يكشف تاريخ أكثر من قرن من بناء السدود أنها تحقق فوائد اقتصادية لا جدال فيها، لكن لا يمكن تجاهل آثارها المدمرة على الأنهار والأراضي المحيطة والسكان والنظم البيئية والحياة البشرية. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن تجاهل حقيقة أن السدود لا تعيش إلى الأبد، وأن لها عمرا افتراضيا، فهي لا تظل تعمل بكفاءة مدى الحياة، تتقادم السدود، وترتفع تكاليف صيانتها وتشغيلها، وتتضافر العوامل الاقتصادية مع آثارها البيئية والاجتماعية، ليتم تفكيكها بعد فترة، طالت أم قصرت. وربما يفسر ذلك -جزئيا- حركة تفكيك السدود في عدد من دول العالم. فهل يتم تفكيك سد النهضة الإثيوبي؟ ومتى؟ ومن يتحمل التكاليف؟!
على الرغم من أهمية أثر سد النهضة الإثيوبي على جودة المياه في نهر النيل، وعلى كل صور الحياة في دولتي المصب، والآثار البيئية والاقتصادية والاجتماعية السلبية التي تنجم عن السد، تغيب هذه القضية في خضم الانتقادات السياسية والقومية التي توجه ضد السد. ربما يرجع ذلك- جزئيًا- إلى نقص المعلومات حول أثر السدود على جودة المياه، خاصة في الدول النامية الواقعة في مناطق خطوط العرض المنخفضة، حيث يتزايد الآن بناء السدود، على الرغم من أن قائمة المشكلات التي تنجم عن السدود طويلة وموثقة. تؤثر السدود الكبيرة في حياة النهر وسكانه وتشكل تهديدًا خطيرا للبيئة ولكل صور الحياة في حوض النهر. يؤدي حجز كمية كبيرة من المياه خلف السد، والتحكم في تدفق المياه وسرعتها وتوقيتاتها، إلى قطع التكامل الطبيعي بين أجزاء النهر.
تؤثر هذه العوامل في خواص التربة والمياه والهواء والغذاء. أمثلة كثيرة من قارات العالم، تؤكد على أن السدود تؤثر في مواصفات المياه والأراضي والغذاء والهواء، وفي كل صور الحياة على الأرض، تتأثر النباتات والحيوانات والطيور والفطريات والحشرات والأسماك والناس. وتمزق السدود المجتمعات المحلية وتشرد السكان الأصليين.. لبناء سد يجب أولا: إجلاء سكان المنطقة المحيطة. تحويل مجرى النهر، وغالبا ما يتم ذلك من خلال حفر سلسلة من الخنادق أو الخزانات. تعطل الخزانات التدفق الطبيعي للمياه، تقطع تكامل أجزاء النهر، وتشطره إلى نصفين، على الأقل. يتحول النهر، من نهر يتدفق بحرية، إلى بحيرة، أو خزان راكد.
تؤثر الخزانات الكبيرة في جودة المياه ومواصفات الأراضي على طول مجرى النهر، وتؤثر في مصايد الأسماك والمراعي، وتزيد من ملوحة خزانات المياه الجوفية في مناطق الدلتا ومصبات الأنهار. تتأثر كل نظم الحياة التي تعتمد على النهر، من الحشرات إلى الطيور والأسماك، والناس. وبمرور الوقت، تمتلئ السدود بالطمي، فتقل كفاءتها، وترتفع تكاليف تشغيلها وصيانتها، ما دعا بعض الدول إلى تفكيك عدد من السدود، بعد تشغيلها لفترة. أحد الأمثلة المحبطة على الآثار السلبية للسدود هو سد الممرات الثلاثة في الصين. هو أكبر سد في العالم، وزادت تكلفته عن 180 مليار دولار. تم اقتراح بنائه لتنظيم الفيضانات في نهر اليانجتسي، وإنتاج الكهرباء، وإظهار المهارات الهندسية للصينين.
لكن الغايات لا تبرر الوسائل، فقد أدى السد إلى تهجير 4 ملايين من السكان من مواطنهم الأصلية، كما تم تهجير الآلاف من سكان النوبة أثناء بناء السد العالي في أسوان. لم يقتصر الأمر على تهجير الملايين فحسب، أدى السد أيضا إلى تدمير نهر اليانجتسي وتراجع جودة المياه في الأنهار الفرعية، وتكاثرت الطحالب سريعا، وتدهورت جودة الأراضي المجاورة، وأدت زيادة الضغوط على الأراضي إلى حدوث عشرات الانهيارات الأرضية خلفت العديد من القتلى، وهو ما يدفع الناس للتفكير في حجم الأضرار الهائلة التي يمكن أن تنجم عن زلزال مثلا.
