السياسة هي صياغة الأحلام وتسويقها في مقابل السلطة. هذا التعريف يبدو مبسطا للغاية، ولكنه يظل صحيحا رغم ذلك. فالعمل السياسي يمكن تعريفه بإنه صياغة صورة للعالم الاجتماعي، قابلة للتصديق، ومن ثم قابلة للتسويق. نجاح هذه الصورة في اجتذاب أكبر عدد ممكن من المشترين/المستهلكين/المؤمنين/المؤيدين إلخ، يعتمد على أن يرى هؤلاء أنفسهم في هذه الصورة في موقع أفضل مما هو متاح لهم في أي صورة منافسة. هذه آلية بسيطة وناجحة للتسويق وهي لذلك تستخدم بالفعل في الدعاية للسلع المختلفة. عندما تقدم دعاية مصورة لعطر رجالي، صورة لرجل وسيم ذو جاذبية طاغية تدفع النساء للتهافت عليه، فهي تخلق صورة لعالم يري فيه المشاهد الرجل نفسه في موقع بطل الدعاية؛ أي في موقع أفضل، ويتسلل إلى لا وعيه ارتباط شرطي بين هذه الصورة وموقعه فيها وبين العطر المُروج له. والحقيقة أن صورة العالم الاجتماعي التي قد يقدمها فاعل سياسي قد لا تختلف كثيرا عن مثل هذه الدعاية، فالقابلية للتصديق قد لا تعتمد على الواقعية بقدر ما تعتمد على الرغبة في التصديق، والارتباط الشرطي بين الصورة وموقع المستهلك منها وبين ما يتم الترويج له فعليا قد لا يكون وثيقا أو حتى منطقيا.

السلعة السياسية الرائجة تعود أرباح تسويقها في صورة إمكانية ممارسة سلطة. وما أعنيه بممارسة السلطة هنا هو إمكانية توجيه أفعال الآخرين، الذين هم في هذه الحالة مستهلكو السلعة السياسية؛ هؤلاء الذين آمنوا بصورة للعالم الاجتماعي، ومن ثم سيستجيبون لدعوتهم بشكل مباشر أو غير مباشر للقيام بأفعال يتصورون أنها إما ستسهم في بناء هذه الصورة إن لم تكن قائمة أو أنها ستحمي استمراريتها. في الحالتين ما يجعلهم مستعدين للاستجابة لمثل هذه الدعوة هو الارتباط الشرطي بين تحقق صورة العالم الاجتماعي التي آمنوا بها وبين موقعهم فيها. ما يعنيه ذلك أن ما يحركهم هو دافع شخصي قوي، إما رغبة في الوصول إلى موقع يريدونه لأنفسهم، أو حماية لموقع يعتقدون أنهم بالفعل فيه ولكنه لسبب ما مهدد بالضياع أو انخفاض قيمته. أنواع الأفعال التي يمكن توجيه مستهلكي السلعة السياسية للقيام بها قد تتراوح بين التصويت في انتخابات ما، وبين الانخراط في جماعة مسلحة. فيما بين هذين ثمة طيف واسع لعشرات الأفعال المختلفة والتي قد يكون بعضها نقيضا للبعض الآخر، ومع ذلك قد تكون جميعها ناتجة عن سلعة سياسية واحدة. ما يعنيه ذلك هو أن الفعل الذي يمكن استدعاء أو حث الأفراد للقيام به بناءً على إيمانهم أو اعتناقهم لصورة للعالم الاجتماعي كسلعة سياسية ليس متضمنا بالضرورة في هذه السلعة، أي إنه قد لا يكون جزءًا من هذه الصورة للعالم.

فقد تكون صورة العالم الاجتماعي التي يؤمن بها الشخص مسالمة ملؤها المحبة والود المتبادل بين أفراد المجتمع، ولكن الفعل الذي قد يقدم عليه وفي ظنه أنه يجعل هذه الصورة قريبة قد يكون عملا إرهابيا يذهب ضحيته مئات الأبرياء.

السلع السياسية هي إحدى ضرورات الحياة في مجتمعات الدول الحديثة، أي تلك المجتمعات التي شكلتها الدول الحديثة أثناء نشأتها. في المشروع النظري للدولة القومية الحديثة يفترض أن تمحى كل الهويات الجزئية وتذوب في هوية قومية واحدة. لكن هذا لا يلغي بأي حال تمايز الأفراد فيما بينهم على أساس ما يملكه كل منهم من رؤوس أموال اقتصادية وثقافية واجتماعية، والتي تنعكس حصيلتها في صورة رأس مال رمزي يمثل مكانة الفرد في المجتمع. وحيث أن رؤوس الأموال هذه تميل إلى التركز في أيدى أقلية ضيقة فإن الغالبية تترك بلا رؤوس أموال يمكن تحويلها إلى رأس مال رمزي، أي إلى مكانة اجتماعية. تختلف الاحتياجات السياسية بين الأقلية المحتكرة لرؤوس الأموال الأساسية وبين الأغلبية المجردة منها. الأقلية تهتم شرائحها المختلفة بصور العالم الاجتماعي التي ترفع القيمة الرمزية لواحد أو أكثر من رؤوس الأموال الأساسية وتساعدها على مراكمة المزيد منها. إضافة إلى ذلك تمتلك هذه الأقلية ميزة هامة وهي أن إمكانية صياغة المنتج السياسي تكاد تكون محصورة فيها.

