يبدو أن المسكنات والتسويات التي قامت عليها الدولة اللبنانية في أغلب مراحلها لم تعد قابلة للاتئام، بعد أن مزقتها أهواء الزعماء، فجعلوها ساحة للصراعات الإقليمية.

يمر لبنان بمشهد شديد السوء، يعيش فيه الشعب تحت وطـأة ظروف اقتصادية وسياسية وصحية غير مسبوقة. ربما لا يوازيها إلا زمن الحرب الأهلية. ما بين انقطاع للكهرباء بشكل شبه دائم، وغلاء في أسعار المازوت، والمواد الغذائية بشكل جنوني، وسعر للدولار هو الأعلى عالميا.

وما بين حادث المرفأ، الذي لم يستدل على فاعله، وكارثة عكار، ينفجر المشهد الذي أرهقه الفساد وغذته الطائفية. مخلفا مئات القتلى والضحايا من المواطنين.

وفي تاريخ الأزمات اللبنانية تختلط الأسباب الداخلية وعواملها الاجتماعية والسياسية. بأخرى خارجية، تعتمد على المزاج الإقليمي، وإرادة الأوصياء.

100 عاما على إعلان الدولة

100 عام ونيف على إعلان دولة لبنان الكبير من قبل السلطة الفرنسية المنتدبة على لبنان وسوريا. ذلك اليوم الذي وقف فيه الجنرال جورو. قائد قوات الاستعمار الفرنسي في الشرق. وعلى جانبيه البطريرك الماروني والمفتي. ليعلن عن قيام لبنان الكبير، مستقلاً عن سوريا التي كانت بدورها تحت الانتداب الفرنسي.

ومع ذلك وبعكس ما يقول بعض القوميين فإن لبنان بلد موغل في القدم. وإن اختلفت حدوده من زمن إلى آخر. ربما ما اختلف عليه هو أنظمة التوزيع الطائفية. التي طالما كانت عاملا من عوامل هشاشة الدولة.

وكثيرا ما قادت هذه التوزيعات إلى دعوات بانفصال لبنان. وفي العصر الحديث دعا أنطوان نجم عام 1979 علنا إلى وطن للمسلمين وآخر للمسيحيين. وقبله وفي عام 1975 صاغت لجنة البحوث في جامعة الكسليك تلك الفكرة. وطالب الأباتي بولس نعمان بالكونفدرالية على أساس الطائفة لا على أساس الإقليم الجغرافي.

كما تقدّمت “الجبهة اللبنانية” التي فجّر أقطابها الحرب الأهلية في سنة 1975 بورقة وقّعها كميل شمعون وبيار الجميّل بعنوان “جمهورية لبنان الفيدرالية”.

كما أعلنت “القوات اللبنانية” مشروعًا يدعو إلى دولة اتحادية في لبنان،. ونشرت جريدة السفير وثيقة للقوات. تدعو إلى تأسيس جيشين في لبنان، واحد للمسلمين والآخر للمسيحيين، على أن يُقسّم لبنان إلى ست عشرة محافظة مناصفة بين الجماعتين.

فهل التقسيم حل؟

استقل لبنان عن الانتداب الفرنسي في 22 نوفمبر 1943. انطلاقاً من اتفاق أطلق عليه الميثاق الوطني. صاغه المسيحي بشارة الخوري، والمسلم رياض الصلح، وهي الكتلة التي كانت تميل للتعاون مع الدول العربية. ونجحت في الانتخابات بعكس الكتلة المنافسة التي كانت تميل إلى فرنسا، فالاستقطاب كان حاضرا ومنذ اللحظة الأولى، كنتاج لفترة الاحتلال الفرنسي.

 

ونص الاتفاق العرفي بالأساس على أن يكون رئيس الجمهورية مارونيا، فيما بتقلد منصب رئيس الوزراء مسلما سنيا، أما رئيس مجلس النواب فهو مسلما ينتمي إلى المذهب الشيعي، فرسخ للطائفية بشكل رسمي، وعملي.

