كان الالتباس حاضرًا منذ اللحظة الأولى، وقد تعاظم بمرور الوقت؛ فحين أصدرت نظارة (وزارة) الداخلية “لائحة التياترات”، في منتصف شهر يوليه 1911، لم يكن مفهومًا بوضوح ما تعنيه المادة العاشرة منه بمخالفة “النظام العام والآداب”، فهي إذ تنص على أنه “ممنوع ما كان من المناظر أو التشخيص أو الاجتماعات مخالفًا للنظام العام والآداب، وللبوليس الحقُّ في منع ما كان من هذا القَبِيل وإقفال التياترو عند الاقتضاء”، لم تضع معيارًا محددًا لذلك، ولم يُقدّم أحد تعريفًا قانونيًا إجرائيًا لذلك، حتى قدّم عبد الرازق السنهوري توضيحاته وشروحه على القانون المدني، الصادر عام 1948، ورغم اجتهاده بالغ الدقة، إلا أنه بدوره قدَّم مفاهيم قانونية عامة، فقد خلص إلى أن “الآداب، في أمة معينة وفي جيل معين، هي مجموعة من القواعد وجد الناس أنفسهم ملزمين باتباعها طبقاً لناموس أدبي يسود علاقاتهم الاجتماعية”.

ثم أردف، السنهوري: “إن للدين أثر كبير في تكييفه”، أيّ تكييف الناموس الأدبي، ضمن عوامل أخرى، للدين أثر كبير، لكنه يظل عاملاً ضمن عوامل أخرى تصوغ ذلك الناموس الأدبي لأمة معينة ولجيل معين، وهذه العوامل هي: العادات والعرف والدين والتقاليد وإلى جانب ذلك، بل في الصميم منه، ميزان إنساني يزن الحسن والقبح، ونوع من الإلهام البشري يميز بين الخير والشر، كل هذه العوامل مجتمعة توجد الناموس الأدبي الذي تخضع الناس له، ولو لم يأمرهم القانون بذلك”.

ينبه السنهوري إلى أن معيار الآداب أو “الناموس الأدبي” ليس معياراً ذاتياً يرجع فيه كل شخص لنفسه ولتقديره الذاتي، بل هو معيار اجتماعي يرجع فيه الشخص لما تواضع عليه الناس.

وينبه، السنهوري، إلى أن معيار الآداب أو “الناموس الأدبي” ليس معياراً ذاتياً يرجع فيه كل شخص لنفسه ولتقديره الذاتي، بل هو معيار اجتماعي يرجع فيه الشخص لما تواضع عليه الناس. وهو في ذات الوقت معيار غير ثابت، يتطور تبعاً لتطور الفكرة الأدبية في حضارة معينة فهناك أمور كانت تعتبر مخالفة للآداب فيما مضى، كالتأمين على الحياة والوساطة في الزواج والعري، أصبحت الآن ينظر لها نظرة أخرى. وهناك بالعكس أمور أصبحت الآن مخالفة للآداب، كالاسترقاق وإدخال المهربات في بلاد أجنبية، وكانت من قبل غير ذلك.

اقرأ أيضًا: النظام العام (1-2)

ويشدد، السنهوري، على “أن النظام العام والآداب هما الباب الذي تدخل منه العوامل الاجتماعية والاقتصادية والخلقية، فتؤثر في القانون وروابطه، وتجعله يتمشى مع التطورات الاجتماعية والاقتصادية والخلقية في الجيل والبيئة. وتتسع دائرة النظام العام والآداب أو تضيق تبعاً لهذه التطورات، وطريقة فهم الناس لنظم عصرهم، وما تواضعوا عليه من آداب، وتبعاً لتقدم العلوم الاجتماعية”.

بين لائحة التياترات (1911) وشروحات السنهوري (1948) حدث الكثير فيما يتعلق بـ “الآداب”، فقد تراجع “التياترو”/ المسرح، ورسخت السينما وجودها في الصدارة، وباتت هي مناط “المنع” والرقابة.

