كنت أشاهد برنامجا تلفزيونيا يتكلم عن الخير ومساعدة الناس، حين استخدم مقدم البرنامج ذلك المثال الذي كان يُحكى لنا صغارا «لو تركت مكانك لرجل عجوز في الأوتوبيس ستجد من يترك لك مكانه حين تكبر في السن»، وبعيدا عن الأمنيات بأن لا تستمر أزمة المواصلات إلى الأبد، وبأن يجد كل مواطن مكانه دون أن يضطر للوقوف من أجل أحد، فإن ذلك المثال، طيّب النية، ذكّرني بطريقة التنشئة الخرافية التي تلقينها صغارا، في البيت وفي المدرسة، والتي لا يتوقف أثرها عند تربية «العشم» عند الناس بعالم غير واقعي، مما يتسبب لهم في صدمات متتالية كلما خاضوا في الحياة، بل أيضا، تنشئ طريقة التفكير تلك أناسا يفكرون في الخير على أنه عملية شبه تجارية، عملية مقايضة نمارسها كي نتلقى المقابل؛ كرسي في الحافلة لقاء كرسي في الحافلة، ومساعدة لمحتاج مقابل بركة في الرزق، وهكذا. ومن نافلة القول، إذا ما استبعدنا التفكير الرغبوي (الذي يرى العالم كما نرغبه لا كما هو فعلا)، أن العالم لا يعمل بهذه الطريقة.
وكما تجري الآن عملية تطوير جريئة في التعليم لأول مرة منذ سنوات طوال، وكما تعتمد تلك العملية – في الحدود التي اطلعت فيها عليها – على الفهم أكثر من المحفوظات ورصّ الكلمات في الصفحات، فربما يكون من المهم أيضا، أن تتضمن عملية التطوير تلك، تركيزا على طرق التفكير العملية الممنهجة، ونقد الادعاءات، وفهم كلمة «معلومة»، والقدرة على التعامل مع الخبر وتمييز الشائعة من الحقيقة، وقتل التفكير الخرافي والرغبوي في مهده.
يقولون – وهم على حق- إن المعلومات العامة موجودة في الموسوعات أما العقل فعليه أن ينشغل بمنهجية التفكير العلمي، فهكذا يكون قادرا على إنتاج العلم وفهمه، أو على الأقل تمييز الغث من السمين، وبالطبع فإننا حين نتكلم عن المدارس، خصوصا المراحل الأولى من التعليم، فإننا نقصد مبادئ التفكير، بصورتها المبسطة، والتي يمكن تطبيقها على أصغر الأمثلة. إن العقل البشري فائق الذكاء والخصوبة، خصوصا في مراحله الأولى، وما أن ترمي له البذرة حتى يتولى بكفاءة ريّها وإنمائها، فإن كانت تلك البذرة علمية منهجية، فإنها ستثمر نبتا يفهم أو يحاول فهم العالم كما هو، يحاول أن يبتكر ويخترع ويضيف إلى الوجود، وإن كانت البذرة يختلط فيها العلم بالخرافة، والتفكير بالأمنيات، فإنها تنتج ما نراه من أطباء ومهندسين يؤمنون بالحسد و«الأعمال» والسحر والختان.
في الكتب – دراسية وغير دراسية – المعلومات كلها، لكن ما يحتاجه المجتمع حقا، هو أشخاص يفكرون علميا، وإنسانيا، أشخاص يبتعدون عن التنمر، والتحرش، والعنصرية، والكراهية، هذا هو أعظم ما يمكن أن يتعلمه المرء في المدرسة.
لكن ما علاقة ذلك ببذل الخير وبالرجل العجوز الذي تترك له مكانك في الحافلة؟
العلاقة هي الإيهام بوجود بنك سحري يضيف المرء فيه رصيدا كلما فعل شيئا خيّرا، وبأن ذلك الرصيد سوف “يترد له” في يوم ما وفي موقف مشابه في الحياة اليومية. والواقع أن أقرب علاقة ممكنة بين ذلك التصور والواقع، هو أن فعل الخير يزيد احتمالية وجود آخرين يفعلون الخير بدورهم، لأن من يتلقى خيرا يصير أكثر احتمالا لأن يمارس الخير في يوم ما ممن نشأ على القهر والكراهية، أما ما يعود إليك حقا وأكيدا من فعل الخير، هو أنك تشعر شعورا أفضل، فالعطاء أحد أهم الممارسات التي تزيد من إفراز هرمونات الدوبامين والأندروفين والسيروتونين، وهي الهرمونات التي تسبب الشعور بالسعادة، إنها حقيقة علمية وهي أفضل بكثير من الإيهام بمكافأة سحرية وبطفل لم يولد بعد سوف يترك لك مكانه في الحافلة لأنك فعلت الأمر نفسه اليوم.
في الكتب – دراسية وغير دراسية – المعلومات كلها، لكن ما يحتاجه المجتمع حقا، هو أشخاص يفكرون علميا، وإنسانيا، أشخاص يبتعدون عن التنمر، والتحرش، والعنصرية، والكراهية، هذا هو أعظم ما يمكن أن يتعلمه المرء في المدرسة.