يبدو موقف أعضاء جماعة الإخوان من سيطرة حركة طالبان على عموم الأراضي الأفغانية، وخاصة العاصمة كابول، متناقضا مع وقائع التاريخ القريبة.. فطالبان، كانت دوما خصما سياسيا وعسكريا، لما يعرف بفصائل “المجاهدين الأفغان” الذين حاربوا الاتحاد السوفيتي عقدا كاملا، وأيدتهم جماعة الإخوان بكل ما أوتيت من قوة، تأييدا ماديا ومعنويا.

فحين دخلت القوات السوفيتية الأراضي الأفغانية لحماية النظام الماركسي الموالي لموسكو.. كان الإخوان رأس حربة في حركة الاستفار الديني، لمواجهة الاحتلال الروسي، وجعلت الجماعة من الحرب في أفغانستان قضية أولى، تتقدم في الفعاليات والحركة كل قضايا العرب والمسلمين، بما في ذلك القضية الفلسطينية، بل وأرسلت الجماعة عددا من أعضائها “للجهاد” في أفغانستان، وكان للإخواني الفلسطيني عبد الله عزام دور بارز في حشد الشباب لمساندة القضية الأفغانية بالأنفس والأموال.. كما أن بعض فصائل المجاهدين كانت محسوبة على تيار الإخوان، لاسيما جماعة برهان الدين رباني، الذي كان أول رئيس للبلاد بعد سقوط انسحاب القوات السوفيتية وسقوط الحكم الشيوعي.

عبدالله عزام القيادي الإخواني
عبدالله عزام القيادي الإخواني

تاريخ قريب

وقائع التاريخ القريب، تقول إن حركة طالبان، حاربت فصائل المجاهدين بعد اختلافهم واقتتالهم، فهي –وفقا لمقتضيات المنطق- كانت عدوا لمن أيدهم الإخوان وساندوهم وبذلوا الجهود الجبارة لنصرتهم.. فاعتبار الإخوان أن هيمنة طالبان على الأراضي الأفغانية، ودخولها العاصمة كابول نصرا للإسلام، يتناقض مع تأييدهم التاريخي الممتد عبر عشر سنوات لفصائل “الجهاد الأفغاني” التي اعتبر الإخوان انتصارهم من قبل انتصارا للإسلام ورفعة لراية الدين.

لكن هذا العجب يتلاشى، عند فهم طبيعة الجماعة العتيقة، ورصد مواقفها من الأحداث والشخصيات والزعماء والقادة خلال ما يقرب من مئة عام.. فالجماعة، ابنة يومها.. يعيش أعضاؤها بلا ذاكرة، ولا تمثل دروس التاريخ أي قدر معتبر في تكوين مواقفهم الآنية.. ويتعمق هذا الإشكال، لأن الجماعة تحاكم العالم من حولها إلى تلك المواقف الآنية التي لا تدوم.. فهي –مثلا- حين أيدت حركة الضباط الأحرار عام 1952، كانت تعادي كل من يعادي الحركة، وتعتبره خارجا عن الموقف الوطني الصحيح، وكان منظر الجماعة سيد قطب من أوائل المفكرين الذين أسبغوا على حركة الجيش وصف “الثورة”، وكتب مؤيدا لكل إجراءاتها الاستثنائية، بما في ذلك تحريضه في مقالات منشورة على إعدام العاملين الشابين محمد مصطفى خميس، ومحمد عبد الرحمن البقري.. لكن بمجرد أن اصطدمت الجماعة بجمال عبد الناصر، انقلب موقفها من تأييد الحركة إلى مواجهتها، وانقلب وصفها لما حدث ليلة 23 يوليو من “ثورة” إلى “انقلاب”.. وبالطبع، نظرت إلى الناس بمنظار موقفها الآني، فصار كل مؤيد للثورة عدوا للجماعة، بل عدوا للدين، مؤيدا للاستبداد والقمع.