وأخيرًا يحدد، السنهوري، فكرتين تسودان النظام العام والآداب، وتبعثان فيهما الخصب والمرونة والقابلية للتطور هما: فكرة المعيار، فـ”معيار النظام العام هو المصلحة العامة، ومعيار الآداب هو الناموس الأدبي، وهما معياران موضوعيان لا ذاتيان”. وفكرة النسبية، فـ “لا يمكن تحديد دائرة النظام العام والآداب إلا في أمة معينة، وفي جيل معين”.

بين لائحة التياترات (1911) وشروحات السنهوري (1948) حدث الكثير فيما يتعلق بـ “الآداب”، فقد تراجع “التياترو”/ المسرح، ورسخت السينما وجودها في الصدارة، وباتت هي مناط “المنع” والرقابة.

هذا ما نراه في قانون الرقابة، الذي أصدره الرئيس محمد نجيب، قائد ثورة الجيش، قانون رقم 430 لسنة 1954، ولنتذكر مادته الأولى “تخضع للرقابة الأشرطة السينمائية ولوحات الفانون السحري والمسرحيات والمنولوجات والأغاني والأشرطة الصوتية والإسطوانات أو ما يماثلها وذلك بقصد حماية الآدابُ العامة والمحافظة على الأمن والنظام العام ومصالح الدولة العليا”.

*******

وبين التاريخين وسع “الجيل/ الأجيال”، والتطورات الاجتماعية والاقتصادية والخلقية، وطريقة فهم الناس لنظم عصرهم، دائرة “الآداب”، كثيرًا. وقد خاض الكتاب والفنانون معارك ضارية لتوسيع تلك الدائرة، وفي مرات كثيرة كان الجمهور هو العامل الحاسم الذي رحب وساند ورعى تلك الجهود.

فحين عرض فيلم “رصاصة في القلب” (مارس 1944)، وهو خامس أفلام محمد عبد الوهاب، هاجم بعض الصحفيين والكتاب الفيلم بعنف، وطالبوا بحذف المشهد الذي يغني فيه عبد الوهاب أغنية “الميّه تروي العطشان”، واعتبروه مخالفًا للآداب؛ لأن عبد الوهاب يظهر فيه عاري الصدر، ثم يقوم بحركات توحي بأنه يتجرد تماما من ملابسه الداخلية، ثم في نهايته تظهر الفنانة راقية إبراهيم وتراه على هذه الصورة المتخيلة (عاريا تماما)، وتكاثفت “الحملة” على المشهد “غير الأخلاقي”، وطالبوا بتنفيذ “لائحة التياترات”، وحذف الأغنية من الفيلم، وشملت “الحملة” كل من شارك في الفيلم، ومن بينهم صاحب “الرواية” توفيق الحكيم، لكن الجمهور ساند “العري”، وزاد إقباله على الفيلم.  

المدهش أنه في عام 1978 أصدر مجلس قيادة الثورة في العراق قرارًا بمنع عرض أو إذاعة مائة فيلم وأغنية في الإذاعة والتلفزيون، لأنها تخالف الآداب، وكان من بينها فيلم “رصاصة في القلب”، وأغنيتي: “الميّه تروي العطشان”، و”بلاش تبوسني في عينايا”.

أغنية محمد عبد الوهاب الميّه تروي العطشان من فيلم رصاصة في القلب 1944

**********

في العام التالي عرض فيلم “سلامة”، الذي تغني فيه أم كلثوم أغنية “الفوازير” والتي تعرف أكثر بكلماتها الأشهر “جلي ولا تخبيش يا زين”، وهاج صحفيون، وثارت حملة على الأغنية وكلماتها، وفعل الجمهور مع أم كلثوم نفس ما فعله مع عبد الوهاب، وأكثر.

