نحن الآن في أحد أيام آواخر ستينيات القرن الماضي. في قرية سبيروان بمقاطعة بنجواي التابعة لإقليم قندهار، يصطحب الإمام آخوند زاده نجله هيبة الله إلى المسجد، كما اعتاد، لتلقي علوم الدين والفقه حيث عمل والده. كان هيبة الله صبيا هادئا وخجولا أظهر ذكاء كبيرا وقدرة على تحصيل مختلف العلوم.

أُعّد هيبة الله للسير على خطى والده كجزء من اكتساب المكانة الاجتماعية ضمن قبيلة نورزاي -تعني بالعربية أبناء النور- وهي من زعامات العرق البشتوني القبلية التي تمتد أصولها إلى الدرانية، وهي السلالة التي أنشئت أول كيان سياسي أفغاني مستقل تحت قيادة أحمد شاه دراني مع منتصف القرن الثامن عشر.

لم تمتلك الأسرة أي أرض أو بساتين خاصة بها، واعتمدت على ما يدفعه المصلون للإمام الوالد نقدا أو محصولا. بغض النظر عن ذلك لا نعرف الكثير عن طفولة هيبة الله. ولكن ما نعرفه أنه بعد نحو خمسين عاما سيكون زعيما لتنظيم إسلامي متشدد، وتحت قيادته ستعود الحركة المتمردة لحكم أفغانستان مجددا، أو هي على مشارف ذلك الآن، بل يمكن القول إنها ستعيد تشكيل خريطة التحالفات الجيوسياسية في منطقة آسيا الوسطى، بعد عقدين من حرب أنهكت فيها القوى العظمى.

 

الطريق إلى كابول

المتتبع لأخبار أفغانستان لاحظ تناقصا تدريجيا في عدد الكيلومترات نحو العاصمة كابول خلال فترة زمنية قصيرة، والآن وصلت طالبان إلى العاصمة بعدما سيطرت في طريقها على ما يزيد عن ثلثي البلاد، في إطار الحملة العسكرية التي شنتها في أعقاب انسحاب القوات الأمريكية.

ذلك التسارع على الأرض خفض المدة التي توقعت تقارير الاستخبارات الأمريكية فيها وصول طالبان للحكم من عامين إلى ستة أشهر، ثم ثلاثة أشهر فعدة أيام، وحاليا أصبحت مجرد عدة ساعات. الرئيس أشرف غني أعلن استقالته وفر خارج البلاد، ومسلحو طالبان دخلوا إلى كابول للسيطرة على الأوضاع. طالبان عادت إلى الحكم من جديد.

هذا التقدم السريع للحركة، التي تولت حكم البلاد خلال الفترة من 96 إلى 2001 قبل السقوط في أعقاب الغزو الأمريكي، لم يتوقعه أشد المتشائمين، وأتى في إطار رؤية استراتيجية جديدة صاغتها الحركة خلال الأعوام الماضية؛ تحاول فيها أن تبدو كمن ينزع رداء التشدد ويرتدى لباس الاعتدال في اختيار للنهج البراجماتي بدلا من نهجها الراديكالي السابق؛ تماهيا مع شروط اكتساب الشرعية دوليا، ومن ضمنها التطمينات  والتفاهمات مع القوى الإقليمية المحيطة بها.

زاد على ذلك النهج المؤسسي الذي عملت به الحركة، والذي يرجع الفضل فيه إلى قائدها هيبة الله آخوند زاده، ليس باعتباره قائدا كاريزميا كمؤسسها الملا عمر، أو قائدا عسكريا كالملا محمد اختر منصور، بل كعالم ديني هادئ ومتواضع لا يظهر كثيرا ولا يتحدث كثيرا وإنما يعطي العيش لخبازه، مثلما يقول المثل. لذا يلعب نواب “أمير المؤمنين” أدوارا سياسية وعسكرية مختلفة، سنتطرق لها.

يؤكد على ذلك دراسة لمعهد الولايات المتحدة للسلام (حكومي)، يوضح فيها التطورات الهيكلية التي طرأت على الحركة، ويقول ضمن ملخصه: “يُظهر عدد قليل من حركات التمرد هذا المستوى من التنظيم، واتخاذ القرارات الهرمية، وتماسك السياسة. قليل من حركات التمرد لديه سياسات تعليمية مفصلة أو قادرون على تجميع وتنظيم الخدمات التي تقدمها الدولة بشكل متماسك إلى الحد الذي تمكنت فيه طالبان من ذلك”.

