أثار خبر محاولة أم لدهس ابنتها بسيارتها في مدينة الإسماعيلية. عقابًا لها على رغبتها في خلع الحجاب. غضبًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، مطلع شهر أغسطس الجاري. لتفتح هذه الواقعة من جديد مسألة الحجاب في مصر، والجدل الدائر بين رمزيته الدينية والبعد الاجتماعي في الوقت نفسه. خاصة مع وجود العديد من الفتيات والنساء اللواتي ارتدين الحجاب في مرحلة ما بكامل إرادتهن – بل أحيانًا بمعارضة الأهل- لكن حينما قررن خلعه، كان العنف والإيذاء عقوبتهن المنتظرة على ممارسة حقهن في أجسادهن، من أجل نصرة الأبوية والوصاية المجتمعية على أجساد النساء.

وبعد لجوء الفتاة إلى الشرطة لتحرير محضر ضد أمها التي حاولت قتلها. خرجت الأم في مقطع مصور في حالة ثورة عارمة، تدين فيها أفعال ابنتها، وتدافع عن حقها في “ضربها” وتعنيفها، لتأديبها وإحسان تربيتها التي “تعبت عليها” منذ أن غادر الأب وألقى بالمسؤولية الكاملة على الأم.

https://www.youtube.com/watch?v=DED_Hjvxgko

المايوه أو الحجاب الكامل

ردًا على إلحاح أمها لعدم ارتداء “المايوه”، بحجة أنها تخرجت من الجامعة، ولا يليق بها الظهور بملابس بحر كاشفة، بالإضافة إلى أحاديث “الخالات” اللاتي باتت لا تتحملها الأم، قررت مها عبد العزيز ارتداء الحجاب، فقط لمجرد العند مع أمها بسبب مشاجرة “المايوه” تلك لعدم اقتناعها بأن تكون غير محجبة وفي نفس الوقت غير قادرة على اللبس بحرية. لكن على عكس المتوقع، واجهت مها رفضًا شديدًا من الأم للحجاب، خاصة وأنها كانت تعمل في ذلك الوقت في أحد البنوك، وكانت حجة الأم وقتها أنها لا يجوز أن ترتدي الحجاب وهي تعمل في هذا القطاع. حتى تظل في صورة مناسبة لوظيفتها، وكي لا تتقلص فرصها في العمل.

بعد مقاومة من الأهل، ارتدت مها الحجاب في عام 2002، قبل أن تغير مجال عملها وتتجه إلى التدريب السياسي بعد الثورة التي شكلت جزءًا كبيرًا من وعيها بنفسها. وتتغير أفكارها بالكامل ليصبح الحجاب “عبئًا” عليها لا تستطيع تحمله أكثر من ذلك:”مش عايزة أبقى محجبة.. مش حاسة إن ده معبر عني وعن أفكاري”. لكن هنا انقلبت الآية بأكملها، والمقاومة التي بذلتها الأم لحجاب الابنة، تحولت إلى الجهة الأخرى لمنعها من خلعه.

استخدمت الأم الوصم، كسلاح في وجه ابنتها كي لا تخلع الحجاب، بالتنمر على جسدها ووزنها “الزائد” تارة. وتحذيرها من تلوث سمعتها وسط الجيران والناس كامرأة متزوجة وأم لطفلين، “شكلك هيبقى ست مش محترمة وست عايزة تعمل علاقات”.

لم تكن أمها فقط هي المعارضة الوحيدة لخلع الحجاب. بل انضم زوجها للفريق رافضًا أن تظهر أم طفليه بشعرها للعلن. حتى أنه كان يرفض الظهور معها في أماكن عامة، تعبيرًا عن الشعور بـ “الإهانة” جراء خلعها للحجاب.

استمر وصم الأم وابتزاز الزوج لفترة من الزمن، قبل أن يتقبلا الأمر الواقع في نهاية الأمر، وترضى مها عن قرارها في المرتين سواء بارتداء أو خلع الحجاب.

الصحوة الإسلامية

لم يكن الحجاب يحظى بهذا القبول والانتشار الواسع في مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. بل على العكس، كانت هناك مقاومة مجتمعية وسياسية للنساء اللواتي رغبن في ارتدائه. باركها النظام الناصري الذي كان يعكس فكرًا تقدميًا آنذاك. حتى أن عبد الناصر نفسه ظهر في أحد خطاباته ينتقد رغبة الإخوان المسلمين في تحجيب النساء، في وقت لم يكن الحجاب فيه يمثل الهوية المصرية.