ومع ذلك توترت الأوضاع وانفجرت لأكثر من مرة. فالاتفاق لم يكن كافيا خاصة بالنسبة للمتطرفين من الجهتين، سواء الذين تذيلوا الفرنسيين من المسيحية، او المنادين بالانضمام على سوريا من المسلمين، زاد هذا التوتر دخول الاحتلال الإسرائيلي على الخط.

لاحقا اصطدم النظام نفسه بثورة 1958 في عهد الرئيس السابق كميل شمعون، وانتهت بانتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية ورشيد كرامي رئيساً للحكومة تحت شعار “لا غالب ولا مغلوب”.

الغليان الداخلي والمرتبط بالتحالفات الإقليمية أشعل آتون الحرب، فاتخذت الأزمة اللبنانية بعداً طائفياً ومذهبياً حادا اندلعت على إثره الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975 واستمرت حتى العام 1990 قبل أن تنتهي باتفاق الطائف وإسقاط رئيس الحكومة العسكرية بقيادة العماد ميشال عون.

اتفاق الطائف

اختلف الأوصياء خلال اتفاق الطائف وتوزع الدم اللبناني بين سوريا، والسعودية، وإيران. يشرف عليهم الولايات المتحدة والغرب بشكل عام. فيما يعمل كل زعيم على إرضاء وصيه، وخدمة مصالحه الشخصية.

اتفاق الطائف
اتفاق الطائف

وبعد انتهاء الوصاية السورية على لبنان، عام 2005. وفي أعقاب اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري. بدأ الانقسام يأخذ أشكالا أخرى، وللدقة معسكري 14 و8 آذار. ليهيمن حزب الله تدريجاً على المشهد السياسي بدعم إقليمي واضح من إيران والنظام السوري بعد أن انقلب على طاولة الحوار الوطني عام 2006.

ومن بعد حرب 2006. والدعم العربي الشعبي الذي قابله الحزب في مواجهة الاحتلال، بدأ الحزب في فرض نفسه على الحياة السياسية بفضل تسلحه، الذي تحول من المقاومة إلى ترهيب الداخل، واقتحم في مايو 2008 بيروت واحتل المطار.

نجح الحزب بعدها وخلال مؤتمر الدوحة في فرض سلاحه بشكل رسمي على المعادلة اللبنانية السياسية، إذ وافق على وجوده الأطراف المتفاوضة طمعا في تسوية مؤقتة جديدة، تساهم في استقرار الوضع المشتعل بالأساس.

دولة هشة 

الباحثة في الشأن اللبناني كريستيانا بايرا تقول في أحد مقالاتها: منذ أن نالت الدولة اللبنانية استقلالها عام 1943. وهي موجودة فقط بالحد الأدنى على نحو يدعو للدهشة. فقد فشلت في تقديم مستويات مُرضية من الرعاية الاجتماعية والخدمات العامة.

إذ يحتل لبنان، وفقاً لشركة الاستشارات ماكينزي. المرتبة 113 من أصل 137 بلداً من حيث جودة البنية التحتية، ويُصنَّف تأمينه للكهرباء كرابع أسوأ بلد في العالم وفقاً لمؤشر التنافسية العالمية للمنتدى الاقتصادي العالمي، وكذلك مدارسه العامة، ومستشفياته التي أعلنت خلال انفجار عقار عدم وجود أي إمكانيات طبية لديها لعلاج المصابين.

أما سياسيوه، وهم الطبقة الأغنى والأكثر رفاهية، فيتحكمون في الجماهير عبر الخدمات الخاصة، والمحسوبيات، فتفتتح إيران عبر حزب الله مدارس خاصة بالشيعة، على سبيل المثال، أو يتم تعيين الموظفين بتوصية من الحريري، المدعوم من السعودية والوضع نفسه في المناطق المسيحية، ليصبح وجود الدولة بمعناه المفهوم محل شك.

فساد دون محاسبة

ويستمر الفساد دون حساب. فالجميع يخشى الجميع. ومع ذلك لا تكاد أن تجد تلك الطائفية في حياة الناس اليومية، فقط تجدها في أحاديث الزعماء، وهو ما يدفع بعض المحللين إلى القول قد تكون الدولة فاشلة لكن العيش المشترك لازال ممكنا.

