انتقلت مصر خلال السنوات العشر الثانية من القرن الحادي والعشرين من النقيض إلى النقيض، انتقلت من الحرية السائبة التي انشقت عنها الأرض والسماء وتدفقت ينابيع وأنهارا مع يناير ٢٠١١م، إلى الاضطهاد المتدرج المنظم المُحكم بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣م .

الحرية السائبة جاءت علي حين بغتة، دون توقع، ودون تنبؤ، ووجد المصريون أنفسهم بعد صلاة الجمعة ٢٨ يناير ٢٠١١م يسبحون في أنهار من الحرية لا ضفاف لها ولا حدود ولا ضوابط عليها ولا قيود، حرية لا عهد لهم بها من قبل، ولا خبرة لهم بها من قبل، فقد انسحبت الشرطة من الشوارع وخلت مصر من أقصاها إلى أقصاها من الهيمنة البوليسية، واستمر الوضع حتى غروب شمس ذاك اليوم، إذ نزلت قوات الجيش لتحل محل عناصر البوليس، ولكن قوات الجيش نزلت بروح الصديق والحليف تجاه الشعب، فتأكدت الحرية المفاجئة واطمأنت وتنفست في عمق وارتياح واطمئنان في حماية الآلة العسكرية الصديقة .

هذه الحرية المباغتة، تنزلت بمقادير تفوق القدرة على فهمها أو استيعابها أو التعامل معها أو توظيفها لخدمة المصالح العامة بعقل وحكمة ورشد، انزاحت القيود عن حرية الكلام والتعبير والنشر فالكل يتكلم بعلم وبغير علم وبهدف وبغير هدف، وانزاحت القيود عن حرية التنظيم فالكل يتنافس في إنشاء الأحزاب والجمعيات والائتلافات والتنسيقيات بخبرة وبغير خبرة وبجدوى وبغير جدوى، وانزاحت القيود عن حق التظاهر فتظاهر الكثيرون حتي أدمنوا التظاهر لسبب حقيقي أو لغير سبب .

سقطت ديكتاتورية الحاكم الفرد لتحل محلها ديكتاتورية عدد لا حصر له ممن اتخذوا ألقاب النشطاء والثوار الذين تنافسوا في خلق حالة من الصداع العام كادت تنفلق منها دماغ البلد حتى داخت وتاهت وزاغت وسط صخب وضجيج أطياف هائلة من الثوار من أقصي اليمين الديني إلى أقصى اليسار الاشتراكي، صخب وضجيج لا تستبين معه وسيلة ولا غاية ولا هدف ولا طريق، ولا يستبين معه حق من باطل، ولا جد من هزل، ولا مصلحة من مفسدة، ولا منفعة من مضرة.

هذه الحرية السائبة لم يكن الشباب فقط هم من فقدوا القدرة على التعامل الصحيح معها، الجميع – كبارا وشبابا- افتقد تلك القدرة وغابت عنه تلك الموهبة في بلد يفتقد إلى أبسط مقومات البنية التحتية للديمقراطية، بلد يفتقد إلى البنية الفكرية للديمقراطية، مثلما يفتقد إلى البنية المادية الديمقراطية، مثلما يفتقد إلى تراكم الخبرات والتجارب والتراث الديمقراطي.

وجدت الحرية السائبة نفسها – بعد سقوط الديكتاتورية – تسبح في فراغ، والفراغ ذاته يسبح في المجهول، دون وجهة محددة، ودون بوصلة هادية.

ثورة يناير
ثورة يناير

مالم يلتفت إليه كثيرون في ذاك الوقت، هو أن أركان الدولة كانت- في أعماق ضميرها- تعترف بالثورة، وتعترف بأن الأمور قبلها كانت تحتاج إلى تصويب، وتعترف بأن فكرة التمديد للرئيس أو التوريث لنجله ليس لأي منهما منطق يمكن قبوله أو تفهمه، وتعترف أن غضب عموم المصريين له ما يبرره من الواقع.

ولهذا فإن أركان الدولة كانت وكأنها تنتظر ٢٥ يناير ٢٠١١م أو كأنها كانت تتوقعه وترجوه وتتمناه، ولهذا – أيضا- فإن أركان الدولة لم يكن لديها استعداد لتخوض معركة ضد الشعب لصالح بقاء الرئيس ولا نجل الرئيس، بل ألقت بثقلها في التخلص أولا من فكرة التوريث ثم التخلص ثانيا من فكرة التمديد ثم إقناع الرئيس بالتخلي عن موقعه، ثم كان لديها استعداد لتسليم السلطة إلى من يتم انتخابه من الشعب .

