرين عاما، تكبدت فيها خسائر تشمل أكثر من 2300 من عسكري أمريكي وإصابة ما لا يقل عن 20 ألف أخرين إلى جانب حوالي تريليون دولار.  وعلى الرغم من ذلك، لم تتمكن الولايات المتحدة من القضاء على الجماعات الإرهابية، إذ ما لبثت أن تحينت الفرصة لخروج القوات الدولية حتى أعلنت طالبان سيطرتها على البلاد، وتتقارب هذه الملابسات مع ما حدث في فيتنام والعراق، ويمكن فهم هذا السياق بناء على عدد من المحددات:

عدم الفهم الواضح للجماعات المتطرفة

تتحرك أغلب الجماعات الفكرية التنظيمية وفقا لاتجاهين: الاتجاه الأيدولوجي والاتجاه الحركي، إذ إنه عندما بدأ الغزو الأمريكي على أفغانستان، ركزت على مطاردة أعضاء تنظيم القاعدة وملاحقة الجماعات الإرهابية وأنصارها دون إدراك الديناميكية الأساسية التي مكنت الحركة من توطيد ركائزها في الحكم، مما دفع قادة الحركة إلى الهروب إلى باكستان حيث مسقط رأس الحركة، كما تربطها العصبية القبلية على الخط الحدودي بين الدولتين، ثم استطاعت الحركة إعادة تنظيم نفسها، واتبعت آلية حرب العصابات حتى تمكنت من بسط نفوذها مرة أخرى في أفغانستان.

الاعتماد على التفوق التكنولوجي والقدرات الحركية: لم تول القوات الأمريكية اهتماما سوى بقتل رؤوس الإرهاب دون التعمق في الآلية التي مكنت هؤلاء العناصر من تشكيل إمبراطورية فكرية مترامية، إذ إن هذه التنظيمات تستفيد من حملات الملاحقة الأمنية في استراتيجية الحشد الجماهيري والمظلومية لجذب مزيد من الجماهير إلى الانضمام إلى كيانها المتطرف، كما في حالة تنظيمي القاعدة وداعش، فيما نجحت الولايات المتحدة في قتل قادة تنظيم القاعدة وطالبان وداعش وجنودهم أو القبض عليهم، إلا أن ذلك لم يعمل على سقوط هذه التنظيمات، حيث أغفلت الجانب الأيديولوجي في إطار حربها على الإرهاب.

ويؤكد ذلك ما صرح به وزير الشئون الخارجية الأسبق “هنري كيسنجر” أثناء حرب فيتنام في 1969 “لقد خضنا حرباً عسكرية، بينما خاض خصومنا حرباً سياسية، وسعينا إلى الإنهاك الجسدي، بينما سعى خصومنا إلى إرهاقنا نفسياً. وخلال هذه العملية، نسينا واحدة من المبادئ الأساسية لحرب العصابات: العصابات تربح الحرب عندما لا تخسرها، أما الجيش التقليدي فيخسر الحرب إذا لم ينتصر فيها”.

المعالجة التقليدية

اتسمت الاستراتيجية الأمريكية في مواجهة الإرهاب بالضحالة، إذ لم تتبع تكتيكات أكثر توافقا مع ظروف كل حالة، حيث دائما ما تطور التنظيمات من آلية تواجدها من خلال الأداة الإعلامية والعسكرية وتكتيكات المواجهة من حيث التفجيرات الانتحارية وحرب العصابات، وهذا ما لم تواكبه القيادة الأمريكية، بجانب التقلبات في مدى اهتمام السياسات الأمريكية لمكافحة الإرهاب واستراتيجياتها على مدى العقدين الماضيين، يضاف إلى ذلك، تراجع الاتساق الدولي في مواجهة التنظيمات المتطرفة مما أدى إلى تعقيد الأمن الإقليمي وإطالة أمد الصراع.