تحتاج الأغلبية المجردة من رؤوس الأموال الأساسية، في المقابل، إلى صور للعالم الاجتماعي تمنحها مصدرا بديلا لرأس المال الرمزي. تعتمد هذه الصور على مبادئ للتصنيف والتراتبية يمكن أن تمتلكها الغالبية برغم افتقارها لرؤوس الأموال الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وكلما كانت تلك المبادئ أقرب إلى التجربة اليومية لحياة هذه الأغلبية كلما كانت أكثر قدرة على إنشاء النموذج المثالي للفرد الذي يمكن تتعلق به طموحاتها. المبادئ الأكثر شيوعا هي تلك المتصلة بالتصنيف على أساس العرق أو الدين أو القبيلة أو النطاق الجغرافي. وتختلف بالطبع إمكانية استخدام أي من هذه المبادئ حسب طبيعة كل مجتمع. القومية كمبدأ للتصنيف يمكن استخدامه في حال أمكن تصوير زيادة أعداد المهاجرين الأجانب كمصدر يهدد النقاء القومي، وفي هذه الحالة تنطوي القومية كمبدأ للتصنيف على أساس عرقي غير مباشر.

الطبقية بالتأكيد بمكن استخدامها كمبدأ للتصنيف أيضا، ولكن مدى نجاح تسويق صورة للعالم الاجتماعي مبنية حولها يتعلق بكثير من العوامل منها حاجتها إلى منافسة صور تعتمد على مبادئ للتصنيف أبسط وأكثر التصاقا بالثقافة الشعبية السائدة، مثل الدين.

في المحصلة تحتاج جميع شرائح المجتمع إلى سلع سياسية مناسبة. ومن ثم فلا سبيل إلى منع إنتاج أو تداول هذه السلع. وبعبارة أخرى فإن عبارة “موت السياسة” لا يمكن أن تكون صحيحة، إلا عندما تشير إلى معنى ضيق للسياسة يحصرها في نمط بعينه لعملية إنتاج وتسويق السلع السياسية ولاستغلال أرباح هذه العملية، وهو نمط المنافسة الحزبية، والذي فيه تنتج الأحزاب سلعا سياسية تسوقها وتحول أرباحها إلى قدرة على حشد الناس للتصويت في انتخابات دورية تمكن أحدها، أو إئتلاف من بعضها، من ممارسة الحكم، أي أن يكون في موقع يسمح له بالسيطرة على الجهاز البيروقراطي للدولة لإدارة شؤونها من خلاله. هذا النمط من عملية إنتاج السلع السياسية يحتاج إلى وجود حقل سياسي مستقل ويحظى في مجمله بالشرعية الشعبية الكافية لضمان انصياع بيروقراطية الدولة لما تسفر عنه اللعبة السياسية فيه. ولكن في حال غياب هذا الحقل السياسي، تفرز بيروقراطية الدولة قيادتها التي تنصاع لها، والتي قد تأتي من داخل أروقة الحزب الواحد المندمج بشكل كامل في بيروقراطية الدولة، والذي يشكل في الحقيقة نواتها، كما هو الحال في الأنظمة الشيوعية في الاتحاد السوفيتي السابق ودول أوروبا الشرقية قبل سقوط حائط برلين، وفيما تبقى من هذه الأنظمة في الصين وكوبا وكوريا الشمالية إلخ. أو قد تفرز بيروقراطية الدولة قيادتها من خلال إحدى المؤسسات التقليدية للدولة، وتكاد تكون المؤسسة العسكرية هي المرشح الوحيد لذلك.

قبل سقوط حائط برلين مثلت أوروبا الشرقية نموذجا للدول التي تفرز قيادتها من داخل الحزب الواحد
قبل سقوط حائط برلين مثلت أوروبا الشرقية نموذجا للدول التي تفرز قيادتها من داخل الحزب الواحد

