فوز ثلاث لاعبات مصريات بميداليات أوليمبية هو بالتأكيد أمر يستحق الاحتفاء به كإنجاز رياضي للمرأة المصرية. حقيقة أن هؤلاء اللاعبات قد أتين من أسر متواضعة ماديا تنتمي إلى الطبقة الوسطى الدنيا، هي بالتأكيد أيضا سبب لاحتفاء إضافي، فهي تعني أنهن يمثلن واحدة من أكبر شرائح المجتمع. ولكن الاحتفاء هنا لن يكون فقط بتجاوزهن للتحدي الذي يواجه أي لاعبة تسعى للحصول على ميدالية أوليمبية في مواجهة منافسات لها من بلدان العالم كله، وإنما سيمتد إلى التحدي الإضافي الذي تواجهه فتاة مصرية تنتمي إلى شريحة اجتماعية لا يتاح إلا لنسبة ضئيلة للغاية من فتياتها ممارسة الرياضة، ولنسبة أقل كثيرا أن تستمر ممارستهن لها ما يكفي للوصول إلى مستوى تنافسي محلي ثم دولي. المعوقات الاجتماعية والاقتصادية التي تحول دون تحقيق ذلك هائلة، ومن ثم فإنجاز هؤلاء اللاعبات يتجاوز بحق أي تقدير يمكننا أن نمنحه لهن.
حقيقة أن البطلات الثلاث محجبات لم يكن ينبغي أن تثير أي قدر من الدهشة. إحصائيا، حيث أن الغالبية الساحقة من النساء المصريات المنتميات تحديدا إلى الطبقة الوسطى الدنيا محجبات، فيكاد يكون مؤكدا أن أي ثلاث نساء يتم اختيارهن عشوائيا من هذه الشريحة الاجتماعية سيكن محجبات
حقيقة أن البطلات الثلاث محجبات لم يكن ينبغي أن تثير أي قدر من الدهشة. إحصائيا، حيث أن الغالبية الساحقة من النساء المصريات المنتميات تحديدا إلى الطبقة الوسطى الدنيا محجبات، فيكاد يكون مؤكدا أن أي ثلاث نساء يتم اختيارهن عشوائيا من هذه الشريحة الاجتماعية سيكن محجبات. للوهلة الأولى لا يبدو أن ثمة شيء غير اعتيادي هنا، ولكن بعض من يمكننا تسميتهم بدعاة مواقع التواصل الاجتماعي كان لهم رأي آخر. عبر بعض نجوم هؤلاء الدعاة الجدد عن سعادتهم بتحقيق محجبات لإنجاز رياضي كبير، ورأوا أن ذلك يثبت أن الحجاب لا يعوق وصول المرأة إلى ما تطمح إليه من النجاح في أي مجال، وذلك حسب قولهم على عكس دعاوى النسويات والعلمانيين. المثير للاهتمام أن احتفاء النسويات أو العلمانيين بما حققته اللاعبات المحجبات لم يكن أقل حماسا، ويمكن لأول وهلة الاعتقاد بأن الرسالة التي رأت النسويات أن هذا الإنجاز الرياضي يعبر عنها، هي نفس ما عبر الدعاة الجدد عن سعادتهم به، أي أن “الحجاب لا يعوق تحقيق المرأة لطموحاتها”، ولكن الحقيقة أن هؤلاء النسويات كن يحتفين بتمكن نساء مصريات محجبات من الطبقة الوسطى الدنيا من التغلب على المعوقات الاجتماعية الهائلة التي تحرم الغالبية العظمى ممن يشبهنهن من تحقيق أي إنجاز مماثل أو حتى قريب مما حققنه. الحجاب في هذه الحالة هو رمز للمعوقات الاجتماعية المستندة إلى الثقافة الدينية السائدة.
قطاع كبير ممن سأسميهم هنا بالمحافظين، والذين يؤيدون عادة مواقف نجوم الدعاة الجدد، اختلفوا بشدة مع مجرد اعتبار حصول امرأة مصرية مسلمة محجبة (أي ملتزمة دينيا) على ميدالية أوليمبية إنجازًا، طالما أنه يتطلب أولا ألا تكون ملابسها مطابقة لمواصفات الحجاب الصحيح، وأن تمارس صورا مختلفة من الحركة على مرأى من الرجال، وامتدادا لذلك يتطلب اختلاطها بالرجال وتعاملها معهم عن قرب خاصة مدربيها، وعلى مستوى المنافسة الدولية يتطلب سفرها دون محرم من أهلها. بعبارة أخرى، ما أكد عليه هؤلاء هو أن الحجاب ليس عائقا في سبيل تحقيق إنجاز رياضي، فقط في حال ما إذا نظرنا إليه كمجرد غطاء للرأس، ولكنهم بالتأكيد لا يرونه كذلك، فالحجاب بالنسبة لهم ينبغي أن يكون علامة على الالتزام الديني في المظهر والسلوك للمرأة المسلمة. إذا ما أصبح الحجاب مجرد غطاء للرأس، لم تعد له أي دلالة دينية، وحينها لن يكون ثمة داع لمطالبة النساء بارتدائه كدليل على التزامهن الديني، ويمكن لمن تشاء أن تخلعه. هؤلاء، من حيث لا يدرون، انتصروا لتصور تقدمي، تتبناه كثير من النسويات، وهو أننا إذا ما فصلنا الحجاب كمجرد غطاء للرأس، عن الإملاءات الدينية المتشددة، لن يكون في حد ذاته عائقا لأن تحقق من ترتديه ما تطمح إليه.
