من الصعب الادعاء بأن مشكلة العنف وليدة اليوم، أو إنكار ارتباطها بنشأة المجتمعات الإنسانية الأولى. ولكن ربما تغير أنساقها إلى حد القسوة والمبالغة هو ما يستحق التفسير، خاصة في ظل تضخم مشاعر العجز وعدم فهم الإنسان المصري لما يعتريه من تغيرات. ويصبح سؤال المفكر المصري جلال أمين ماذا حدث للمصريين؟ حري بالإجابة.
يعرف المفكر وعالم النفس الدكتور مصطفى حجازي، العنف على أنه لغة التخاطب الأخيرة الممكنة مع الواقع والآخرين. حيث يشعر المرء بالعجز عن إيصال صوته بوسائل الحوار العادي، وحين ترسخ القناعة لديه بالفشل في إقنـاعهم بـالاعتراف بكيانـه وقيمته.
صديقة تقتل صديقتها الشابة طمعا في وظيفتها البسيطة، وزوج يقتل زوجته بعدد مبالغ فيه من الطعنات. سائق توك توك يطعن سيدة وطفلها بعد أن رفضت تحرشه بها، كلها جرائم تنبئ بقدر من العنف المتصاعد وغير المسبوق. يستدعى تدخل خبراء علم النفس والاجتماع، بقدر ضرورة وجود الشرطة.
الأرقام خير دليل
وفقا لنتائج مسح التكلفة الاقتصادية للعنف القائم على النوع الاجتماعي الذي أصدره المجلس القومي للمرأة بالتعاون مع الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء. فإن هناك 5 مليون و600 ألف امرأة يعانين من عنف على يد الزوج أو الخطيب سنويا، وهناك 2 مليون و400 ألف امرأة. أصبن بنوع واحد أو أكثر من الإصابات نتيجة لعنف على يد الزوج أو الخطيب، وأن مليون امرأة يتركن منزل الزوجية نتيجة العنف على يد الزوج.
وتصل تكلفة السكن البديل أو المأوي عندما تترك النساء منازلهن بسبب العنف على يد الزوج تبلغ 585 مليون جنيه سنويا. وتتعرض نحو 200 ألف امرأة سنويا لمضاعفات في الحمل نتيجة العنف على يد الزوج، بينما لم يتعد عدد النساء اللائي يبلغن الشرطة بحوادث العنف 75 ألف امرأة.
وعلى مستوى الأطفال الحلقة الأشد ضعفا في مسلسل العنف الجهنمي، تثبت دراسة أجراها برنامج حماية الطفل بمنظمة “يونيسيف مصر” عام 2016. أن 50% من الأطفال في مصر يتعرضون للعنف الجسدي، ويُعد العنف النفسي أكثر الأشكال التي يتعرض لها الأطفال شيوعًا بنسبة 70% في المنزل. أما بالنسبة للعنف الجنسي للأطفال نتيجة للختان أو غيرها من العادات والممارسات المختلفة كالتحرش والاغتصاب فبلغت النسبة 55% من الأطفال الذين تعرضوا للعنف الجنسي. إلا أن هذه النسبة ارتفعت إلى 93% من الأطفال الذين تعرضوا للعنف، بحسب تصريح لخط نجدة الطفل.
البحث في أسباب العنف
ويضيف عالم النفس مصطفى حجازي الذي يملك وجهة نظر مغايرة “أن استمرار التخلف ومن ثم العنف لا ينتج فقط من استمرار تواجد العوامل الاقتصادية. والاجتماعية التي تسبب التخلف، فحسب، وإنما ينتج أيضاً من الطبيعة النفسية المتخلفة للإنسان. فإذا كنا نريد القضاء على التخلف في المجتمعات العربية. لا يكفي تغيير العوامل الاقتصادية والاجتماعية، كما يحاول ذلك بعض المنظرين. وإنما يتم القضاء على التخلف بإضافة جهد آخر يتوجه إلى تغيير عميق في الطبيعة النفسية للإنسان المتخلف”.
أستاذ علم النفس والاجتماع بالجامعة الأمريكية دكتور سعيد صادق يقول “إن العوامل الاقتصادية المتغيرة لا تخلق شخصا مجرما. لكنها قد تخلق الاستعداد للقيام بسلوك منحرف أو عنيف اجتماعيا، أو أنها تقوي الاستعداد للقبول بهذا السلوك. یساعدها في ذلك العوامل الاجتماعية المحيطة بالشخص، التي تتضافر فيما بينها لدفع الشخص نحو العنف”.
كما يتهم سعيد الصدمات الاقتصادية المتتالية، والتي تساهم بدورها في العديد من الإحباطات العاطفية. على مستوى العنف، وانتشاره بشكل فج.
ولكن صادق يشير أيضا إلى أن المجتمع المصري عنيف بشكل عام، يظهر ذلك في استخدامه للسباب بشكل دائم، على سبيل المثال. ولكنه في الوقت نفسه يؤكد أن أنماط العنف والمبالغة في القسوة هي ما تحتاج وقفة والبدء في علاج أسبابها.
واعتبر صادق أن التراث الديني الذي يكرس بعضه للعنف وللذكورية، يجب تنقيحه، وتطويره. كما أن مرفق العدالة لا يعمل بالكفاءة اللازمة بهذا الصدد، سواء على مستوى إنفاذ القانون أو القوانين الرادعة. فالإفلات من العقوبة هو السيناريو الأقرب للتنفيذ دائما، مما يعد بتكرار حوادث العنف، وتفشيه.
