تثير مسألة تسليم الرئيس المخلوع عمر البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية الكثير من الجدل السياسي والقانوني على مستوى الشارع السياسي السوداني. كما أنها تعكس حالات اصطفاف بين قوى الثورة السودانية. وقوى النظام القديم، فضلا عما يمكن أن تسببه مسألة تسليم البشير من شرخ بين المكونين العسكري والمدني. وذلك في ضوء انتساب البشير للمؤسسة العسكرية السودانية. وقيام القوات المسلحة السودانية بعملية استعراض قوة محدود في شوارع الخرطوم بعد يوم من اتخاذ قرار مجلس الوزراء بتسليم البشير. وأخيرا فإن تسليم رئيس دولة للمحاكمة خارج بلاده لابد وأن يكون له الكثير من التداعيات الداخلية والإقليمية والذي يمكن وصفه بالأزمة.
وعلى المستوي المحلي وقع مجلس الوزراء السوداني منفردا مذكرة تفاهم مع المدعي العام الجديد للمحكمة الجنائية الدولية كريم أسد خان. تقضي بتسليم أشهر ثلاثة متهمين مطلوبين أمام الجنائية الدولية في قضية الإنتهاكات ضد الإنسانية التي تم ارتكابها بإقليم دارفور. وهم الرئيس عمر البشير ووزير دفاعه عبد الرحيم حسين أحمد هارون. الذي شغل العديد من المناصب في عهد البشير منها وزير دولة في وزارة الداخلية ونائب للرئيس في إدارة الحزب الحاكم، وذلك قبيل خلع البشير.
قرار مجلس الوزراء السوداني الذي دعمته الولايات المتحدة الأمريكية فورا. لن يكون ساريا إلا باجتماع المكونين العسكري والمدني طرفي الحكومة الانتقالية. وذلك تحت مظلة المجلس السيادي حيث سيتم اتخاذ القرار بالتصويت. بحيث يتحمل كل طرف مسئولياته على الصعيد الدولي.
وحتى يتم اتخاذ القرار يمكن رصد ملامح الجدل الراهن في عدد من النقاط منها ما هو قانوني وهو غالب لدي رموز النخبة القانونية للنظام القديم. حيث يجدون أن تصديق السودان على ميثاق الجنائية الدولية الذي جرى مؤخرا. مفترض ألا يسري على المطلوبين الحاليين استنادا على قاعدة “أنه لا يجوز التطبيق القانوني بأثر رجعي”. فضلا عن كون طلب الجنائية الدولية محاكمة البشير تم بناء على اتفاق ثنائي بين مجلس الأمن والجنائية الدولية. يخالف في تقدير فريق البشير القانوني اتفاقية فينيا للمعاهدات. وهؤلاء يلصقون بقرار مجلس الأمن ١٥٩٣ العوار باعتباره قد صنف أزمة دارفور بلا مسوغ في نظر هؤلاء بالمهددة للأمن الإقليمي والدولي.
أما على المستوى السياسي فإن هؤلاء يروجون أن قرار تسليم الرئيس المخلوع إلى هو محاولة من مجلس الوزراء السوداني. برئاسة عبدلله حمدوك للتغطية على فشله في حل المشاكل اليومية للسودانيين على الصعيد الاقتصادي. أو انحيازا لدوائر المنظمات الغربية.
فريق القوي الثورية الداعم لتسليم البشير وعلى رأسه وزير العدل نصر الدين عبد الباري المنحدر من دارفور. يحاجج بأن تحقيق العدالة الناجزة للضحايا، تتطلب تسليم البشير وذلك في ضوء أن القضاء السوداني. غير مؤهل للتعاطي مع هذ القضية في ضود أمرين الأول هو الإطار التشريعي. حيث خلت القوانين السودانية حتى عام ٢٠٠٥ من نصوص تجرم جرائم الحرب، أو ممارسة الانتهاكات ضد الإنسانية في النزاعات المسلحة. فضلا عن غياب جسم المحكمة الدستورية في السودان حتى هذه اللحظة. فضلا عن كون مسألة تسليم المطلوبين للجنائية الدولية هو التزام حكومي في ضوء اتفاقية جوبا للسلام التي تم توقيعها في ٢٠٢٠ مع الحركات الدارفورية.
أما على المستوى التطبيقي فإن الحكومة الانتقالية لم تستطع أن تبلور ضد البشير لائحة اتهام تناسب جرائمه السياسية والإنسانية. وقزمت الاتهامات ضده لتكون فقط اتهامات بالفساد المالي وحيازة عملات أجنبية بكم كبير.