في بعض الأحيان ينتج نظام الحكم المنبثق عن بيروقراطية الدولة سلعة سياسية أو في حالة نموذج الدول الشيوعية، قد ينبني هذا النظام منذ البداية على سلعة سياسية تصبح هي الوحيدة المتاحة في سوق مغلق عليها. ولكن نظم الحكم البيروقراطي في المعتاد لا تدرك الحاجة إلى إنتاج وتسويق سلعة سياسية بشكل واضح، ذلك أنها تمارس إدارة شؤون المجتمع بالفعل دون الحاجة إلى رأس المال السياسي الذي يوفره تسويق مثل هذه السلعة. ومع ذلك وفي حال انتبه نظام حكم ديموقراطي إلى حاجته إلى تسويق سلعة سياسية لتحقيق قدر كاف من الرضا الشعبي يحفظ استقراره واستمراريته، فهو مضطر دائما إلى تسويق سلعة سياسية وحيدة، وبالتالي مضطر إلى كشف انحيازه لمصالح طبقة أو شريحة اجتماعية ما. سبيل الالتفاف حول ذلك هو تسويق سلعة سياسية تعتمد على مبدأ تصنيف يرضي الأغلبية مع دمجه في صورة للعالم الاجتماعي تحافظ على امتيازات شرائح الأقلية المتحالفة مع النظام. النموذج المثالي لتلك السلعة السياسية هو الفاشية، التي قد تكون قومية أو دينية أو خليطا من الاثنين. ولكن صياغة مثل هذه السلعة السياسية بنجاح يحتاج إلى ظروف مواتية بعضها خارج عن إرادة النظام.

ثورة 25 يناير
ثورة 25 يناير

عندما يفشل نظام بيروقراطي في صياغة سلعة سياسية صالحة للتسويق، أو إذا لم تنجح سلعته في المنافسة في سوق السلع السياسية، تصبح هذه السوق مصدر صداع مستمر له، وفي حين تتركز محاولاته لتحييد السلع السياسية أو التخلص منها على غلق الحقل السياسي في وجه ممثليها الظاهرين أو قمعهم ومحاولة مصادرة هذه السلع ومنع تداولها، فهو بذلك يغفل حقيقة أن تلك المحاولات غير مجدية. وعلى جانب آخر يؤدي غلق الحقل السياسي، وتغييبه عمليا، إلا أن رأس المال السياسي المنتج من خلال تسويق السلع السياسية في السوق السوداء، إذا جاز لنا استخدام هذا التعبير، ينتهي به المطاف إلى الحث على أفعال تميل إلى العنف بشكل متزايد. على جانب آخر، فإن غلق الحقل السياسي ومحاولة قمع عمليات إنتاج السلع السياسية تؤثر في بعض هذه السلع بقدر أكبر من غيرها، بصفة خاصة تتضرر عمليات إنتاج السلع السياسية الأكثر عملية بصورة أكبر من تلك التي تعتمد على مبادئ تصنيف تدعمها الثقافة الشعبية السائدة، خاصة أن الأخيرة يمكن لعمليات إنتاجها أن تتخفى في عمليات إنتاج ثقافي مختلفة، مثل عمليات إنتاج الخطاب الديني. هذا يعني أن محاولات قمع عمليات إنتاج السلع السياسية، بينما تفشل في وقف هذه العمليات، فإنها تصب في صالح بعضها بالتضييق على منافسيها. وفي أغلب الأحيان فإن تلك السلع السياسية المستفيدة تميل بشكل متزايد نحو الرجعية والتطرف، حيث إن حالة القمع العام لعملية الإنتاج السياسي تؤدي إلى قتل الخيال السياسي، ومن ثم إلى اعتماد عمليات إنتاج السلع السياسية على عناصر تقليدية مع افتقادها لابتكار أطر جديدة لها.

هذه المناقشة السابقة رغم كونها نظرية ومجردة إلا أن الغرض منها هو بناء قاعدة نظرية لفهم المأزق السياسي الذي تعيشه مصر الآن. هذا المأزق يمكن تلخيصه في إعادة إنتاج الظروف التي أدت سابقا إلى حالة الاحتقان التي انفجرت في صورة ثورة شعبية قبل عشرة أعوام. لا يزال كثيرون يعتقدون في أن الثورة قد أنتجتها الدعاية السياسية من العدم، في حين أن الحقيقة هي أن الافتقاد إلى التعبيرات السياسية المنظمة في حقل سياسي مفتوح هو ما جعل خيار الانتفاض الشعبي هو الوحيد المتاح. إضافة إلى ذلك أدى غياب الحقل السياسي، بل غياب أي أرضية صلبة لبنائه، إلى فشل السيولة السياسية الناتجة عن الثورة في التحول إلى أي منظومة مستقرة لقواعد اللعبة السياسية. ثمة حقيقة بسيطة أثبتتها جميع التجارب السابقة حول العالم، وهي أن نظم حكم بيروقراطية الدولة لا يمكنها الحفاظ على استقرارها واستمرارها طويلا، وليست تلك الحقيقة مزعجة في حد ذاتها لولا أن تقويض فرص استبدال هذه الأنظمة بمنظومة للحكم الديموقراطي مرة بعد أخرى يؤدي في النهاية إلى أن يكون بديلها الوحيد أكثر سوءً منها. هذا هو المصير الذي ينبغي أن نتجنبه.