القيود المجتمعية المفروضة على النساء، لا تعبر عن التزام ديني حقيقي لمن يفرضونها، ولا تعبر عن توقعهم لأن تكون المحجبة بالضرورة ملتزمة دينيا، واستخدام منطق ديني للدفاع عن هذه القيود لا يعكس إلا أن الخطاب الديني هو الخطاب السائد في المجتمع
الفصل بين الحجاب وبين الالتزام الديني الصارم أو المتشدد ليس بالطبع جديدا على الإطلاق، في الحقيقة هذا الفصل أصبح منذ زمن بعيد هو السائد اجتماعيا، وما تسبب فيه هو تحديدا الانتشار الواسع للحجاب بحيث أصبح الزي التقليدي الاعتيادي للغالبية العظمى من النساء المصريات، ومن ثم أصبح الحجاب عادة مفروضة اجتماعيا، وبينما تزايدت حدة الإصرار على التزام النساء به، والتشدد في مواجهة محاولة أي إمرأة لخلعه، تراجع ارتباطه بالالتزام الديني، فقبل أي شيء لم تعد غالبية المحجبات يرتدينه اختيارا له وتعبيرا عن التزامهن الديني، إضافة إلى ذلك فرضت تحولات اجتماعية مختلفة ضرورة خروج النساء للدراسة والعمل، مع استمرار اعتقاد المجتمع في فرض أولوية الحصول على زوج وإنشاء أسرة. القيود المجتمعية المفروضة على النساء، لا تعبر عن التزام ديني حقيقي لمن يفرضونها، ولا تعبر عن توقعهم لأن تكون المحجبة بالضرورة ملتزمة دينيا، واستخدام منطق ديني للدفاع عن هذه القيود لا يعكس إلا أن الخطاب الديني هو الخطاب السائد في المجتمع، بمعنى أن مفرداته وعباراته الشائعة ومفاهيمه هي المصدر الأساسي للخطاب اليومي.
المصدر الأساسي للقيود الاجتماعية المفروضة على غالبية النساء في مصر هو الذكورية الهشة السائدة في المجتمع المصري، في ظل انكماش أو انعدام امتلاك ممثلي السلطة الاجتماعية في نطاق الأسرة أولا وفي نطاقات أخرى تالية للمقومات الاقتصادية لممارسة هذه السلطة، تزايد اعتمادهم على المقومات الاجتماعية الشكلية التي تتمثل في السلطة التقليدية للأب على أبنائه والإخوة الذكور على شقيقاتهم من الإناث إلخ، وسلطة الذكور بصفة عامة على نساء المجتمع، هذه المقومات لأنها شكلية ولأنها تتطلب دعما من خارجها لفرضها أصبح على من يعتمدون عليها أن يفرضوها بممارسة العنف. وتنعكس الحاجة المستمرة إلى ممارسة العنف ضد النساء لفرض السلطة المجتمعية عليهن في تصاعد هذا العنف وكذلك في الدفاع الشرس عن الحق في ممارسته. وتشهد على ذلك المعارك المتكررة على وسائل التواصل الاجتماعي حول حالات العنف الأسري، والتي انحازت فيه غالبية واضحة إلى حق أصحاب السلطة التقليدية (الآباء، الأمهات، الإخوة، الأزواج، إلخ) في ممارسة العنف لفرض (الصواب) الاجتماعي على من ينبغي إنصياعهم لهذه السلطة، وهم في أغلبهم بالطبع من الفتيات والنساء.