وبرغم أن التفسير الشائع لانتشار الحجاب في فترة السبعينات والثمانينات. هو هجرة الكثير من الأسر المصرية إلى الخليج في عهد الرئيس الراحل أنور السادات. واجتياح الفكر الوهابي للمجتمع المصري. إلا أن الأكاديمية الدكتورة هند أحمد زكي، ترى أن هذا التفسير يعد قاصرًا إلى حد بعيد، حيث بدأت الصحوة الإسلامية – وهي العنوان الرئيسي للتغير الذي طرأ على المجتمع المصري- مبكرًا عن ذلك، وتحديدًا منذ هزيمة 1967، التي حطمت آمال المصريين في الدولة الناصرية التقدمية الحديثة. وبالتالي البحث عن نموذج مجتمعي بديل. الذي كان حاضرًا بالفعل لكنه كان على هامش المجتمع، وهو التيار الإسلامي الذي أسس لها الفكر الديني المتشدد بداية من الثلاثينات بفعل سيد قطب وحسن البنا وحركة الإخوان المسلمين. خاصة في وقت لم يكن مسموح لهذه الحركة بالانخراط في العمل السياسي. ما أدى إلى اتجاهها للعمل “الدعوي”، الذي عمق من وجود هذا الفكر في المجتمع.

بالتالي لا يمكن التعويل على الغزو الوهابي في تفسير الصحوة الإسلامية، وكان هدفها الأساسي أسلمة هذا المجتمع. ما يفسر وجود هذا التمسك من قبل الأسر التي اعترضت من قبل على ارتداء بناتها الحجاب، بمنع خلعه، بعدما طالت الصحوة جميع طبقات المجتمع. خاصة البرجوازية والشرائح العليا للطبقة المتوسطة. عبر خطاب مجتمعي حول ذنب النساء في الفتنة، وأن الحجاب عنوان العفة، وانتشار شعارات مثل “ينتهي الغلاء عندما تتحجب النساء” وهكذا.

معايير مزدوجة

“مكانوش مشجعين على الحجاب إطلاقا ووالدتي نفسها اتحجبت في سن كبير عشان ضغط المجتمع، إنها أم وزوجة وكبرت في السن فظهورها بمظهر ملفت يحمل وصمة أخلاقية لها ولزوجها.” تروي هالة عباس “اسم مستعار”  قصتها مع الحجاب، الذي ارتدته هي وأختها بعد ضغط كبير على الأسرة لتقبل بالأمر. خاصة وهي أسرة مهتمة بالعمل السياسي، وذات نظرة تقدمية للنساء خلافًا عن محيطها المحافظ.

عندما قررت الفتاتان خلع الحجاب بعد عدة سنوات. اختلف الوضع في المنزل، والأسرة التي رفضت الحجاب في البداية، كشرت عن أنياب الأبوية المجتمعية المترسخة فيها رغم ادعاء التقدمية طيلة السنوات السابقة. ” كان في خناقة ضخمة في البيت إن لا مينفعش وليه هتقلعيه وشوية وصم لأختي لأنها مهتمة بشكلها ومظهرها بطريقة زايدة عن ثقافتنا كعيلة”، تقول هالة، إن الحاكم الوحيد في هذه القصة، كان “نظرة المجتمع”. حتى أن الأم كانت توافق على خلع الحجاب بشرط أن تقبل ابنتها عروض العمل كمذيعة، باعتبار أن ذلك قد يبرر تصرفها للناس، وليس رغبتها الشخصية غير المعترف بها هنا.

فتيات تقررن خلع الحجاب
فتيات تقررن خلع الحجاب

تؤكد هالة، أن الموضوع لم يكن له علاقة بالدين بالمرة، حتى أن مسألة الحجاب باتت مادة للسخرية والنكات بين أفراد الأسرة في الوقت الحالي، بعد حوالي 3 سنوات من خلعها له، في ظل تغير الأوضاع والقيم التي باتت تحكم الأمر، كانتقالها من مدينتها الصغيرة المحافظة إلى العاصمة واستقرارها بها، بالإضافة إلى تغير علاقة مدينتها الأصلية نفسها بالحجاب وظهور أجيال جديدة عدد النساء المحجبات فيها أقل، وإقبال العديد من المحجبات على خلع الحجاب.