لكن هذه الصورة المُتكيّفة مع العوامل الخارجية والمحلية التي تقدمها الحركة وزعيمها لن تبدو كذلك عند التطرق لمسيرة هيبة الله زاده، الذي كان لفترة زمنية طويلة المُنظّر الفقهي والشرعي للحركة ومصدر فتاويها المتشددة، وفي نفس الوقت صوت الاعتدال والتوازن داخلها.

سيرة الشبح

في تقرير سابق لصحيفة “تليجراف” البريطانية، وصف مسؤول أمني هيبة الله بـ”الشبح” الذي ينظر إليه بعض السكان كأسطورة. لا يظهر كثيرا ولا يحب مقاطع الفيديو الدموية واستعراض السلاح بتهور، ويوجه النقد لأفراد تنظيمه إذا ما بالغوا في العنف وقطع الرقاب.

“مولوي هيبة الله هادئ ومتفهم، ورمز للأدب ولطالما عاش بأسلوب حياة متواضع” يقول حاجي آكا، وهو شيخ من قرية ريجي في إقليم قندهار، لصحيفة “نيويورك تايمز”.

كعالم ديني لا يتمتع هيبة الله بخبرة عسكرية كبيرة لكن كغيره من المجاهدين الأفغان شارك في القتال ضد القوات السوفيتية. وبدايته السياسية الحقيقية كانت عندما انضم إلى طالبان عام 1994، أي في عام تأسيسها. وعندما سيطرت الحركة على ولاية فرح غرب أفغانستان، تولى هيبة الله مهمة القضاء على الجريمة فيها، قبل أن يعين قاضيا للمحكمة العسكرية في قندهار، ثم في ولاية نانجرهار. وبعد بسط طالبان سيطرتها الكاملة على أفغانستان عام 1996، تولى رئاسة المحكمة الإسلامية العليا، وتنسب إليه العديد من الأحكام القاسية الصادرة عن الحركة آنذاك.

كان هيبة الله مقربا من الملا عمر وفي عام 2001 مع إسقاط الأميركيين حكومة طالبان، أصبح رئيسا لمجلس العلماء في الحركة. ظل الرجل في الخلفية كمستشار مقرب وساهم في المبادئ التوجيهية الداخلية لطالبان بشأن التعليم والانضباط. ويشير أحد أفراد الحركة إلى الانتقادات التي وجهها هيبة الله إلى بعض من مسؤولي الحركة في حكومة الظل التي تشكلت بعد السقوط، قائلا لهم: “هل تعرفون لماذا يدعم الناس الميليشيات الحكومية؟ ثم أشار بأصابع الاتهام إلى المحافظين وقال:  هذا لأنكم قطعتم رؤوسهم لتلقي مساعدة بسيطة من وكالة إغاثة”.

وبصفته أحد المشكّلين لأيديولوجية طالبان كان للمولوي –لقب ديني يعني المؤهل تأهيلا عاليا للفقه وهو أعلى من المُلا- مكانة عالية بما يكفي لاستهدافه بالاغتيال. الملا إبراهيم، طالب هيبة الله، يتذكر محاولة اغتياله عام 2012 والتي ألقت طالبان باللوم عليها في وقت لاحق على وكالة المخابرات الأفغانية.

ويسترجع الملا إبراهيم “خلال إحدى محاضراته في كويتا، وقف رجل بين الطلاب وصوب مسدسا على هبة الله من مسافة قريبة، لكن المسدس كان عالقا.. كان يحاول إطلاق النار عليه لكنه فشل، لم يتحرك هيبة الله في هذه الأثناء. قبل أن يهرع رجال طالبان للتصدي للرجل”.

الملا عمر

قيادة وتوحيد

مع وفاة الملا عمر أصبح زاده نائبا لمحمد اختر منصور، ووضع حينها نظاما يتم بموجبه تشكيل لجنة برئاسة حاكم الظل في كل محافظة يمكنها التحقيق مع القادة أو المقاتلين المسيئين، بحسب الملا عبد الباري، أحد عناصر طالبان وقائد في ولاية هلمند. كان ذلك قبل تولي قيادة الحركة مع اغتيال منصور في غارة جوية مايو 2016.

وتقول تقارير إعلامية إن تعيين آخوند زاده وقتذاك تم بسرعة لتجنب المزيد من الخلافات داخل طالبان. وأولى مهماته كانت لم شمل الحركة والقضاء على الخلافات التي نشبت بعد مقتل الملا محمد عمر، والتي أجبرت الحركة على إخفاء خبر وفاته لعامين.