في هذا السياق، الحجاب هو في الحقيقة رمز مظهري ضروري لفرض الحد الأدنى من السلطة الاجتماعية، والضبط الاجتماعي، على النساء. وتعود شراسة رفض حق المرأة في خلعه إن أرادت إلى أنه يمثل خط الدفاع الأخير عن هذه السلطة. ولكن هذا غير كاف على الإطلاق بالنسبة لتلك الشريحة من المجتمع التي أسميتها بالمحافظين، وهم أكثر تشددا لاهتمامهم بالحفاظ على القيمة الرمزية للحجاب كدليل على الالتزام الديني والذي يمثل في حد ذاته رأس مال اجتماعي مهم. يميل كثير وكثيرات من هذه الشريحة إلى أنماط الحجاب الأكثر تشددا المتراوحة بين الخمار والنقاب الكامل، ولا يعنيهم كثيرا أن ينفر خطابهم من يرتضون بالأنماط المخففة من الحجاب التي أصبحت سائدة مجتمعيا، فهم يهاجمون هذه الأنماط طيلة الوقت ولا يعتبرون من يرتدينها محجبات حقا، كما يهاجمون بشدة كل الممارسات السلوكية التي تعكس خروجا عن الالتزام الديني المتشدد. والحقيقة أن الدعاة الجدد يبدون معظم الوقت في مكان القيادة الفكرية لهؤلاء المحافظين، ولكنهم يفترقون عنهم في تلك الحالات النادرة التي تكشف عن انتهازية هؤلاء الدعاة السياسية.
المعركة الموسمية حول البوركيني (زي السباحة الذي يغطي كامل الجسم)، نموذج آخر كاشف للحالات التي تفترق فيها سبل الدعاة الجدد عن ظهيرهم الأساسي من المحافظين. في كل مرة تثار فيها هذه المعركة، ينخرط الدعاة الجدد في تصويرها على أنها تدور حول التمييز ضد المحجبات اللاتي يرغبن في السباحة دون كشف أجسادهن، بمنعهن من ارتداء زي السباحة الذي يسمح لهن بذلك. حظر إدارات بعض المنتجعات والشواطئ الخاصة للبوركيني، هو بالتأكيد ممارسة تمييزية، ولذلك يتفق الحقوقيون والنسويات مع رفضه. ولكن كما هو الحال مع ممارسة الرياضة، يرفض كثير من المحافظين البوركيني نفسه لأنه لا يتفق مع شروط الحجاب الصحيح، ويرفضون بشدة الممارسات المرتبطة بارتدائه والمتمثلة في دخول أماكن ترتادها أغلبية من غير المحجبات واللاتي يرتدين ملابس سباحة كاشفة لأغلب أجسادهن، كما يسمح في كثير منها بتقديم الخمور، مع اختلاط الجنسين، وغير ذلك مما يتناقض بشدة مع حدود الإلتزام الديني الذي يعنيهم أن يظل الحجاب مرتبطا به.
في الحالتين يقدم الدعاة الجدد قضية ما على أنها تمثل حربا من العلمانيين ضد الحجاب، وضد الإسلام من خلاله، وفي الحالتين أيضا يرفض المحافظون، رغم أنهم الظهير المعتاد لهؤلاء الدعاة، القضية برمتها، لأن الممارسة التي تدافع عنها تمثل في رأيهم اختزالا للحجاب في كونه غطاء للرأس، أو مجرد تحديد لما يجوز كشفه من الجسم. وفي الحالتين يكشف موقف المحافظين أن الدعاة الجدد مستعدون للمراوغة فيما يتعلق بالرمزية الدينية للحجاب في مقابل تحقيق أي نصر سياسي ضد العلمانيين وبصفة خاصة النسويات باعتبار أنهن الأكثر بروزا في الوقت الحالي.
مشكلة الإسلاميين، بصفة عامة، كانت ولا تزال، أن أيديولوجيتهم الدينية عابرة للطبقات، ومن ثم يحتاجون إلى تسويق صورة للعالم الاجتماعي تتفق مع تطلعات فئات اجتماعية مختلفة
لماذا أعتبر ذلك دليلا على الانتهازية السياسية. لأن ممارسة السياسة هي بالتعريف عملية تسويق لصورة للعالم الاجتماعي تتفق مع تطلعات فئة اجتماعية. مشكلة الإسلاميين، بصفة عامة، كانت ولا تزال، أن أيديولوجيتهم الدينية عابرة للطبقات، ومن ثم يحتاجون إلى تسويق صورة للعالم الاجتماعي تتفق مع تطلعات فئات اجتماعية مختلفة. الممثل التقليدي للإسلام السياسي، وهم الإخوان المسلمون، نجحوا في ممارسة السياسة بهذا التعريف طوال عدة عقود. ولكن نجاحهم، مع عوامل أخرى عديدة، ومع الدور الذي قام به السلفيون، كان له أثر عكسي، فقد تم استيعاب مشروعهم السياسي في معظمه في صورة ممارسات اجتماعية للتأسلم المظهري، ومن ثم فما بقي منه لم يتجاوز كونه قشرة هشة اختفت بفشلهم في أول تجربة حقيقية للاستثمار في القبول الواسع لمشروعهم السياسي، ثم بقمعهم أمنيا. مع اختفاء الإخوان عمليا من الفراغ العام، أفرز المجتمع هذا النوع من الدعاة الجدد الذين يقودون الدفاع الخطابي عن ممارسات التأسلم المظهري، التي كان ولا يزال لوضع المرأة في المجتمع المكان الأبرز فيها.