تضيف هند أن الصحوة الإسلامية، تخللها خطابات متناقضة تعكس خللًا قيميًا كبيرًا. مثل ” طالما لبستيه ما تقلعيهوش، طب لبستيه ليه من الأول”. وكأن الحجاب متى لبسته الفتاة تحول إلى سجنها الأبدي.

وفي الوقت نفسه تؤكد أن الدين بشكل عام هو ظاهرة اجتماعية، وأنماط تدين الأفراد تتأثر بالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ما ينعكس بالضرورة على تصورات المجتمع عن النساء وأجسادهن.

خوف زائف

نشأت سحر أحمد “اسم مستعار”. في عائلة تضم أمًا اشتراكية، وأبًا ذو ميول إخوانية. صمم على دخول ابنته مدرسة أزهرية في سن صغيرة. ما أثر سلبًا على نفسيتها في المرحلة الابتدائية. قبل أن تصر الأم على نقلها إلى مدرسة أخرى غير أزهرية.

وافق الأب على النقل بشرط أن تواظب الفتاة على حفظ القرآن ودروس الفقه والشريعة في المسجد. ما جعلها في سن الثانية عشر ترغب بإصرار في ارتداء الحجاب، “بسبب كلام الأخوات”. الأمر الذي عارضته الأم بشدة بحجة، “ايه اللي بتعمليه في نفسك ده؟”، اعتقادًا منها أن ابنتها تريد أن تتحجب فقط “عشان تبقى شبه الناس اللي حواليها”، ولا يوجد داعي لذلك.

مرت سحر بمراحل متعددة في الحجاب من “الإيشارب” حتى “الإسدال”. وصولًا إلى قرارها النهائي بخلع الحجاب تمامًا في آخر عام دراسي لها في كلية الصيدلية.

 

هنا ظهر الوجه الآخر للأم، التي هاجمتها “هجومًا شديدًا” لمنعها من خلع الحجاب. اعتقدت سحر في بداية الأمر أن معارضة الأم، كانت بسبب خوفها من تعنيف أبيها، الذي تحمل معه تاريخًا طويلًا من العنف والإيذاء. لكن سرعان ما أدركت أن الأمر لا يتعلق بالأب في أي شيء، وأن معارضتها نابعة من رغبتها الشخصية.

بالإضافة إلى تعنيف الأم اللفظي. كان لسحر نصيبًا أيضًا من تعنيف الأب الجسدي، ردًا على رغبتها في خلع الحجاب، الذي واتتها الفرصة لخلعه خارج القاهرة. بعد استلامها التكليف الحكومي في محافظة سيناء، ما سهل الأمر عليها.

نساء تواجهن العنف بسبب خلع الحجاب
نساء تواجهن العنف بسبب خلع الحجاب

لكن في الوقت نفسه كانت تضطر إلى تغطية رأسها “حتى لو بسكارف بسيط”، عند العودة إلى المنزل في الإجازات، ليستمر الوضع على ما هو عليه حتى انفصال الأم والأب الذي أنهى الأزمة.

“الصحوة الإسلامية هي مثلث ذو ثلاثة أضلع” تقول الأكاديمية، الدكتورة هند أحمد زكي، مشيرة إلى أن هزيمة 67 والكفر بالمجتمع التقدمي كانت أحد الأضلع الرئيسة للمثلث. ثم هجرة المصريين للخليج والتشبع بالقيم الأكثر “محافظية”. أما الضلع الثالث الذي لا يمكن إنكاره بالطبع، هو وجود هذا الحاضن المجتمعي للفكر الإسلامي منذ بداية الإخوان المسلمين.

حد الجنون

في سن الثانية عشر، قررت أسماء عبد الله  “اسم سمتعار”. ارتداء الحجاب، لتقليد رفيقاتها في المدرسة. ما واجهه أبوها، وعائلته بالكامل بالرفض في البداية. لكن بعد سنوات قليلة، عندما قررت خلع الحجاب في المرحلة الثانوية، “اتهمها” الوالدان بالجنون، حتى وصلت إلى مرحلة قريبة من “الانهيار العصبي”. أدت بها إلى حلق شعرها بالكامل وحرق الكتب، كرد فعل على الضغط الشديد الذي مارساه عليها لعدم خلع الحجاب.

اضطرت أسماء للانتظار حتى ينمو شعرها. لتتمكن من الظهور للعلن بدون حجاب. بعد أن خلعته في المرحلة الجامعية. التي انتقلت فيها للسكن بعيدًا عن منزل الأسرة، والإصرار على عدم الخروج معهم في الإجازات. وصلت المفاوضات مع الأهل في الوقت الحالي إلى لبس “البونيه” أمام الأسرة، في ظل اتفاق ضمني لأفراد الأسرة بخلعه بعيدًا عنهم، وارتدائه أمامهم.

