مشهد دخول حركة طالبان للعاصمة الأفغانية كابول دون قتال، ثم الصور التي بثتها قناة الجزيرة لجولتهم “السياحية” في القصر الرئاسي، ثم المؤتمرات الصحفية المتتالية لقادتهم، فتحت الباب أمام أسئلة كثيرة بعضها يتعلق بطبيعة التفاهمات التي جرت بين الحركة والمجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة، وكثير منها يتعلق بالسؤال الكبير: هل تغيرت طالبان؟ 

رحلة الحركة

نشأت حركة طالبان في ولاية قندهار عام 1994 تحت قيادة الملا محمد عمر الذي بايعه طلبة المدارس الدينية الديوبندية (نسبة إلى قرية ديوبند بالهند)، وركزوا في دراستهم على الدراسات الإسلامية كالتفسير والحديث والسيرة، إضافة إلى بعض العلوم العصرية التي تدرس بطريقة تقليدية.

وتعتنق الحركة المذهب الحنفي، وتعتبر الحكم الشرعي في مذهبها حكما واحدا لا يحتمل الأخذ والرد، ومن ثم يصبح تنفيذ الأحكام الشرعية واجبا دينيا، وأن أي مراجعات في مواقف الحركة من أي قضية لابد أن يكون لها مبرر ديني أو فقهى.

ونجحت الحركة في السيطرة على العاصمة الأفغانية أول مرة عام 1996 معلنة الإمارة الإسلامية، وسيطرت على معظم أراضي البلاد، وتبنت نهجا دينيا متشددا، ومنعت النساء من التعلم والعمل، واتخذت مواقف عدائية تجاه كل مخالفيها في الداخل والخارج.

ويقود الحركة “أمير المؤمنين” وهو الملا الحالي هيبة الله أخوند زاده، ولا تجوز مخالفة أوامره، كما لا يجوز عزله إلا إذا خالف الشرع، أو عجز عن القيام بمسؤولياته.

اقرأ أيضا:

هيبة الله زاده: سيرة “شبح” أعاد رسم خارطة أفغانستان

 

وتنظيم طالبان تنظيم متماسك رغم غياب القواعد التنظيمية أو بطاقات عضوية تنظم بشكل واضح أمور الحركة الداخلية، ويتكون من مجلس الشورى المركزي للحركة الذي ضم في بداية تأسيسه 70 عضوا، ومجلس الشورى العالي للحركة من الشخصيات المعروفة (مثلما تتحدث الأحزاب السياسية عن الشخصيات العامة)، ومجلس شورى الولايات، بجانب دار فتوي مركزية.

والحقيقة أن حركة طالبان كجماعة دينية عقائدية تنطلق من مجموعة من المفاهيم والتفسيرات الإسلامية الخاصة بها والتي جعلتها ترفض “الديمقراطية” ومفاهيم حقوق الإنسان، لأنها تمنح حق التشريع للشعب في حين أن “الحاكمية لله”، ولذا طوال سنوات حكمها السابقة لم تحرص الحركة على وضع دستور ينظم شؤون البلاد، واحتفظت بالشعار العام البراق الذي تردده عادة معظم التنظيمات الدينية أن “القرآن والسنة هما دستورنا”. 

ولا تؤمن الحركة بالانتخاب فأميرها يتم اختياره من “أهل الحل والعقد”، وحتى الشورى التي تؤمن بها تعتبرها غير ملزمة إنما هي للاسترشاد، كما ترفض الأحزاب وتعتبرها نوع من “العصبية الجاهلية”.

وقد مثل البناء العقائدي لحركة طالبان تربة خصبة لتحالفها مع تنظيم القاعدة، وذلك عقب قرار أسامة بن لادن نقل أنشطة تنظيمه من السودان إلى أفغانستان في الفترة من 1996 حتى 2001، حيث وفرت له الحركة ملاذا آمنا حتى اعتداءات 11 سبتمبر، والتي كانت السبب الرئيسي وراء غزو الولايات المتحدة الأمريكية لأفغانستان واحتلالها لمدة 20 عاما.

هجمات 11 سبتمبر

طالبان.. تغيرت أم ستتغير أم على حالها 

المشاهد التي تابعها العالم منذ دخول طالبان سلميا إلى العاصمة كابول والمؤتمرات الصحفية التي عقدها قادة الحركة تقول إن “هناك تغيرا ما” في أداء الحركة وخطابها، دون أن يعني ذلك مراجعتها لبنيتها الفكرية والعقائدية.