وعلى المستوى السياسي السوداني قد تكون هناك أطراف تسعى لتوظيف مسألة تسليم البشير مثل محمد حمدان دقلوى (حميدتي). قائد قوات الدعم السريع الذي طرح مسألة التعاون مع الجنائية الدولية. رغم أن الرجل متهم بارتكاب فظائع إنسانية في دارفور. وكان قائدا للجنجويد الذين مارسوا تنكيلا بالمدنيين على كافة المستويات. ولكن حميدتي بذكائه السياسي النافذ وانتهازيته. المعروفة يعلم أن المجتمع الدولي وخصوصا واشنطن قد تستخدمه ضد إرادة المؤسسة العسكرية الرسمية. بل وابتزازها وهي المؤسسة التي تقاوم مسألة تسليم البشير باعتباره منتسبا لها. وتعتبر أنها مسألة سيادية.
وعلى المستوى الإقليمي هناك مقاومة معلنة من جانب الاتحاد الأفريقي للجنائىة الدولية والتي يتهمها الاتحاد. بأنها محكمة لا تدين إلا الأفارقة وتتجاهل الفاسدين حول العالم. حيث اتخذ الاتحاد الأفريقي قرارا في فبراير ٢٠١٧. بانسحاب دوله بشكل جماعي من المحكمة الجنائية الدولية. بعد أن كان وقع على ميثاق روما ٣٤ دولة أفريقية ولكن قادت كل من جنوب أفريقيا وبوروندي حملة التمرد ضد الجنائية الدولية. وانسحبتا من قبل اجتماع قمة الاتحاد الأفريقي، واتهمتا المحكمة بالاستهانة بسيادتهما واستهداف الأفارقة بشكل غير عادل.
بطبيعة الحال هذا القرار غير ملزم لأي دولة أفريقية عضو في الاتحاد حيث إن لها الحق بإرادتها المنفردة الالتزام بقرار الاتحاد الإفريقي أو عدم الالتزام. خصوصا وأن دولا كبرى في إُفريقيا كنيجيريا السنغال قد اعترضتا على قرار الاتحاد الأفريقي، وها نحن نشهد تصديقا من جانب السودان.
في هذا السياق ربما تكون هناك مقاومة غير معلنة أيضا من جانب نادي قادة ورؤساء دول الشرق الأوسط. الذينن لايريدون أن يروا أحد أعضاء النادي السابقين يتم محاكته وربما إهانته على الصعيد الدولي.
وربما يكون من المهم الاعتراف أن مسألة تسليم رئيس دولة لسلطان خارجية هي مسألة جارحة بشكل أو بآخر لسيادة الدول خصوصا في محيط منطقتنا التي تعتبر الغرب عدوا. خصوصا وأن سعيه لتطبيق العدالة أو حقوق الإنسان غالبا ماكان مرتبطا بمنظومة مصالحه الخاصة. وأبدا لم يكن مجردا، ولعل هذه المعادلة تكون مؤثرة بشكل ما على الصعيد المحلي السوداني. وتكون سببا في إثارة قلائل سياسية يتزعمها الإسلامويون السودانيين الذين مازالوا يشكلون قاعدة اجتماعية لا يستهان بها.
في هذه السياقات ربما يكون من المرجح عدم تسليم البشير أو وزير دفاعه للمحكمة الجنائية الدولية نظرا لانتسابهما للمؤسسة العسكرية. ومن المتوقع أن يتم اللجوء إلى سيناريو المحكمة الهجين أي يكون مقر المحكمة هو العاصمة السودانية الخرطوم. وأن تكون المحكمة الجنائية الدولية شريكا للقضاء السوداني في هذه المحاكمة.
ولعل هذا السيناريو ينقذ أطرافا كثيرة من أزمة كبيرة متوقعة، خصوصا علي الصعيد المحلي فهي من ناحية تجنب السودان تجاذبا سياسيا له آثار بعيدة المدى. ومؤثرة على عافية الدولة، كما أنها تجنبه إمكانية توظيف واشنطن لدقلو ضد القوات المسلحة السودانية. وهو تطور أن حدث سيكون مرعب النتائج.
هذا السيناريو من المرجح أن يكون مقبولا أيضا من دوائر المحكمة الجنائية الدولية المجروحة أصلا من أطراف تعتبرها أحد أدوات الغرب. ضد دول العالم الثالث خصوصا وأن أهم دولة مساندة للجنائية الدولية ليست عضوا فيها. وهي الولايات المتحدة الأمريكية بينما تستخدم هي المحكمة سياسيا.
وطبعا سيكون هذا السيناريو سيكون مناسب للاتحاد الأفريقي على الصعيدين السياسي والأخلاقي فرغم موقفه من المحكمة. إلا أنه لا يمكن أن يدعم مسألة الإفلات من العقاب أو التضحية بحقوق ضحايا دارفور في عدالة ناجزة.