في تقرير لصحيفة الجارديان البريطانية ذكر مسؤولون لبنانيون وعضوان في فريق قاد مفاوضات مع صندوق النقد الدولي في محاولة لتقديم مليارات الدولارات من المساعدات المالية للبنان. أن شبكات المحسوبية التي أدارت الدولة وأغنت قادتها ينظر إليها على أنها أهم من حماية البلد من خطر الانهيار.

غضب شعبي من الانهيار الاقتصادي في لبنان
غضب شعبي من الانهيار الاقتصادي في لبنان

وفي التقرير نفسه قال أحد المسؤولين اللبنانيين: “عندما يختصر المشهد الآن، فإنها فعلا ساعة الحساب.. إذا دمرت ما تم بناؤه منذ سنوات الحرب الأهلية، فنحن نستعد لدخول غمار صراع آخر، ويمكن للأمر أن يجعل من عام 1982 يبدو وكأنه عرض جديد”.

حينها قال دبلوماسي أوروبي رفيع “لم نعتقد أن الأمر سيكون صعبا.. كنا نتوسل إليهم أن يتصرفوا كدولة طبيعية، لكنهم يتصرفون معنا وكأنهم يبيعوننا سجادة”.

وعن وضع الدولة الهش يقول البنك الدولي “هذه الظروف لا يمكن أن تدوم، إذ إنه بدون إصلاحات سياسية واقتصادية كبيرة، فإن اتساع رقعة الاضطرابات السياسية والاجتماعية أو تفاقمها ليس مستبعدا”.

مضيفا “ليست المظاهرات الشعبية وأنشطة الحقوق المدنية التي شهدتها البلاد مؤخرا- والموجهة ضد الطبقة السياسية- سوى أحد مظاهر ذلك. ومن ثم، يحتم على واضعي السياسات التصدي للأزمات الهيكلية المزمنة في لبنان وبشكل عاجل”.

أزمة اقتصادية 

ويقدّر البنك الدولي أنه “في عام 2020، انكمش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 20.3%، بعد انكماشه بنسبة 6.7% عام 2019. وقد انخفضت قيمة إجمالي الناتج المحلي للبنان من حوالي 55 مليار دولار أميركي عام 2018 إلى ما يُقدّر بنحو 33 مليار دولار أميركي عام 2020، في حين انخفض نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بنحو 40% من حيث القيمة الدولارية”.

وانخفض متوسط سعر الصرف. الذي يحتسبه البنك الدولي بنسبة 129% عام 2020. وأدى التأثير على الأسعار إلى ارتفاع التضخم. حيث بلغ متوسطه 84.3% عام 2020، كما أن الأرقام مرشحة للارتفاع.

غضب شعبي من الانهيار الاقتصادي في لبنان
غضب شعبي من الانهيار الاقتصادي في لبنان

ولخص البنك الوضع في عبارته. “هناك توافق سياسي حول حماية نظام اقتصادي مفلس، أفاد أعدادا قليلة لفترة طويلة” فالمشكلة ليست في المعرفة او سوء الإدارة بقدر ما هو قصور النظام نفسه.

ومنذ حادث مرفأ بيروت يشترط المجتمع الدولي على لبنان، تنفيذ إصلاحات ملحة ليحصل على دعم مالي ضروري يخرجه من دوامة الانهيار الاقتصادي التي يعاني منها منذ نحو عامين.

لكن بعد مرور أكثر من عشرة أشهر على استقالة حكومة حسان دياب إثر انفجار مرفأ بيروت، ورغم ثقل الانهيار الاقتصادي والضغوط الدولية، لم يتمكن لبنان من تشكيل حكومة، وفيما يعيش المواطن أغلب أيامه بين طوابير البنزين، والتعثر في الحصول المواد الغذائية والأدوية، ينشغل الزعماء في إلقاء التهم على بعضهم البعض، وتنفيذ تعليمات الأوصياء.