تذكر “بي بي سي” أن تعيين زاده تم من قبل شخصيات بارزة في طالبان يقال إنهم التقوا في مكان ما بالقرب من كويتا في باكستان. ومجلس كويتا بمثابة مجلس شورى للحركة ويضم أهم الأعضاء في الحركة، وبحسب جرزاي خواكوجي، المعلق السياسي الذي عمل في المخابرات لفترة من الوقت تحت حكم طالبان: “عاش [هيبة الله آخوند زاده] معظم حياته داخل أفغانستان وحافظ على علاقات وثيقة مع مجلس شورى كويتا”.

وفي محاولة أولية للسيطرة على الخلافات داخل الحركة، كان تعيين كلا من الملا محمد يعقوب وسراج الدين حقاني، كنائبين له أولى القرارات التي اتخذها. والأول هو نجل المؤسس الملا عمر ويتمتع بشعبية كبيرة داخل الحركة وعلاقات وثيقة مع قادتها، أما الثاني فهو قائد شبكة حقاني التي تصنفها الولايات المتحدة إرهابية والمسؤولة عن العديد من التفجيرات الانتحارية داخل أفغانستان، وقد كان حقاني نائبا كذلك لمحمد اختر منصور.

وقد شرح البروفيسور عديل خان، محلل الأمن والدفاع الإقليمي الذي يدرّس في جامعات أوروبية وباكستانية، أهمية هذا القرار وما وراءه من رغبة تنظيمية، موضحا أن هذا الترتيب يعني “بالنسبة لجميع الأمور السياسية والدينية والدبلوماسية سيكون هيبة الله معنيا بذلك، أما الأمور العسكرية فإن حقاني هو من سيصدر القرارات، لكن لن تكون له السيطرة المطلقة. سيعملون من خلال قائدين من طالبان يقودان وحدات عسكرية مهمة في هيكل طالبان: لجنة كويتا العسكرية في الجنوب ولجنة بيشاور العسكرية في الشمال.

وبحسب خان، فإن لجنة كويتا، التي تسيطر على جنوب وغرب أفغانستان لديها أربعة قادة مناطق إضافيين، بينما تضم ​​لجنة بيشاور ستة قادة مناطق إضافيين يسيطرون على شمال وشرق البلاد. وهم قادة مستقلون تماما وينتمون إلى قبائل مختلفة. فيما ينظر بعض المحللين إلى تولي الملا يعقوب لرئاسة اللجنة العسكرية باعتباره كان مجرد إجراء رمزيا نظرا لمكانة والده، وفقا للوكالة الفرنسية.

وفي عام 2018 ومع خروج الملا عبد الغني برادر، أحد مؤسسي الحركة وقائدها العسكري قبل اعتقاله عام 2010 في باكستان، تم تعيينه رئيسا لمكتبهم السياسي في العاصمة القطرية الدوحة، ليصبح المسؤول السياسي الأول، ومن هناك قاد المفاوضات مع الأميركيين التي أدت إلى انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان ثم محادثات السلام مع الحكومة الأفغانية التي لم تسفر عن شيء.

دماء العائلة تكسبه احتراما متزايدا

في يوليو من عام 2017 أعلنت حركة طالبان أن نجل زعيمها توفي في هجوم انتحاري في ولاية هلمند بجنوب أفغانستان.

وقال قاري يوسف أحمدي المتحدث الرئيسي لطالبان في جنوب أفغانستان إن عبد الرحمن (23 عاما) والمعروف أيضا باسم حافظ خالد لقي حتفه وهو يقود سيارة محملة بالمتفجرات داخل قاعدة عسكرية أفغانية في بلدة جريشك شمال عاصمة الإقليم لشقر جاه.

وقال عضو بارز في طالبان، مقرب من عائلة هيبة الله، لوكالة رويترز، إن عبد الرحمن كان انتحاريا قبل أن يصبح والده زعيما لحركة طالبان وأصر على الاستمرار بعد أن تولى والده منصبه. “قبل ذلك، قام عدد من أقارب وأفراد عائلات قادة سابقين بتفجيرات انتحارية، لكن الشيخ أصبح أول زعيم أعلى ضحى ابنه بحياته”.

لاحقا وفي عام 2019 قُتل شقيق آخوند زاده، حافظ أحمد الله مع ثلاثة آخرين في انفجار بمسجد يقع على بعد 25 كيلومترا من كويتا. وأصيب نجل هيبة الله الآخر في الحادث الذي وقع بالمسجد الذي اعتاد هيبة الله نفسه أن يؤم الصلاة هناك، حسبما أفادت تقارير وقتذاك.