كانت وجهة نظري، ومازالت، هي أن الدولة هي الأقدر على الإصلاح وهي الأجدر به، لأنها هي الأدري بمواضع الفساد وهي الأعلم بِه، الدولة هي مدرسة مزدوجة، فيها صنايعية الفساد، وفيها صنايعية الإصلاح، وهي في كل الأحوال بيت الخبرة العملية بكافة شؤون البلاد، تستطيع الدولة – إن أرادت – تيسير الإصلاح، كما تستطيع – إن أرادت – عرقلة الإصلاح، فالدولة المصرية هي بيت خبرة عريق في الإصلاح والإفساد معا.

لهذا كانت وجهة نظري تتلخص في استخدام الحالة الثورية التي جاءت مع يناير ٢٠١١م لإصلاح الدولة من الداخل، وتمكينها من فرز قيادات جديدة تصل للحكم عبر انتخابات حقيقية وليس عبر استفتاءات مزيفة وانتخابات مزورة، واستخدام الزخم الشعبي وما حصل عليه الناس من حريات في ترشيد أداء مؤسسات الدولة وتوظيفها في خدمة مصالح الناس وترقية أحوالهم بدل أن تظل البيروقراطية -سبعة ملايين موظف – تأكل في لحم الشعب وتمص دماءه .

كانت وجهة نظري ومازالت، استخدام الثورة في خلق دولة جديدة من داخل دولاب الدولة على أن يتم شغل المناصب العامة بالانتخاب الشعبي الحر النظيف، ولم أكن مقتنعا بأحلام خلق دولة من الميدان، لسبب بسيط وهو أنها – مهما خلصت نواياها وصدقت – سوف تكون دولة هواة لا أكثر ولا أقل، ودولة الهواة – حتي لو كانوا من أولياء الله الصالحين ومن أقطاب المصلحين والديمقراطيين – هي شر من دولة الطُغاة وأكثر منها ضررا، فالمقارنة البسيطة بين دولة الطغاة ودولة الهواة تكشف لك أن دولة الطُغاة تعرف ماذا تفعل، حتى وهي تفعل الخطأ تعرف أنه خطأ، وذلك غير دولة الهواة التي تفقد التمييز لأنها تفقد الخبرة ولأنها معدومة التجربة وناقصة التمرين والتدريب ناهيك عن الاتقان والاحتراف .

– الحرية السائبة التي جاءت مع ٢٥ يناير ٢٠١١م تم تبديدها مرتين:

المرة الأولى: خلال الفترة الانتقالية من يناير ٢٠١١م حتي يونيو ٢٠١٢ م، وذلك مع حكم الهواة الذين جاءوا من الميدان مباشرةً إلى دواوين الوزارات والمحافظات، فقد عجزت عن إنفاذ القانون، واختل الاستقرار، واضطرب الأمن، وكثرت المطالبات الفئوية، وتوقفت عجلات الإنتاج، وعاشت البلد على السحب المباشر من الاحتياطي النقدي في البنك المركزي .

المرة الثانية: خلال عام من حكم الإخوان، والإخوان ليسوا هواةً بالكامل، وليسوا محترفين بالكامل، هم محترفون في العمليات الانتخابية سواء برلمانية أو نقابية مثلما هم محترفون في اختراق كافة الطبقات الاجتماعية، لكنهم هواة تماما ومستجدون تماما في إدارة دولاب الدولة سواء في المواقع ذات الطبيعة السيادية أو الأمنية أو البيروقراطية والتنفيذية.

جماعة الإخوان
جماعة الإخوان

ولم تكن مشكلة الإخوان فقط في أنهم هواة فيما يخص إدارة الدولة لكن كانت ومازالت عندهم مشكلات أكبر من ذلك بكثير، فالهواة ممكن مع التعليم والتدريب والخبرة أن يتحولوا إلى محترفين، لكن في حالة الإخوان بالذات المشكلة لا تقتصر فقط علي كونهم هواة يفتقدون الخبرة والمعرفة، فالإخوان لهم مشكلة مع الدولة من عدة زوايا:

الأولى: أن فكرة الجماعة نفسها نقيض لفكرة الدولة المصرية ذاتها، وكذلك فإن التنظيم السري الذي يقوم عليه قوام الجماعة هو نقيض الشعب ذاته، وبالعقل فإن فكرة الجماعة وفكرة الدولة لا تلتقيان، وبالمنطق فإن فكرة التنظيم والشعب لا يجتمعان، علما أن تنظيم الإخوان سري لكن دعوتهم علنية، وهذا مما لا يتسق مع فكرة الشعب ولا مع فكرة الدولة .