تأثير بناء السدود على جودة المياه
عام 2019 قدمت ورقة بحثية مراجعة شاملة للمعلومات حول تأثير بناء السدود على جودة المياه، مع التركيز بشكل خاص على السدود في مناطق خطوط العرض المنخفضة. الورقة أعدها أربعة باحثين ونشرت في دورية “العلوم البيو-جيولوجية” التي يصدرها الاتحاد الأوربي للعلوم الجيولوجية. وقام فريق البحث بمراجعة البيانات المتعلقة ب 54 خزانا في مناطق خطوط العرض المنخفضة.
تقول الورقة إن السبب الرئيسي في تغير جودة المياه هو عمليتان فيزيائيتان: التوزيع الطبقي لدرجات الحرارة في الخزان، وحجز الرواسب والمغذيات. ووفقا للورقة، تعاني النظم البيئية المائية في مناطق خطوط العرض المنخفضة من تقلب درجات الحرارة الموسمية، حيث يتراوح الفرق الموسمي في درجات الحرارة بين المياه السطحية والمياه العميقة في البحيرات الاستوائية بين 3-5 درجة مئوية؛ وفي بحيرة سد “كاريبا” على نهر زامبيزي- عند خط عرض 17 درجة جنوب خط الاستواء- يصل إلى ما بين 6-7 درجات مئوية، والتي ثبت أن لها آثارا وعواقب خطيرة، حيث تصرف السدود الطبقات الدنيا من المياه، الأكثر برودة، والأقل في محتوى الأكسجين المذاب.
في كل مناطق خطوط العرض، يؤدي التدفق البطيء للمياه، إلى تغيير في توزيع أنواع وأعداد الكائنات الحية التي تعيش في النهر، لأن كل الكائنات الحية تحتاج إلى درجات حرارة مناسبة لتكمل دورة حياتها وتتكاثر، والكثير من الحشرات واللا-فقاريات المائية، حساس للغاية لأي تغير في درجة الحرارة؛ وعندما تتعطل دورات حياة نوع ما، تكون هناك تأثيرات متتابعة على الأنواع التي تتغذى عليه، اللافقاريات، فرائس أساسية للأسماك والكائنات الحية الأكبر حجما، ونحن نأكل الأسماك.
وتشير دراسات حالة من مناطق خطوط العرض المنخفضة إلى أن الأنهار الاستوائية وشبه الاستوائية عرضة للتأثيرات الحرارية الناجمة عن بناء السدود. فقد أدت التدفقات المنخفضة أسفل سد “كلاماث” في ولاية أوريجون الأمريكية إلى قتل الآلاف من أسماك السلمون. كانت المنطقة موطنا لخمسة أنواع من أسماك السلمون، لكن بعد بناء السدود تراجعت الثروة السمكية التي يعتمد عليها الصيادون في معاشهم. وتأثر سمك القدموراي بشدة بالمياه الباردة من سد دارتموث في فيكتوريا، بأستراليا. وتأثرت مجموعة متنوعة من أنواع الأسماك المحلية بسد كيبيت في نيو ساوث ويلز، أستراليا.
وفي المناطق شبه الاستوائية في الصين، تسببت المياه الباردة خلف السدود في تأخير تكاثر الأسماك لأسابيع. وفي البرازيل الاستوائية تم رصد تغييرات واضحة في معدلات تكاثر الأسماك على مسافة تبعد 34 كم في اتجاه مجرى سد تريس مارياس. وفي جنوب أفريقيا الاستوائية، وجد الباحثون أن تدفقات المياه الدافئة تعزز فرص تكاثر وتفريخ الأسماك، في حين تقلل التدفقات الأبرد -بين 3 – 5 درجات مئوية- من فرص تكاثرها. فالكائنات الحية جيدة التكيف فقط، تستطيع أن تعيش في مياه يقل تركيز الأكسجين فيها عن 2 ملليجرام لكل لتر.
وعندما تكون مآخذ السدود عميقة، تنتقل المياه ناقصة التأكسد في اتجاه مجرى النهر، لتسبب ضررًا بيئيًا كبيرًا. الكائنات الحية الأعلى والأقل تكيفا تضطر للهروب من المياه التي يقل فيها التركيز عن 3-5 مليجرام لكل لتر. وكشفت دراسة أجريت على 19 سدا في جنوب شرق الولايات المتحدة أن 15 منها تطلق مياه يقل تركيز الأكسجين فيها عن 5 ملليجرام لكل لتر، وأن سبعة منها يقل التركيز فيها عن 2 ملليجرام لكل لتر. وتم تأكيد هذه النتائج على بعد عشرات الكيلومترات من السدود. ووجد باحثون أن تركيزات الأكسجين أسفل سد هيوم في أستراليا انخفضت إلى أقل من 50٪ من مستوى التشبع (أقل بكثير من 5 مجم لكل لتر. وتم تسجيل أقل من 5 مليجرام لكل لتر على بعد 150 كيلومترا من سد باكون في ماليزيا.