أخطاء متكررة

وبعد مرور نحو 6 عقود على هذه الأحداث، كررت الجماعة نفس ما فعلته، فبعد ثورة يناير، طرحت الجماعة نفسها باعتبارها أكبر المؤيدين للمجلس العسكري، وواجهت كل أشكال المعارضة والنقد، وصنفت رموز القوى السياسية باعتبارهم عملاء وخونة وليبراليين علمانيين يحاربون الشريعة ويدعون إلى الانحلال الخلقي.. وظلت الجماعة على هذا الموقف، خلال فترة المجلس العسكري، ثم طوال العام الذي حكم فيه محمد مرسي.. وفقط، ومع بيان الثالث من يوليو، ورغم التأييد الجماهيري الكاسح، أعلنت الجماعة عداءها للجيش وقادته، ووصفتهم بأشنع الأوصاف، وأنكرت الخروج الشعبي الهائل في 30 يونيو، ووصفت الأحداث كلها بـ”الانقلاب”.. وكالعادة، أرادت من الناس أن يتغيروا معها، وأن يصطفوا خلفها في موقفها الجديد، ونظرت إلى كل من خالفها، أو أيد إجراءات القوات المسلحة باعتباره عدوا للدين وخائنا للوطن.

للإخوان رصيد ضخم في تأييد الانقلابات العسكرية في التاريخ الحديث، هكذا فعلوا مع حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952، وهكذا فعلوا مع انقلاب محمد ضياء الحق في باكستان عام 1977 ضد الحكومة المدنية المنتخبة بزعامة ذو الفقار علي بوتو، كما أيدوا بقوة انقلاب عمر البشير في السودان في “30 يونيو” عام 1989

نظرة ذاتية

وتتبدى هذه الذاتية الإخوانية في نظرة الإخوان إلى المشاهير أو رموز الفن والرياضة.. فإذا خالف مواقفها ممثل مشهور مثلا، وصفوه بالسقوط والانحلال، وذكروا بعض أدواره السينمائية أو المسرحية في سياق استخفافي يحقر من قيمته ومن أخلاقه، لكنهم يتغاضون تماما عن كل هذه الانتقادات، عندما يكون هذا الفنان مؤيدا لموقفهم الآني، ومتماهيا مع اختيارهم اللحظي.. فكل فنانة لا تؤيدهم يصفونها بالعهر، وكل عالم دين لا يتبنى موقفهم هو عالم سلطة، وكل كاتب لا يرضيهم هو ممن باع قلمه وضميره، وكل مفكر لا يؤيدهم هو بالضرورة كاره للدين والشريعة.

للإخوان رصيد ضخم في تأييد الانقلابات العسكرية في التاريخ الحديث، هكذا فعلوا مع حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952، وهكذا فعلوا مع انقلاب محمد ضياء الحق في باكستان عام 1977 ضد الحكومة المدنية المنتخبة بزعامة ذو الفقار علي بوتو، كما أيدوا بقوة انقلاب عمر البشير في السودان في “30 يونيو” عام 1989، وكذلك أيدوا إجراءات الجيش الجزائري عقب أحداث عام 1991، وصعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ، بما في ذلك إلغاء نتيجة الانتخابات، وشاركت حركة مجتمع السلم الإخوانية في الحكومات المتعاقبة بعدد من الوزراء، ولم ير الإخوان في هذا جرما، ولم يقولوا لا انتخابات تحت “حكم العسكر”.. بل إن إخوان العراق شاركوا في الحكومة التي شكلها الاحتلال الأمريكي بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003.. وفي كل هذا، يطلب الإخوان من الناس أن يتخذوا نفس مواقفهم، وأن يقفوا على أرضيتهم، ومن يخالف، يجد قائمة الاتهامات جاهزة.

تتعدد مظاهر التناقض في تأييد الإخوان لطالبان، أو فرحتهم بسيطرة الحركة على كابول.. فالجماعة لا تنظر في “الأرشيف”، ولا ترى بأسا في اتهام من يخالف موقفها اللحظي، الذي سيتغير حتما إن عاجلا أم آجلا بكل نقيصة، وصولا إلى التكفير والخيانة والعمالة ونشر الفسوق والانحلال.. وهذا السلوك يصب في صالح الرأي القائل بأن أعضاء الإخوان لا يرون أن جماعتهم تخطئ في شيء، حتى مع اتخاذ الموقف ونقيضه خلال فترة زمنية محدودة، وأنهم يؤمنون عمليا بـ”عصمة الجماعة”.