ترانيم وابتهالات في وسائل المواصلات العامة. يراها البعض تنشر البهجة ويحاول مرددوها الاستعانة بها على مشقات الحياة. فيما يعبر آخرون عن مخاوفهم من أن تتحول إلى إعلاء للمظهرية الدينية، وإعلان الوجود ما يمثل اعتداء على خصوصية ركاب المواصلات العامة، وفي القلب منهم رواد مترو الأنفاق.
في طريق عودتهم من إحدى الكنائس. استقل فريق أغابي للترانيم والتراتيل القبطية مترو الأنفاق. وكانت عربة المترو تخلو من الركاب إلا قليلًا.
أعضاء الفريق وثلاثة ركاب آخرون بينهم سيدة محجبة هم كل من كانوا في العربة. ما أغرى أعضاء الفريق بالبدء في فاصل من الترانيم للسيدة العذراء أثناء صومها. وهي الترانيم التي تتلى في الكنائس هذه الأيام. فرددوا “مريم اسمك غالي علي” وحين زاد الصوت كان بقية الركاب قد هموا بالنزول دون أن يظهر الفيديو الذى أصبح مثارًا للجدل على مواقع التواصل الاجتماعي. السبب في مغادرة بقية الركاب. هل هي محطة الوصول أم إنه الانزعاج من هذا التعدي على الخصوصية في المواصلات العامة؟
اعتداء على الخصوصية
لا تخلو عربات مترو القاهرة ممن يتلو القرآن بصوت عال، أو هؤلاء الذين يستمعون إليه عبر الهواتف المحمولة. أو حتى الباعة الجائلين الذين ينادون على بضائعهم وهي الحجج التي رأى مؤيدو فريق الترانيم أنها أفعال طبيعية يصادفها كل من يستقل المترو في العاصمة.
غير أن البعض الآخر رأى أن ما فعله فريق أغابي يشكل اعتداء على خصوصية الركاب وليس من تعاليم المسيحية في شيء. إذ يقول الإنجيل “«وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ!” (ممت 6: 5).
بينما يؤكد إنجيل متى إن مثل تلك الأفعال غير محببة في المسيحية. لكن حالة فريق الترانيم والمؤيدين لها يمكن أن ينظر إليها من زاوية ثانية. فقد تشكل حالة من الرغبة في إعلان الوجود وسط الأغلبية المسلمة التي تصدح بالأذان والصلوات على المنابر كجزء من طبيعة الدعوة الجهرية للإسلام. الأمر الذي يرى الأقباط أنه قد لا يحترم خصوصيتهم خاصة في تلك الحالات التي يصر فيها بعض المسلمين على تعليق ميكروفونات المساجد لتواجه ساحة الكنيسة أو بناية يمتلكها قبطي.
تجاذبات سياسية واجتماعية
تلك التجاذبات التي حفلت بها الحالة المصرية لسنوات ماضية بعيدا عن سجالات السوشيال ميديا. صارت أوضح اليوم في عصر الفيديو. إذ انتقلت تلك النقاشات إلى ساحات مواقع التواصل الاجتماعي الافتراضية كبديل عن الواقع الفعلي المزدحم بهذه الممارسات.
الباحث ماركو الأمين المتخصص في التراث الكنسي. يرى إن الإسلام يأمر أتباعه بالجهرية. فيؤذن للصلوات الخمس علانية. وأن المسلمين يصلون في الشوارع وفي أي مكان وهو الأمر الذي يختلف جذريا عن الحالة المسيحية.
إعلاء المظهرية الدينية
وبحسب ماركو: فالصلوات تتم أمام مذبح الكنيسة وبطريقة طقسية ما انعكس على طبيعة العبادة نفسها. كما أسس لها المسيح في العهد الجديد فيقول:”وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً.” (مت 6: 6).
وأضاف: ومن ثم فإن الترنيم في وسائل المواصلات العامة ليست من الأمور المحببة عقائديا. حتى وإن كان الأقباط المصريون يعيشون في سياق اجتماعي مختلف.
كمال زاخر الكاتب المتخصص في الشأن المسيحي يقول. إن قراءة تلك الواقعة لابد وأن تتم في سياق اللحظة والزمان والمكان والمرحلة العمرية لهؤلاء الشباب. ولكنها ستدعم إعلاء المظهرية الدينية في المجال العام وهي وقائع يرفضها المسيحيون بشكل يومي. معربا عن تخوفه من أن تتحول تلك الممارسات إلى نسق حياة يومي يتم توظفيه سياسيا وسط سعي محموم من القوى الراديكالية والدينية لتوظيف ذلك.. مؤكدا أن الدولة المدنية تحمي الحريات الشخصية وتدفع الجميع إلى ممارسة الخصوصية الدينية في دوائرها وفي أماكنها المخصصة لذلك ليبقى المجال العام متسعا للجميع.
المترو.. ساحة لتوظيف الإسلام السياسي
ظل مترو القاهرة لسنوات طويلة انتهت بإزاحة الإخوان المسلمين من الحكم بعد عام واحد من وصولهم إلى السلطة. يشكل انعكاسا للساحة السياسية والاجتماعية.
كانت عربات المترو مسرحا للترويج لمرشحي الانتخابات الرئاسية التي تمت بعد ثورة يناير. إذ كانت ملصقات المرشحين معلقة في العربات ثم استقر الأمر بعد أن وصل الإخوان إلى الحكم فعمدت بعض الجماعات الإسلامية إلى استخدامه للدعوة. باعتباره وسيلة مواصلات يتردد عليها ملايين المصريين يوميًا. وقد يضطر الراكب إلى قطع مسافة تزيد عن الساعتين تستغل في الترويج لحملات دينية وسياسية حتى إن بعض الجماعات كانت تعقد دروسها فوق مقاعد المترو.
في عربة السيدات يمكنك أن تسجل دفترا لأحوال المدينة فتستمع إلى أنين الطبقة الوسطى التي تشكو غلاء الأسعار ومطاردات الشرطة للباعة الجائلين. وحتى طرق البيع المبتكرة التي يقدمها هؤلاء حين يتفننون في المناداة على بضائعهم. إلا أن فيديو فريق الترانيم ينذر بدخول مكون جديد على ساحة المترو وهو الأقباط إذا ما تجاوزت تلك الواقعة فرديتها وصارت نسقًا متبعًا من شباب الكنائس في المناسبات المختلفة.