في نهاية ستينيات القرن الماضي، شنت «الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام» المدعومة من حكومة الشطر الشمالي للبلاد هجوما شاملا على عشرات مدن الشطر الجنوبي، بعد يومين من ذلك الهجوم ظهر قائد شرطة الجنوب الجنرال نجوين نجوك في أحد شوارع العاصمة سايجون وسط عدد من رجاله وبصحبتهم معتقل ينتمي إلى جبهة التحرير، أشهر الجنرال مسدسه وأطلق الرصاص بدم بارد على رأس هذا المعتقل.
على بعد أمتار قليلة، وبينما كان يهم رئيس الشرطة بتوجيه سلاحه إلى السجين نجوين فان ليم الذي تم تقييد يديه من الخلف، كان يقف مصور وكالة «أسوشييتد برس» إدي آدامز فتمكن من اقتناص لقطة وثَق فيها جريمة الاغتيال التي حركت الرأي العام الدولي ضد الحرب المآساوية في تلك الدولة الأسيوية.
في اليوم التالي، تحديدا في 2 فبراير عام 1968، احتلت صورة واقعة الاغتيال الصفحات الأولى من الصحف العالمية، فأثارت حالة من الغضب ضد الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تخوض الحرب إلى جانب قوات جنوب فيتنام.
«اقتنصت تلك اللحظة التاريخية القاسية، في صورة خالدة، صنعت الكثير وغيرت وجهة الرأي العام تجاه حرب فيتنام»، يقول آدامز الذي حصل على جائزة بوليتزر عن تلك الصورة التي اعتمدتها مجلة «التايم» كواحدة من الصور الـ100 الأكثر تأثيرا في التاريخ.
عام 2004، وقبل وفاته بقليل كتب آدامز مقالا في «التايم» أعرب فيه عن راحته للنتائج المترتبة على الصورة التي التقطها لرئيس شرطة سايجون وهو يُردي عنصر جبهة تحرير فيتنام، «مات شخصان في هذه الصورة، من تلقى الرصاصة، ومن ألقى بها في رأس الرجل.. لقد قتلت الجنرال بعدستي» يقول آدامز، مضيفا: «تبقى الصورة الثابتة أقوى سلاح في العالم».
بعد مرور نحو 4 سنوات تقريبا، تمكن مصور صحفي آخر لـوكالة «أسوشيتدبرس» من التقاط صورة أخرى تعدى تأثيرها ما أحدثته الصورة الأولى، التقطت عدسة المصور نيك أوت الطفلة كيم فوك وهي تجري عارية تماما وتصرخ بصوت عالي بعد أن أحرقت النيران جسدها ومزقت ملابسها وسلخت جلدها نتيجة إسقاط سلاح الجو الجنوبي المدعوم من واشنطن قنابل النابلم المحرمة دوليا على قريتها.
كان أوت يعمل على فيلم تسجيلي عن بشاعة حرب فيتنام، وفيما كان يتجول في شوارع قرية «تراج بانج» التي سيطرت عليها عناصر جبهة تحرير فيتنام، شاهد فتاة نحيلة في التاسعة من عمرها تجري عارية في الشوارع وتصرخ «إنها حارقة.. إنها حارقة جدا»، فثبت عدسته على الفتاة والتقط لها تلك الصورة.
فكر المصور الصحفي للحظات بعد اللقطة الأولى أن يأخذ للطفلة أكثر من لقطة، لكن مشاعره الإنسانية طغت على شهوته في تحقيق انفراد وصناعة قصة صحفية مصورة، فهرول في اتجاه الطفلة وأحضر لها الماء، ثم حملها إلى المستشفى لتُجرى لها هناك 17 عملية جراحية تمكنت بها أن تعود إلى الحياة بعد عامين من الآلام والمعاناة.
في اليوم التالي، تصدرت صورة فتاة النابلم صحف العالم تحت عنوان «ضحايا الحروب الأبرياء»، لتشتعل المظاهرات المنددة بدور واشنطن في تلك المأساة التي خلفت نحو 2 مليون قتيل فيتنامي وثلاثة ملايين جريح وأكثر من 10 مليون لاجئ، وسقط فيها ما يقرب من 60 ألف قتيل أمريكي.
حصلت الصورة التي التقطها أوت أيضا على جائزة بوليتزر عام 1973، ودخلت ضمن الصور الأكثر تأثيرا في التاريخ أيضا.