الثانية: أن تراث العداء والخصومة والشك في علاقة الإخوان بالدولة المصرية يفوق تراث التصالح والتعاون والاحتواء سواء في العهد الملكي أو العهد الجمهوري .

الثالثة: تسرع الإخوان عقب يناير ٢٠١١م في الكشف عن كل أوراقهم، وفي الإعلان عن كل مطامحهم، وفي الزج بأنفسهم في أكثر من معركة، وعلى أكثر من جبهة، داخل مصر وخارجها وفي كل بلدان الربيع العربي، وذهبوا إلى مواقع الصدارة والمسؤولية بروح مقامرة ومغامرة وغير حاسبة لحسابات المرحلة المعقدة، في لحظة مضطربة سائلة وفي بحر هائج عاصف، دون حساب كاف للعواقب، ودون حذر كاف لاحتمالات تغير اتجاهات الريح .

في المرحلتين، عندما حكم الميدان، وعندما حكم الإخوان، كانت الحرية السائبة تنحسر بالتدريج لتكون من اختصاص أقلية صاخبة من النشطاء والثوار، وكانت بالتدريج تفقد اهتمام عموم الناس الذين انصرفوا عنها إلى شؤونهم الحياتية والعملية، وبدأ معني الثورة نفسه يتحلل ويتفكك ويتبخر في الهواء، وأصبح الطريق مفتوحا أمام الاضطهاد الفعال الذي بدأ مع إذاعة بيان وزير الدفاع في ٣ يوليو ٢٠١٣م وإزاحة حكم الإخوان ومازال مستمرا حتى كتابة هذه السطور في منتصف أغسطس ٢٠٢١م .

الحرية لا توجد في فراغ، ولا تتحرك في العدم، ولا تنزل من السماء، ولا تنشق الأرض وتبتلعها، الحرية منتج اجتماعي، الإنسان هو من يخترعها، وهو من يستهلكها، وهو من يعطيها وزنها وقيمتها، وهو من يمنحها الحياة، وهو من يحافظ على استمراريتها. وكذلك فإن العكس صحيح يمكن للإنسان أن يتجاهل الحرية، ويعيش بدونها، ولا تشغل فكره، ولا تلهمه سلوكا ولا فعلا، فهي – في البدء والمنتهى – اختيار بل واختيار صعب، سواء على المستوى الفردي أو المستوى الاجتماعي، سواء على المستوى الثقافي أو السياسي أو الاقتصادي، ذلك أنها نوع من الاختيارات الجذرية التي تترتب عليها تبعات في الدماغ والتفكير والسلوك الخاص والعام، الحرية ليست مجرد فضيلة وليست مجرد حق وليست مجرد نعمة أو منحة، الحرية – قبل ذلك وبعده – رؤية للحياة وللإنسان وللمجتمع وللعالم وللأديان والفنون والآداب والنظم والشرائع والعقائد والأخلاق والفلسفات، وفي النهاية فإن الحرية هي اختيار واع له مسار طويل وشاق ومعقد تتوارثه الأجيال وتكافح له الشعوب وليست مجرد تدفق مباغت أو مفاجئ يظهر عقب سقوط الديكتاتوريات ثم يختفي بعد قليل ليفسح الطريق لديكتاتوريات جديدة.

انتخابات الرئاسة في 2012
انتخابات الرئاسة في 2012

– السؤال الآن: هل كان من الممكن ترشيد الحرية السائبة أو ضبط بوصلتها أو تهذيبها وتعميقها؟ هذا سؤال واقعي وعملي، لكن الجواب عليه مؤسف ومحزن، فالحرية السائبة أثمرت عددا كبيرا من الأحزاب غير ذات القيمة، والحرية السائبة جاءت بهواة إلى إدارة الدولة، والحريّة السائبة أخذت بيد الدولة إلى الاضمحلال، والحريّة السائبة أخذت بيد المجتمع إلى التشظي، والحريّة السائبة أفقدت قوى الثورة الثقة فيها وفي أنفسهم وفي الشعب، فذهبوا وذهب الكثيرون معهم يطالبون الجيش أن يتدخل،  وهم غافلون عن أن تدخل الجيش معناه تأسيس ديكتاتورية جديدة،  فهذا هو ما تتقنه الجيوش باعتبارها للانضباط والتحكم والالتزام  وليست مؤسسات لنشر الحرية وتعميق الديمقراطية .