فقد حرص ذبيح الله مجاهد المتحدث الرسمي باسم حركة طالبان أن يطمئن العالم في مؤتمرة الصحفي الذي عقدة أول أمس الثلاثاء، وأكد فيه على أن أفغانستان لن تكون نقطة انطلاق لمحاربة الدول الأخرى، وأنها ستحترم حقوق المرأة في إطار مبادئ الشريعة وحقها في التعلم والعمل، وشاهدنا أحد قادة الحركة يظهر على التليفزيون الأفغاني لأول مرة محاورا مذيعة. والمعروف أن حركة طالبان تكاد تكون هي الحركة الإسلامية الوحيدة التي حظرت على النساء الذهاب إلى المدارس وهو أمر من الواضح أنها ستراجعه.

 

كما أن الحوارات الممتدة على مدار عامين بين الحركة والولايات المتحدة في الدوحة خلقت على المستوي السياسي تفاهمات بين الجانبين، وساهمت في سرعة انسحاب الولايات المتحدة وسرعة سقوط العاصمة سلميا في أيدي الحركة، كما أنها وفق أحد التقارير الغربية عرفت كثير من قادة الحركة طريق الفنادق الفخمة والمولات الحديثة في قطر، وانفتاح اجتماعي على العالم جعلها تضع في اعتبارها أن أفغانستان هي جزء من توازنات قوى عالمية وإقليمية وأن “إمارتها الإسلامية” لا يمكن أن تنعزل عن العالم، وأنها تحتاج منه دعم اقتصادي وتكنولوجي وصحي مستحيل أن تقوم به بمفردها.

 

يمكن القول إن حركة طالبان على مستوى المواءمة السياسية مع الواقع المعاش محليا ودوليا تغيرت، ولكن لازالت بنيتها العقائدية والتنظيمية على حالها، فهي من ناحية “بنية منتصرة” على خلاف جماعات دينية أخرى مثل الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر، حين راجعتا بنيتهما العقائدية عقب هزيمة مشروعهما الفكري والتنظيمي المسلح أمام الدولة، وهو ماجرى عكسه بالنسبة لطالبان التي تعتبر أن بنيتها العقائدية حققت لها انتصارا عسكريا وسياسيا على قوات تتفوق عليها في العدد والعتاد.

 

والحقيقة أن إشكالية التنظيمات الدينية مثل الحوثيين وطالبان وحزب الله والإخوان المسلمون تختلف عن الأحزاب السياسية المدنية ذات المرجعية الإسلامية التي يمكن أن تراجع مواقفها الفكرية والسياسية على ضوء السياق المحيط بها، على خلاف التنظيمات الدينية التي اقتحمت المجال السياسي بشروط التنظيم الديني وليس الحزب السياسي، وبالتالي لا يمكن الرهان عليها بأن تكون عنصر مساعد “لا سمح الله” في بناء عملية انتقال ديمقراطي أو دولة قانون. 

 

موقف بايدن من الحوثيين يثير الكثير من الغموض
الحوثيون نموذج لصعود الإسلاميين في المنطقة

صحيح أن ذلك لا يعني عدم التفاوض معها ومحاولة الوصول لتفاهمات أو اتفاقات، ولا يعني أيضا أنها لن تراجع تكتيكاتها وأدواتها أو شكل خطابها، فكل ذلك وارد مراجعته، ولكنها لن تراجع بنيتها العقائدية إلا لو أعيد بناءها على أسس جديدة تختلف عن الصيغة الدينية التي قامت عليها، وهو أمر يحتاج لعقود من الزمان وبناء دستوري وقانوني يفصل بين التنظيمات الدينية والمجال السياسي والحزبي، وهو أمر غير وارد حاليا بالنسبة لطالبان والسياق الأفغاني.

نعم تغيرت طالبان من حيث المواءمة السياسية وخطاب التطبيع مع العالم، ولكنها من حيث البناء الفكري والعقائدي لم تتغير، ونسأل الله أن يحفظ الشعب الأفغاني ويوفقه في العيش بكرامة في أرضة، وألا تحرم نساؤه من التعليم والعمل.