صورة فتاة النابلم ومن قبلها صورة إطلاق الرصاص على معتقل جبهة تحرير فيتنام ضغطت على ضمير شعوب العالم التي كفرت بلعب أمريكا دور شرطي الكون، خرجت مظاهرات شبه يومية في المدن الأمريكية لتحتج على تلك الحرب ورفع المحتجون صور فتاة النابلم التي تحولت إلى أيقونة تلك الفترة، ومع تصاعد الضغوط على الإدارة الأمريكية قررت واشنطن وقف دعمها لجيش جنوب فيتنام وسحبت قواتها، لتتوقف الحرب بعد أن سيطرت قوات الشمال على معظم المدن ومنها العاصمة الجنوبية سايجون لتتوحد فيتنام مجددا.
وبعد نحو 3 عقود، احتلت صورة أخرى للطفل محمد الدرة الذي مات في حضن والده بعدما عجز هذا الأخير عن حماية ابنه من رصاصات جنود الاحتلال الإسرائيلي صدارة الأحداث.
الصورة التي تم اقتطاعها من شريط فيديو سجله مراسل قناة فرنسية في 30 سبتمبر عام 2000 الذي يوافق اليوم الثاني لانتفاضة الأقصى، نجحت في زيادة الاهتمام العالمي بالقضية الفلسطينية، وتسليط الضوء على جرائم جيش الاحتلال في حق الفلسطنيين العزل بعدما، ورفع دعاة السلام في عواصم العالم الصورة المؤثرة في مسيرات جابت الشوارع لتندد بالعنف الإسرائيلي. مشهد الدرة وهو ينزف في حضن والده كشفت زيف إدعاءات إسرائيل التي وصمت أصحاب الأرض بالإرهاب، وأفقدت إسرائيل الكثير من داعميها.
كذلك كشفت صورة الطفل إيلان كردي الذي قذفت الأمواج جثته إلى شواطئ مدينة بودروم التركية عام 2015، عن حجم المعاناة التي يعيشها الشعب السوري الذي اضطرته الظروف إلى الهروب من جحيم الحرب والقتال إلى الانتحار الجماعي في قوارب الموت المتجهة إلى أوروبا.
جريدة «اندبندنت» البريطانية نشرت صورة جثة إيلان وهو يبدو نائما على صدر صفحتها الأولى في الثالث من سبتمبر عام 2015، تحت عنوان «ابن أحدهم»، وكتبت أسفلها: الطفل الذي عرفه العالم جثة على شاطئ بودروم التركية، وتسألت الصحيفة: «إن لم تغيّر صور هذا الطفل السوري الميت على شاطئ، موقف أوروبا من اللجوء، ما الذي يمكن أن يغيّره؟».
دفعت صورة إيلان العواصم الأوربية إلى تغيير تعاملها مع اللاجئين السوريين، وتحت ضغوط المسيرات المنددة ومنظمات المجتمع المدني المعنية اتجهت الحكومات الأوربية إلى تغيير سياسات الهجرة واللجوء والبحث عن حلول إنسانية لهذا الوضع الكارثي.
مع نشر كل صورة من الصور المشار إليها أعلاه، كان يثار جدل بين أبناء المهنة حول السماح بظهور تلك المشاهد الصادمة للجمهور من عدمه. في صالات تحرير الصحف التي لا تعرف التعليمات أو التوجيه من أجهزة السلطة، كان هناك فريقان ولكل منهما وجهة نظر، الأول يرى حجب تلك الصور بدعوى أن نشرها بما تتضمنه من جثامين ودماء يمثل إهانة وصدمة للبشرية، بينما يرى الفريق الأخر أن حجبها يعد خيانة أولا للمهنة التي تفرض على منتسبيها نشر الحقيقة كاملة، وثانيا للإنسانية التي يجب أن نصدمها حتى تتصدى لأهوال الحروب.
وكما أُثير الجدل حول نشر صور الجثامين والدماء في الصراعات والحروب، يثار جدل متجدد حول توثيق جنازات مشاهير السياسة والفن ورصد تفاعل المشيعين والمعزين ومدى تأثر مشاعرهم، ونقل كل ذلك إلى الجمهور.
يحتفظ أرشيف الصحافة المصرية بآلاف الكادرات لجنازات زعماء السياسة من سعد زغلول والملك فؤاد وحسن البنا إلى جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، كما وثقت عدسات المصورين جنازات العديد من نجوم الفن مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وأحمد زكي ونور الشريف وغيرهم إلى أن وصلنا إلى جنازتي الفنان الراحل سمير غانم وزوجته دلال عبد العزيز والأخيرة أثارت أزمة بين أهل الفن ونقابتهم من جهة والمصورين الصحفيين ونقابتهم من الجهة المقابلة.
صور جنازات المشاهير هي استكمال لتوثيق مسيرة الزعيم السياسي والفنان التي تحولت حياتهم إلى ملك للجمهور الذي من حقه أن يعرف ويتابع ويشاهد زعيمه ونجمه حتى ولو كان محمولا على الأعناق.