كانت أم كلثوم قد قطعت شوطا طويلا ينطبق عليه تعبيرات السنهوري بدقة: “فما كان مخالفًا للآداب لم يعد كذلك”، فالصحافة الفنية تنقل لنا بعض أجواء رافقت تجهيزات فيلم “وداد”، أول فيلم سينمائي لأم كلثوم، والذي عرض في فبراير 1936، فأثناء عرض المخرج الألماني، فريتز كرامب، سيناريو وحوار الفيلم عليها “ضربت أم كلثوم بيدها علي صدرها صائحة: يادهوتي، فسألها المخرج: فيه إيه يا ست؟، فقالت: واحد ينام علي حجري في الرواية!، وده مين بأه؟، فيجيبها: ده علام (الممثل أحمد علام) اللي راح يمثل الدور الأول، فترد أم كلثوم: لا ، لا، لازم تعرف حضرتك إن التقاليد الشرقية لا تسمح لا للممثل الأول، ولا للممثل الأخير إنه ينام على حجري .. وأقول إيه للناس؟!”. ثم أصرت على أن يتضمن عقدها مع الشركة المنتجة شرطًا ينص على أنه “يجب أن تراعى التقاليد الشرقية في الرواية”.

اقرأ أيضًا| النظام العام (2-2)

لم تخرق “الفوازير” التقاليد الشرقية، لكن كلماتها، خاصة مقطع “القبلة” أثارت عاصفة من الهجوم، أكثر بكثير من عاصفة “شعر صدر عبد الوهاب”، وقد نجح المخرج توجو مزراحي نجاحًا كبيرًا في إخراج تلك الأغنية بحيث كانت حركة الكاميرا متناسبة مع إيقاعات الأغنية، وأضحت “الفوازير” أحد أنجح أغنيات أم كلثوم في أفلامها، وقابلها الجمهور بحيوية مشابهة فذاعت شهرتها، ووزعت الأسطوانة التي سجلت عليها الأغنية توزيعا قياسيا، وقتها، في مصر والبلاد العربية.

أغنية الفوازير لأم كلثوم من فيلم سلامة 1945

******* 

قبل أن يصدر الرئيس محمد نجيب، قائد ثورة الجيش، قانون الرقابة، بنحو شهر، أصدر قانون رقم 427 “بشأن منع الأحداث من دخول دور السينما وما يماثلها لمشاهدة ما يعرض فيها من الأشرطة السينمائية وغيرها”، وتقدم لنا ديباجة القانون، التي عرضها على مجلس الوزراء وزير الشئون الاجتماعية (كمال الدين حسين)، نموذجًا لمدى طغيان الرغبة في السيطرة على “الجماهير”، فهي (الديباجة) تعتبر أن السينما والمسارح وما يماثلها تقوم بدور خطير في شتي نواحي الحياة الاجتماعيةـ إذ هي أداة للتهذيب والتثقيف ووسيلة من وسائل التسلية وتمضية أوقات الفراغ، إلا أنها قد تكون أخطر الوسائل في انحراف الأفراد ذوي النفوس الضعيفة أو الأحداث الذين لم يكتمل نضح عقولهم بالقدر الذي يسمح لهم بتفهم ما يعرض عليهم الفهم الصحيح. وقد لوحظ فعلا انتشار بعض الجرائم بين الشباب في مصر نتيجة لما تصوره لهم عقولهم القاصرة على أثر ما يشاهدونه في مثل هذا الدور”.

من المؤكد أننا لا نزال نتذكر تأكيد السنهوري إلى الدور الذي يقوم به “الجيل” في توسيع دائرة الآداب، ومنه يمكننا أن نتصور سعي كمال الدين حسين لكبح هذا الدور، فالجيل، أي جيل “الضباط الأحرار”، الجيل الذي سينشأ في ظلهم يحتاج لرقابة صارمة.