أكسبت دماء العائلة احتراما متزايدا للمولوي داخل الحركة باعتباره فردا غير خاضع للاستثناءات، ومستعدا للتضحية مثله مثل غيره، حتى أن شائعات اغتياله ووفاته ظلت تطارده طوال فترة توليه قيادة الحركة.

تطور هيكلية الحركة

يقول محللون إن هيكل القيادة الحالي لطالبان قد تطور بدافع الضرورة منذ عام 2001 من منظمة غير متماسكة لقادة الميليشيات المحلية إلى حركة سياسية وعسكرية أكثر تنظيما. جاءت التغييرات القيادية الرئيسية ردا على النزاع الذي قسم حركة طالبان إلى فصائل متنافسة بعد وفاة المؤسس الملا عمر. في الواقع، هذه الانقسامات هي امتداد لصراع طويل الأمد على السلطة على أساس الهياكل القبلية البشتونية، بحسب ما تحلل “إذاعة أوروبا الحرة”.

ووصفت الدراسة التي أجراها معهد السلام الأمريكي، وتطرقنا لها سابقا، كيف حسَّنت طالبان هيكلها القيادي بعد وفاة الملا عمر لتهدئة الانقسامات بين الفصائل. وقالت إنه من خلال إنشاء حركة عسكرية وسياسية موحدة تمكنت طالبان من الاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي وحكمها. وللقيام بذلك، أُنشئ نظام حكم طالبان في الظل وهي خطوة سمحت للقادة العسكريين من مختلف الفصائل بتعيين مسؤولين في حكومة الظل في الأراضي الواقعة تحت سيطرتهم.

وخلصت إلى أن حوكمة الظل في طالبان كانت “غير متساوية ومخصصة. وأنتجت قواعد مختلفة شكلتها تفضيلات القادة الفرديين والتقاليد المحلية  وقوة طالبان في المجتمع”. وأضافت أن جهات فاعلة متعددة، من قيادة طالبان إلى القادة المحليين، لعبت دورا رئيسيا في خلق وتشكيل سياسة الحركة في أفغانستان. “لقد كان صنع سياسة طالبان من أعلى إلى أسفل بقدر ما كان من القاعدة إلى القمة، مع قيام القيادة بتشكيل القواعد بقدر المقاتلين والقادة على الأرض”.

حركة طالبان تواصل تقدمها في إعادة سيطرتها على أفغانستان

تيد كالاهان، المستشار السابق للقوات الخاصة الأمريكية في شمال أفغانستان، يرى أن السؤال الرئيس الذي يؤثر على مستقبل أفغانستان هو ما إذا كانت طالبان، للمضي قدما، ستكون قادرة على الحفاظ على هيكلها الحالي للقيادة والسيطرة. ويتساءل “هل ستعزز ذلك أم أنها ستعمل على تحقيق اللامركزية حتى نرى إقطاعيات طالبان التي تتماشى مع المنطقة أكثر بكثير مما هي عليه على الصعيد الوطني؟”.

ويشير، في حديثه مع إذاعة أوروبا الحرة، إلى التغيّرات العرقية التي طرأت على الحركة “لم تعد حركة عرقية قومية بشتونية، إنها أكثر تنوعا بكثير مما كانت عليه في التسعينيات”، وهو ما يتفق معه بيل روجيو، الزميل البارز في معهد الدفاع عن الديمقراطيات “هناك عدد كبير من الأوزبك والطاجيك، وحتى التركمان وفي بعض الحالات حتى من عرقية الهزارة الأفغان وهم جزء من طالبان اليوم. لقد حققت طالبان غارات عميقة في هذه المجتمعات في السنوات الأخيرة. هذا فرق كبير بين طالبان اليوم وطالبان قبل هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية”.

الآن وصلت طالبان إلى القصر الرئاسي، وتسلمها السلطة رسميا بات مسألة وقت ليس أكثر. تتقافز الأسئلة إلى الذهن: هل تعيد إنتاج سياساتها المتشددة من جديد أم تحاول بناء توافق حول مشروع وطني؟ هل ستكون قادرة على إدارة علاقاتها الإقليمية بتوازن واعتدال أم تعود منصة لتصدير الجهاديين؟ هل ستكون قادرة على فرض الاستقرار أم تعمّق الانقسامات؟

في القلب من هذه الأسئلة يجدر التساؤل، هل يصبح هيبة الله قائدا علنيا لأفغانستان أم يُفضل الصورة التي رُسمت له كشبح لا يحب الظهور وعالم ديني مبجل؟ فقط الأيام قادرة على كشف كل التساؤلات.