لم تشهد جنازات المشاهير قبل العقد الأخير كل هذا الجدل الذي يثار حاليا، فقبل عصر استخدام الهاتف الذكي في التصوير من قبل الصحفيين وغيرهم، كانت تلك الجنازات تمر دون ضجيج، يحضر المصورون الصحفيين ليرصدون ويلتقطون بعدساتهم الاحترافية مشاهد الجنازة، مع مراعاة الحفاظ على خصوصية الميت وعدم انتهاك مشاعر أهله وأصدقائه من المشيعيين.
ومع تصاعد هوس «الترند» و«الأعلى مشاهدة»، وانتشار المواقع الصحفية دون رابط أو ضابط، فضلا عن تحول الكثير من حسابات التواصل الاجتماعي إلى منصات إعلامية أصبح الأمر محل انتقد كثير من الأشخاص والجهات، خاصة بعد أن زاد الأمر عن حده وتحولت الجنازات والعزاءات إلى ساحات سباق يطارد فيها المصورون والهواة الحضور سواء من رغب منهم في التصوير أو من رفض.
السبب الأهم في سباق المنصات الصحفية على تغطية أخبار الجنازات والأفراح والمناسبات الاجتماعية، هو غياب أو تغييب الصحفيين والمصوريين عن الأحداث الأهم، فمنذ أن فرض على الصحافة المصرية في السنوات الأخيرة أجندة تحريرية يتم إعدادها خارج غرف الأخبار ومنذ أن أصبحت إدارات التحرير المختلفة تتلقى تعليمات مباشرة حول ما يجب نشره وما لا يجب، صار الأخذ بالأسلم والأسهل هو خيار منصات الإعلام، وبدلا من التفكير في صناعة قصة صحفية حقيقية تكشف فسادا أو تعري كذبا أو تشتبك مع واقع أليم، توجه الجميع إلى الجنازات والمناسبات التي لا تضع محررها ومصورها في قفص الاتهام.
في كتابه «الصحافة المصورة والأخبار في عالم اليوم.. خلق واقع مرئي» تحدث لوب لانجتون مدير برنامج الصحافة البصرية في كلية الإعلام بجامعة ميامي الأمريكية، عن بنود الميثاق الأخلاقي للجمعية الوطنية لمصوري الصحافة في الولايات المتحدة.
ويُحمل هذا الميثاق المصوريين مسئولية توثيق ما يدور في المجتمع والحفاظ على تاريخه، «يجب على المصورين بوصفهم أمناء على العامة، ودورهم الأساسي هو تقديم تقارير بصرية عن الأحداث المهمة، وعن وجهات النظر المختلفة وهدفهم الأساسي هو التصوير الأمين والشامل للموضوع الذي نعمل عليه، أن تكون مسئولية المصورين الصحفيين توثيق المجتمع، والحفاظ على تاريخه من خلال الصور».
ويشير الميثاق إلى أن الصور الفوتوغرافية ولقطات الفيديو تعمل على كشف الحقائق الكبرى، وفضح الأخطاء والإهمال، وبث الأمل والتفاهم والربط بين الناس في جميع أنحاء العالم عبر لغة التفاهم البصري، كما يمكن للصور أن تتسبب في أذى بالغ إذا كانت متطفلة بقسوة، أو متلاعبا بها.
ووضع الميثاق عددا من المعايير وطالب المصورين الصحفيين الالتزام بها في عملهم اليومي، من تلك المعايير أن يعامل المصور مع كل الأشخاص موضوع الصور باحترام وكرامة، «امنح اهتمامًا خاصًّا للأشخاص الضعفاء، وتعاطفًا مع ضحايا الجرائم أو المآسي، ولا تتطفل على لحظات الحزن الخاصة إلا عندما يكون الجمهور بحاجة بالغة ومبررة لرؤيتها».
لو التزم المصور الصحفي بالمعايير المهنية، وراعى مشاعر وثقافة الأشخاص موضوع الصور وتعامل معهم باحترام، ولم يتطفل على لحظات الحزن الخاصة بهم، سيحسم جدل تصوير الجنازات كما حسم من قبل جدل نقل صور الحروب والصراعات والمآسي الكبرى.
ولو اتسع هامش الحرية بما يسمح بصناعة قصص صحفية تهم الرأي العام، وتسلط الضوء على مواضع الخلل، ولو عادت الصحافة إلى ممارسة دورها الطبيعي في الإخبار والتنوير والتوعية والرقابة، حينها ستتراجع أخبار الجنازات إلى صفحات المجتمع، وقد تقتصر مرة أخرى على صحفات الوفيات في الصحف.