وما قدمه وزير الشئون الاجتماعية أحدث عاصفة تشريعية فهو يتعلق بنشاط أربع وزارات على الأقل راحت تلهث وراء مطلبه “وضع مشروع قانون يمنع دخول الأحداث دون سن 16 سنة دور السينما والأماكن الأخرى التابعة لها إذا كان في مشاهدتها ضرر لهم”.

كمال الدين حسين وصلاح سالم
كمال الدين حسين وصلاح سالم

تحديد فئات عمرية يسمح لها فقط بمشاهدة بعض الأفلام إجراء لا عيب فيه، لكن ذلك يحدث في مجتمعات لا تفرض رقابة من الأساس على إنتاج واستيراد المصنفات السمعية والسمعية البصرية. 

تعاقب قانونا “منع الأحداث من دخول دور السينما”، وقانون الرقابة، يمكن النظر إليه من زوايا عدة، فهناك أولاً ذلك التنافس (الصراع) بين كمال الدين حسين وصلاح سالم، فوزير الشئون الاجتماعية يبادر بالدخول إلى تخصصات وزير الإرشاد القومي، وتخصصات وزارة العدل والداخلية، وهما الاثنان يتصارعان أيهما يحمي الأخلاق والمجتمع، كما لا يمكن فهم حدة تلك العبارات إلا من منطلق تنافس وصراع أوسع مدى، فثورة الجيش كانت قد عصفت للتو بجماعة الإخوان المسلمين، وليس أفيد وأكثر تأثيرا من أن يزايد الضباط على الإخوان، في مجال حماية الفضيلة والأخلاق ومنع الأحداث من دخول دور السينما.

*******

طرفتان:

الأولى: أن فيلم “أبي فوق الشجرة” الذي عرض في فبراير 1969، والذي يتذكره البعض باعتباره الفيلم الذي كان المتفرجون يعدون فيه عدد القبلات، كان يعرض في خضم حرب الاستنزاف التي أعقبت هزيمة 5 يونيه، وأن الاتحاد الاشتراكي العربي، التنظيم السياسي الوحيد في البلاد، والذي يرأسه رئيس الجمهورية مباشرة، كان يقوم بتوزيع تذاكر الدخول للفيلم في بعض الأحياء الشعبية من خلال لجنة دعم المعركة.

وهذا مما لا شك فيه كان يؤلم أنصار “السينما تهذيب وإصلاح”، وكأن “جيل” ثورة الجيش قد وصل لمكانته المنشودة

الثانية: أن القرار الوزاري قرار رقم 220 لسنة 1976 بشأن القواعد الأساسية للرقابة على المصنفات الفنية، والذي أصدره وزير الثقافة والإعلام عبد المنعم الصاوي، والذي يعد فلتة خارقة في معايير الرقابة، كان يسوق ضمن تحولات السادات نحو الانفتاح والحرية والديمقراطية. والقرار مذهل في محدداته، لكن ديباجته كاشفة أكثر، فالرقابة بموجبه تهدف إلى “تأكيد قيم المجتمع الدينية والروحية والخلقية”، ثم بالإضافة إلى المحافظة على الآداب العامة والنظام العام، فإن من دور الرقابة “حماية النشء من الانحراف”.

وهذا القرار إذا طبق بحق فسيمنع من العرض الأفلام الثلاثة التي ذكرناها سابقا، فظهور النصف الأعلى من جسم عبد الوهاب عام 1944، يتعارض مع الفقرة (7) من القرار “إظهار الجسم البشرى عاريا على نحو يتعارض مع المألوف وتقاليد المجتمع وعدم مراعاة ألا تكشف الملابس التى يرتديها الممثلون عن تفاصيل جسمانية تؤدى إلى إحراج المشاهدين أو تتنافى مع المألوف فى المجتمع، أو إبراز الزوايا التى تفصل أعضاء الجسم أو تؤكدها بشكل فاضح”. أما أم كلثوم وعبد الحليم فستمنعهما أكثر من فقرة، فما فعلوه أكثر مما فعله شعر صدر محمد عبد الوهاب.