– والسؤال الثاني: وماذا كانت النتيجة؟

النتيجة معروفة، لكن الكثيرين لا يريدون الاعتراف بها: الحرية السائبة فتحت الطريق للاضطهاد الفعال والمحكم والمنظم.

فالاضطهاد الفعال – مثله مثل الحرية السائبة- لم يولد من فراغ، ولم يُخلق من العدم، فالاضطهاد هو ابن الحرية السائبة التي أخفقت في حفظ الأمن والاستقرار وإدارة دولاب الدولة وتسيير مصالح الناس، والحريّة السائبة هي ابنة الديكتاتوريات التي حكمت البلاد عقودا بل وقرونا وتركت الشعب دون خبرة في ترويض الحرية وتوظيفها والاستئناس بها في دروب الحياة .

الاضطهاد الفعال هو باختصار شديد: نقيض الحرية السائبة، ولكنه لم يكتف بذلك، بل تجاوز إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، فهو اختار أن يكون نقيض كل حرية عامة أو خاصة، سواء حرية فكر أو حرية عمل سياسي، فله موقف سلبي من فكرة الحرية في مجملها سواء حرية الفكر أو القول أو الفعل أو التجمع أو الحركة .

الاضطهاد الفعال يبني شرعيته، على مقولات موجزة، هي في جوهرها صحيحة، ولم يكن عليها خلاف حين كانت القوي المدنية والثورية تطالب الجيش بالتدخل، وذلك قبل ٣٠ يونيو ٢٠١٣م. الخلاف نشأ بعد ذلك، نشأ عند تطبيق هذه المقولات وهي على سبيل المثال: استعادة الدولة المصرية، الحفاظ على الدولة، تثبيت الدولة، حماية الهوية الوطنية، محاربة الإرهاب، حماية البلد من الانزلاق إلى ما آلت إليه بلدان الربيع العربي من فوضى ثم تشظ ثم تفسخ ثم تدخلات أجنبية ثم حروب أهلية ثم ضياع الدولة المركزية ثم تحلل المجتمع ذاته. فكل ذلك كان عليه، وأظن مازال عليه، اتفاق من حيث المبدأ .

الاضطهاد الفعال تأسس تحت مظلة ذات خمس ركائز كبرى:

– الركيزة الأولى؛ انتخابات الرئاسة ٢٠١٤م ولم تكن انتخابات حقيقية.

ثم الركيزة الثانية؛ انتخابات الرئاسة ٢٠١٨م وكذلك لم تكن انتخابات حقيقية.

ثم الركيزة الثالثة؛ تعديل الدستور ٢٠١٩م بِمَا أدخل السياسة المصرية في نفق مظلم له فتحة مدخل وليست له فتحة مخرج.

ثم الركيزة الرابعة: السياسات الاقتصادية والاجتماعية القائمة على نموذج ليبرالي متوحش يقوده صندوق النقد الدولي.

ثم الركيزة الأخيرة: العقد الاجتماعي القائم على الإملاء من طرف الحاكم والإذعان من طرف الشعب.

السجون
السجون

– تحت هذه المظلة الخماسية الكبرى آلت الحريات إلى مصيرين:

الأول، هو عمارة السجون السياسية، فلأول مرة-  فيما وعى المصريون الذين هم على قيد الحياة – يكون في السجن قريب لك أو صديق أو زميل أو جار أو معرفة من قريب أو من بعيد. وبغض النظر عن حقيقة الأعداد فإن الظاهرة ملموسة جدا في الحياة اليومية وليست في حاجة إلى فتح سجلات وحصر الأعداد في مصلحة السجون، وهؤلاء المساجين – في حدود المعرفة الاجتماعية بهم – ربما يكون لهم نشاط سياسي مهم أو قليل الأهمية، لكن في الأغلب ليس لهم نشاط جنائي ولا إجرامي في حدود المعرفة المجتمعية بهم في دوائر الأقارب والزملاء في العمل والأصدقاء في الحياة .

المصير الثاني؛ هو إيثار أغلب المصريين لفضيلة الصمت، والتخلي عن حق أو واجب إبداء الرأي في الشؤون العامة، وهو ما يعد مساسا بالحريات الفردية التي لولاها ما تقدم مجتمع ولولاها ما تحضرت الإنسانية ولا أبدعت ولا ارتقت .

« الحريات الفردية» موضوع المقال المقبل بإذن الله.