في حين أرجع صادق العلاج الناجع للمسألة إلى الإرادة السياسية، التي انشغلت بالأمن السياسي عن الاجتماعي. فضلا عن أن حوادث العنف أصبحت وسيلة لإلهاء المجتمع عن مشكلاته اليومية الملحة.
قصور المنظومة القانونية
وعن المنظومة القانونية ودورها في علاج المسألة يؤكد المحامي الحقوقي مايكل رؤوف أن مواد القانون لا تغطي كل أنواع العنف. على سبيل المثال خصوصا الزوجي منه، كما أن مواد القانون على مستوى العنف الأسرى تميل إلى الأخذ بالرأفة.
فالمادة 60 من قانون العقوبات تساهم في إفلات مرتكبي العنف ضد النساء من العقوبة في حالات العنف الأسري. حين يُمنح الجاني الرأفة إذا أثبت أن ما ارتكبه كان بنية سليمة، إذ لا يتضمن القانون المصري على نص يجرم العنف الأسري.
كما يمكن استخدام هذه المادة لتبرير العنف الأسرى على أنه حق الزوج في تأديب زوجته وتبرير جرائم الشرف. علاوة على ذلك، فإن الاغتصاب الزوجي غير معترف به في قانون العقوبات.
وفي السياق نفسه وبالرغم من أن القانون لا يتضمن مادة عن جرائم الشرف، إلا أن القتل على خلفية هذه الحوادث يلاقي تحيزا من قبل القضاء لصالح الأهل أو الزوج. ويخفف من الحكم، رغم أن أغلب الإحصائيات تشير إلى أن أغلب هذه الجرائم تقوم على شائعات غير حقيقية. كما انها طريقة يلجأ إليها الجاني لوصم الضحية والإفلات من العقاب، وتستند المحاكم إلى المادة ذاتها لإصدار عقوبات مخففة أحيانا في جرائم الاغتصاب والعنف الجنسي.
من جانب آخر لفت رؤوف إلى عدم وجود قانون مفعل لحماية الشهود والمبلغين حتى الآن، أو نص يجرم العنف اللاحق ويضاعف عقوبته. لمنع اختلال القوى التي يستغلها المعنف لصالحه، قائلا: “إن ما حدث لفتاة المول من تعدي الجاني عليها وتشويه وجهها مثال يجبر الكثيرات على الخوف من اللجوء إلى مرفق العدالة، إلى جانب الوصم الاجتماعي”.
وترجع واقعة فتاة المول إلى عام 2015 حين قام الجاني بالتحرش بفتاة داخل مول في القاهرة وعند القبض عليه ومقاضاته تم الحكم عليه بالحبس لمدة أسبوعين. لاحقا قام المتهم بملاحقة الفتاة للانتقام منها وذبحها بأداة حادة ولكنها نجح في تشويهها عبر جرح قطعي بالوجه.
غياب المجتمع المدني
في كتاب «جعل الديمقراطية تعمل» للعالم الأمريكي «روبرت بونتام» الأستاذ بجامعة هارفارد. يؤكد على العلاقة الوطيدة بين المجتمع المدني والديمقراطية، وبعد أن حاول كل التفسيرات الممكنة خلص إلى تفسير رئيس وهو ما أسماه “رأس المال الاجتماعي”.
يشير الدكتور سعيد صادق إلى أن شعور الفرد بالغبن والتهميش، انعكس على سلوكياته التي غالبا ما تتسم بالعدوانية في هذه الحالة. فيبدأ في توجيهها إلى المجتمع وحتى الذات، وربما هذا ما يفسر تزايد أعداد المنتحرين. فضلا عن تنامي العداء للمجتمع وعدم الشعور بالانتماء للجماعة.
وعن المجتمع المدني انتقد صادق أيضا تخلي الإعلام عن دوره في إيصال صوت الناس إلى المسؤولين. بدلا من العمل على إذكاء العصبية والتحرش، وضرب مثلا على ذلك باهتمام بعض البرامج وكبار مقدمي البرامج بانتقاد ملابس الفنانات. أو سلوك بنات “التيك توك” في تأصيل للرجعية التي تخلف العنف بدورها.
ويعد الإعلام أحد مؤسسات المجتمع المدني التي تضمن في مجملها سلامة المجتمع، والذي يعد في أحد أهم تعريفاته المتفق عليها بأنه شبكة التنظيمات التطوعية التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة. وتعمل على تحقيق المصـالح الماديـة، والمعنوية لأعضائها، والدفاع عن هذه المصالح. وذلك في إطار الالتزام بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح السياسي والفكري، والقبول بالتعددية والاختلاف، والإدارة السلمية للاختلافات.
مايكل رؤوف: المجتمع المدني بمؤسساته بمثابة همزة الوصل بين الأسرة والدولة. وأن غيابه عن المشهد بمثابة غياب الوسيط الذي من أهدافه العمل على توصيل صوت الجمهور إلى المؤسسات الرسمية. والعمل على حل مشاكلهم، فيعمل على تخفيف الضغط والحول دون الانفجار المجتمعي الذي يعد العنف أحد ظواهره.
رؤوف يرثي حال المجتمع المدني الذي أصبح بمثابة الجثة الهامدة سواء على مستوى مؤسساته الحقوقية التي تعطل العمل في أغلبها. أو في النوادي التي أصبحت الممارسات الانتخابية فيها على نطاق ضيق أو معدومة، محذرا من ضرورة تمكين الناس. وتخفيف الضغط عليهم على كافة الأصعدة، قبل تفاقم الأوضاع بشكل لا يمكن التعامل معه.