بينما تعتمد ممارسة السياسة على مداعبة التطلعات، فممارسة الدفاع عن الامتيازات الاجتماعية تعتمد على استغلال مخاوف فقدها. وفي حين أن الدعاة الجدد ينجحون إلى حد كبير في استغلال المخاوف المشتركة بين أغلب فئات المجتمع من تبدد الامتيازات التي يتيحها، بصفة خاصة، عالم اجتماعي أبوي وذكوري، إلا أنهم في بعض الأحيان ينجرون إلى ممارسة السياسة بمحاولة طرح خطاب متوافق مع تطلعات فئات اجتماعية مختلفة. يحدث ذلك عندما يشعرون بوجود مساحة يمكن أن يحتلها منافسوهم الاجتماعيون وهم، حسب تعريفهم، العلمانيون وفي مقدمتهم حاليا النسويات. التطلعات التي انجر الدعاة الجدد، دون وعي حقيقي منهم، إلى مداعبتها في الحالتين اللتين أشرت إليهما سابقا هما تلك التي تتعلق بإرضاء حس التفوق الوطني، بالاحتفاء بالإنجازات الرياضية على المستوى الدولي، أو تتعلق بإرضاء رغبة أبناء الطبقات الأعلى دخلا في استكمال مظاهر تميزهم الطبقي.
الاحتياج لمثل هذه الحالات الخاصة يعكس الانحسار المتزايد لإمكانية استخدام الحجاب كأداة صراع سياسي، فالحجاب الذي كان في بداية انتشاره في سبعينات القرن الماضي يعكس التصديق في صورة للعالم الاجتماعي تلبي طموحات فئات اجتماعية مختلفة في تجاوز احباطات انكسار وهزيمة النموذج الناصري، تحول إلى واقع اجتماعي اعتيادي، ومن ثم تراجعت دلالته السياسية، في الوقت الذي تم فيه استيعابه مجتمعيا ليصبح أداة ضبط سلوكي. وفرض هذا على الأصوات الإسلامية الحالية، سواء كانت للدعاة الجدد أو المحافظين، موقفا دفاعيا، وفي ظل نضوب الخيال السياسي لهاتين الفئتين وتناقض أهدافهما عندما يتعلق الأمر بمحاولة تحقيق انتصار سياسي حتى وإن كان محدودا للغاية، لا يمكن توقع أن يصدر عنهما أي مشروع سياسي، يساهم في توسع الظهير الاجتماعي للمشروع الإسلامي بصفة عامة.
لا يزال الطرف الأكثر نشاطا من بين هؤلاء المنافسين هو الحركة النسوية، السبب هو أن أجساد النساء كانت منذ بداية ما يسمى بالصحوة الإسلامية، ولا زالت، هي ساحة الصراع المجتمعي الرئيسي التي اختارها الإسلاميون
بدون مشروع سياسي توسعي، يبقى المشروع الإسلامي الاجتماعي، والغطاء الذي يقدمه لممارسات السلطة الاجتماعية أيضا، في موقع دفاعي، ومن ثم يصبح عرضة للانكماش المتزايد في مواجهة منافسيه السياسيين. لا يزال الطرف الأكثر نشاطا من بين هؤلاء المنافسين هو الحركة النسوية، السبب هو أن أجساد النساء كانت منذ بداية ما يسمى بالصحوة الإسلامية، ولا زالت، هي ساحة الصراع المجتمعي الرئيسي التي اختارها الإسلاميون، والتي حققوا فيها نجاحاتهم الأولى، ثم كانت ذروة هذه النجاح اخفاقا تاما في استثمارها لصالح مشروعهم السياسي. بعض أصغر المعارك الخطابية من خلال شبكات التواصل الاجتماعي قد يكون كاشفا لخريطة الصراع السياسي والاجتماعي إذا ما أمعنا النظر فيها بالقدر الكافي، وربما يكون ذلك أحد المهام التي لا زالت متاحة للحراك التقدمي بأطيافه المختلفة، والتي تبقي على قدر من الأمل في استمراريته وخروجه من قاع الاستسلام اليائس لهزيمة ليست بالضرورة نهائية.