تجاهل عملية بناء الدولة

كان تدخل القوات الأمريكية لأهداف ذاتية، ولم تهتم بإعادة إصلاح ما دمرته الحرب أو السياقات الاجتماعية والسياسية التي ساعدت على نمو الحركات المتطرفة، من حيث التراجع الديمقراطي وتدهور معدلات التنمية، إذ اتخذت الولايات المتحدة في العراق قرار بحل الجيش والشرطة في العراق في 2003 مما يعني إفراغ السلطة من وظائفها الأساسية، ومن ثم، لم تهتم بإعادة بناء الدولة، وإرساء برامج حقيقية تنموية وغرس قيم المواطنة، وهو ما أشار إليه الرئيس الأمريكي “جو بايدن” مؤكدا “أن الولايات المتحدة لم تتدخل في أفغانستان قبل عقدين لبناء أمة”، وتصنف أفغانستان في المرتبة 173 من أصل 180 على مؤشر مدركات الفساد.

التناقض في السياسة الأمريكية: إذ تدخلت القوات الأمريكية في أفغانستان للإطاحة بحكومة طالبان باعتبارها راعية لإرهاب تنظيم القاعدة، واستمرت في حربها على التنظيم، ثم في فبراير 2020، اعترفت بحركة طالبان كشريك رئيسي في السلطة في أفغانستان، وعقدت معها اتفاقية سلام بموجبها سحبت قواتها بعد 20 عاما من الحرب، وذلك على غرار ما اتبعته الولايات المتحدة مع جماعة الحوثي في اليمن.

اقرأ أيضا:

تركيا وإيران في المشهد.. من يملأ فراغ “الناتو” في أفغانستان؟

https://masr360.online/%d8%a3%d8%ae%d8%a8%d8%a7%d8%b1/%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d8%a9/%d8%a3%d9%81%d8%ba%d8%a7%d9%86%d8%b3%d8%aa%d8%a7%d9%86-%d8%ae%d9%8a%d9%88%d8%b7-%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%b9%d8%a8%d8%a9-%d8%aa%d8%aa%d8%a8%d8%af%d9%84-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%a8%d8%a7%d9%83-%d8%aa/?highlight=%D8%A3%D9%81%D8%BA%D8%A7%D9%86%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86

مستقبل أفغانستان في ظل حكم طالبان

تمثل عودة طالبان إلى الحكم مرة أخرى بعد 20 عاما انتصارا ساحقا للحركة بشكل خاص، وللجهادية العالمية بشكل عام، حيث يثبت فشل العقيدة الدولية بمكافحة الإرهاب، ويؤكد على قوة الجماعات الإرهابية جماهيريا وواقعيا على الفوز بالسلطة في الدول الهشة المفرغة من الإرادة السياسية أو استراتيجية تنمية قوية، وينذر بواقع راديكالي يسوده الرجعية الفكرية.

منذ بدء الهجوم، لقى أكثر من 5500 مدني مصرعهم من بينهم نساء وأطفال، كما أدى سقوط 10 معابر حدودية أمام طالبان إلى توقف التجارة وارتفاع أسعار السلع الأساسية، أيضا، دمرت طالبان أكثر من 260 مبنى عامًا بما في ذلك المدارس والمستشفيات والجسور وأبراج الاتصالات، بحيث بلغت خسائرها 500 مليون دولار، وحرمت 13 مليون شخص من الخدمات العامة، وهذا يعني تراجع مستوى الخدمات الأساسية للمواطنين، وإحلال استراتيجية العنف في مواجهة الرافضين لحكم طالبان، والذي سيؤدي بطبيعة الحال إلى نزوح العديد من المواطنين.

ومن المرجح أن تفرض طالبان أيدولوجيتها المتطرفة على كامل أركان الدولة، وإلغاء مظاهر التمدن، وضياع مكتسبات الديمقراطية، إذ جرت 4 انتخابات منذ 2001، بحيث تتحول أفغانستان إلى كيان تنظيمي متشدد، مما يشكل تهديدا واضحا للدول المجاورة.

يتوقع مراقبون أن تهادن بعض الدول الغربية -على غرار الصين وروسيا – حركة طالبان بهدف تحقيق مصالحها التي علقها الوجود الأمريكي طوال هذه الفترة، حيث أعلنت موسكو أنها لن تغلق سفارتها في أفغانستان، كما صرح المتحدث باسم السفارة الروسية في كابول أن موسكو مستعدة للتعاون مع حكومة مؤقتة في أفغانستان.