بالإضافة إلى التأثير المباشر لتدفق المياه ناقصة التأكسد في مجرى النهر، تنطلق داخل الخزان مجموعة من عمليات الأكسدة اللاهوائية؛ والتي قد تؤدي بدورها إلى تغييرات إضافية في جودة المياه.
وتؤدي الزيادة في نسبة الفوسفور إلى تحفيز نمو الطحالب والنباتات المائية الأخرى، ومن الأمثلة الاستوائية المعروفة بحيرة كاريبا، أكبر خزان في العالم من حيث الحجم، لسنوات عديدة بعد الفيضانات، كان ما بين 10 و15٪ من سطح البحيرة مغطى بعشب كاريبا-(سالفينيا مولستا)- أحد النباتات العائمة كبيرة الحجم. الأكسجين المذاب الكافي، ليس ضروريًا لدعم معظم أشكال الحياة المائية فقط، ولكنه ضروري أيضًا للحفاظ على عمليات التنقية الذاتية داخل الأنهار. لذلك وجدت السلطات المسؤولة عن تنظيم المياه في جنوب الولايات المتحدة أن نقص الأكسجين في مياه النهر خطير بما يكفي، لإصدار قرار بأن لا يقل محتوى الأكسجين المذاب في مياه خلف السد في وادي تينيسي عن 4 إلى 6 مجم لكل لتر اعتمادًا على درجة الحرارة.
التدفقات التي تحتوي على نسبة منخفضة من الأكسجين؛ قد تحتوي أيضًا على مستويات سامة من الأمونيا أو كبريتيد الهيدروجين، وتم توثيق وجود كبريتيد الهيدروجين في مياه خلف السدود، فتم رصد أثر كبريتيد الهيدروجين والآمونيا في فقدان تنوع اللافقاريات القاعية أسفل أحد السدود في نهر “جوادالوب” Guadalupe في ولاية تكساس الأمريكية.
ووجد الباحثون الذين قاموا بالتحقيق في معدل وفيات الأسماك تحت سد “جرينز فيري” (Greens Ferry) في أركنساس بالولايات المتحدة الأمريكية، أن تركيزات كبريتيد الهيدروجين تبلغ 0.1 مجم لكل لتر، وهي تركيزات أعلى بكثير من التركيزات المميتة للأسماك والمقررة بناء على دراسات السمية والتي تتراوح بين 0.013 إلى 0.045 مجم لكل لتر. أما التركيزات المميتة من الآمونيا فهي تتراوح بين 0.75-3.4 مليجرام لكل لتر، ولم ترصد البحوث حالات تجاوزت فيها مياه الأنهار هذه العتبات بسبب السدود.
تحجز السدود الرواسب والمواد العضوية في الخزان، وبالتالي تحرم أراضي ومناطق المصب من الطمي والمغذيات الضرورية لتجديد التربة وإنتاج الغذاء. كما تسبب السدود أيضًا اضطرابات في دورة المياه الموسمية، وتقلل من الفيضانات، وتقلل في كمية ومعدل وصول المغذيات إلى السهول الفيضية وأراضي الدلتا. أدى بناء السدود إلى فقدان الكثير من الموائل في مناطق دلتا الأنهار في العالم. وتؤدي قلة المغذيات إلى تأثيرات حادة وخطيرة على النظم الإيكولوجية في اتجاه مجرى النهر، ومثال ذلك انخفاض الرواسب والمغذيات في دلتا نهر “ميكونج” إلى النصف؛ وإذا تم بناء جميع السدود المخطط لها، قد تنخفض النسبة إلى 4 ٪ فقط. وانهيار مصايد أسماك السلمون في بحيرة كوتيناي (Kootenay ) بمقاطعة كولومبيا البريطانية في كندا، ورصدت نتائج مماثلة في البرازيل الإستوائية بسبب سد “سيرجيو موتا” وسد “بورتو بريمافيرا”.
وأدى بناء السدود إلى انخفاض في نسبة عنصر السيليكون في المياه، وهو من العناصر التي يعتمد عليها وجود الكثير من العوالق والنباتات المائية. أدى حبس السيليكون في نهر الدانوب لعقود، إلى تحول في مجتمعات العوالق النباتية في البحر الأسود، بالتزامن مع انهيار مصايد الأسماك الهامة، وتم رصد ظواهر شبيهة في دلتا نهر المسيسيبي وخليج المكسيك. وارتبط بناء السدود بفقدان موائل المنجروف في مصب نهر فولتا في غانا، وتغير شكل (مورفولوجيا) السهول الفيضية الدنيا، وكذلك انخفاض وصول الرواسب إلى دلتا نهر زامبيزي، بسبب سدي “كاريبا” بين زامبيا وزيمبابوي، وسد “كاهورا باسا” في موزمبيق. ومناطق الدلتا في العديد من دول العالم مستقبلها محفوف بالمخاطر، سواء بسبب بناء السدود، أو بسبب تغير المناخ، أو بسببهما معا.