في سياق متصل، ترى الدكتورة هند، أن الصحوة الإسلامية التي سيطرت على المجتمع المصري منذ الثمانينات، وتعمقت أكثر في التسعينات ومطلع الألفينات. أخذت بالفعل في الانحسار منذ عشر سنوات تقريبًا، وتحديدًا منذ ثورة يناير 2011. ليس فقط بسبب فشل الإخوان المسلمين في الحكم. لكن لأن الثورة أيضًا قد أفرزت أعدادًا كبيرة من النساء اللاتي خرجن للمجال العام. وظهور أجيال جديدة من النسويات الشابات اللائي جعلن من العنف الجنسي وأجساد النساء قضيتهن الرئيسية. وبروز خطاب حول قضية الحجاب وتعقيدها، وتسليط الضوء على المعركة السياسية القائمة على أجساد النساء بين الدولة والإسلاميين، وهو خطاب -بحسبها- لم يطرح من قبل في مصر، ولم يكن ليظهر لولا جهود النسويات الشابات اللاتي دخلن الحياة العامة، وطرحنه على أجندة العمل السياسي.

وصم النساء والفتيات بالجنون والاضطرابات النفسية. على خلفية الرغبة في خلع الحجاب، لم يقتصر على مصر فقط، فتشارك فاطمة علي “اسم مستعار”. من فلسطين تجربتها مع أسرتها، التي قررت مصارحتها بخلعها الحجاب في سن التاسعة عشر. خاصة وأنها ارتدته برغبتها الشخصية في الثانية عشر دون ضغط من أحد.

” ردة الفعل سيئة جدًا، الكل بكرهني وأكتر من مرة ضربوني، وهاي كان فيها تنويع مرة أخوي مرة أبوي مرة أخوي التاني مرة أمي”. تقول فاطمة، وتضيف “مرة أبوي هددني يقتلني لاقى إنها ما جابت نتيجة فبالطوشة الي بعدها قرر يقتلني فعلًا وهجم عليّ بالسكين ولولا ربنا وعمي -الله يسامحهم- ولا كان كنت ميتة ومرتاحة حاليًا.”

منع من استكمال الدراسة 

عقابًا على خلع الحجاب حاولت أسرة فاطمة منعها من استكمال دراستها الجامعية. التي تمكنت من إتمامها بصعوبة. لكن مع التخرج والمكوث لفترات طويلة بالبيت. ساءت حالتها النفسية بشكل كبير وصل إلى تشخيصها من قبل أخصائيين نفسيين، باضطراب كرب ما بعد الصدمة. بالإضافة إلى اضطراب الشخصية الحدية، الأمر الذي تعامل معه الأهل على اعتبار أنه ضرب من الجنون وسيطرة “الشياطين” على ابنتهم التي “يستحيل أن تقرر هيك قرار”. فما كان منهم إلا أن يدوروا بها على “أغلب الشيوخ والدجالين من شمال فلسطين لجنوبها” في محاول علاجها من مس الشياطين، من وجهة نظرهم.

بعد مرور 4 سنوات على بداية الأزمة. ما زالت فاطمة تعاني بسبب موقف أهلها. فتضطر إلى خلع الحجاب خارج المنزل – رغم معرفتهم بذلك- ولبسه عند العودة. لكن لم تتمكن حتى الآن من خلعه بشكل كامل وفق رغبتها.

علاوة على ذلك، دبت الكراهية في قلب فاطمة تجاه أهلها بسبب ما تعرضت له : بكرههم وبكره إني بنتهم وبكرة جبني وخوفي منهم”، تضيف فاطمة، التي تؤكد أن ما عاشته من ألم لا يمكن اختصاره في سطور قليلة، لأنه “فعليًا معاناة هائلة ووجع كبير”، بحسبها.

في النهاية، لا شك أن غطاء الرأس الذي يعرف بـ”الحجاب” يحمل رمزية دينية لدى الشعوب المسلمة. لكن من المؤكد أيضًا أن الكثير من المجتمعات الأبوية لجأت إلى تطويع الأداة الدينية لخدمة البنى المجتمعية الذكورية التي تسعى دائمًا للسيطرة على النساء، ورفض امتلاكهن لأجسادهن وحريتها.