خلصت الورقة إلى أن البناء الوشيك للسدود في مناطق خطوط العرض المنخفضة سوف يؤدي إلى تغيير جودة المياه في نظم الأنهار الاستوائية وشبه الاستوائية، وأن آثار تدهور جودة المياه قد تنتشر لمئات الكيلومترات على مجرى النهر، وبالتالي، قد تكون مصدرًا خفيًا لتدهور البيئة وتدمير خدمات النظام البيئي للمجتمعات في مناطق ودول المصب. وتتوقع الدراسة أن طفرة بناء السدود ستؤدي إلى تفاقم تدهور جودة المياه في الأنهار في مناطق خطوط العرض المنخفضة. وتؤكد على الحاجة إلى تقييم الأثر البيئي الدائم- وطويل المدى- للسدود الكبيرة، وتقترح أنه من الممكن التخفيف من آثار تغير جودة المياه، من خلال مجموعة متنوعة من الأساليب والتقنيات، لكن غالبًا ما يواجه التنفيذ بالعقبات المادية والتكاليف المالية، وتشير إلى نجاح عمليات أعادة التأهيل في بعض المواقع، بسبب دور المؤسسات وتوافر آليات التمويل، وكلاهما نادر في مناطق خطوط العرض المنخفضة.
لسوء الحظ، لا يمكن تغيير الماضي، أو التراجع عن الأضرار التي سببتها السدود، ولكن يمكن أن نتبنى الدعوة إلى إزالة السدود القديمة والمدمرة للنظم البيئية والاجتماعية المحيطة. تفشل السدود لأسباب متعددة، وغالبا ما تصبح بعد فترة من تشغيلها، غير فعالة، أو غير كافية، أو غير آمنة، أو بسبب التقادم، وارتفاع تكاليف تشغيلها وصيانتها، وبالتالي، عدم جدواها الاقتصادية، أو بسبب أضرارها البيئية والصحية والاجتماعية الكبيرة. لماذا إذن نستمر في بناء السدود، إذا كان من المقرر إزالتها بعد فترة وبتكلفة هائلة؟ “السدود لا تعيش إلى الأبد”، هكذا قال المدير التنفيذي لشبكة “الأنهار الدولية” (International Rivers ).
تفكيك سد النهضة -إن تم- لن يكون الأول من نوعه في التاريخ الحديث. قبل عقدين تقريبا بدأت الولايات المتحدة الأمريكية حصر السدود القديمة وإزالتها. أزات الولايات المتحدة أكثر من 1700 سد في مناطق مختلفة بسبب تقادمها وارتفاع تكاليف تشغيلها وصيانتها وآثارها البيئية والاقتصادية والاجتماعية. في عام 2011. أزالت سدين في واشنطون هما سد إيلوا ((Elwha)) وسد جلينز كانيون (Glines Canyon). تم بناء السدين في أوائل القرن الماضي. كان نهر إيلوا غنيا بأسماك السلمون، ولم يضع المصممون الأسماك وموائلها ومسارات حركتها في اعتبارهم، قلل السد من مساحة الموائل والمغذيات، ومنع السلمون من الانتقال إلى أعلى النهر، وبالنتيجة نقص حاد في أعداد السلمون في النهر. وعلى الرغم من أن عملية إعادة تأهيل نهر إيلوا كانت ناجحة، إلا أنها كانت مكلفة، حوالي 351 مليون دولار، واستغرقت سنوات عديدة، بعدها، عاد النهر يتدفق بحرية، وعادت أسماك السلمون لاستعمار النهر.
لا ينبغي أن تكتفي مصر والسودان بالدفاع عن حصص عادلة في المياه، بل يتوجب أن تكون مراقبة جودة المياه من الأولويات على جدول أعمال سد النهضة، وعليهما أن يقدما جردا كاملا بالخسائر البيئية والاقتصادية والاجتماعية للسد، ومن حقهما- وفقا للقانون الدولي- طلب التعويض وجبر الضرر، بل ومن حقهما -أيضا-أن يصلا إلى آخر خطوة وأن يطلبا تفكيك السد. السدود ذات الحجم الأكبر-مثل سد النهضة الإثيوبي- ستكلف أكثر، وستأخذ وقتا أطول، وستترك بصمة بيئية واجتماعية أكبر، على كل صور الحياة في مجرى نهر النيل العظيم.