لم يكن الانسحاب الأمريكي الأقرب للهروب المتسرع من أفغانستان منذ أيام هو المرة الأولى ولا الثانية، التي أشهد فيها في عمري المهني كصحفي هذه المفاجأة الشائنة، إذ إنها تكررت في فيتنام عام ١٩٧٥، وفي لبنان عام ١٩٨٢، وفي الصومال عام ١٩٩٤، وفعلها رئيسان جمهوريان هما ريتشارد نيكسون، ورونالد ريجان، ورئيسان ديمقراطيان هما بيل كلينتون وجوزيف بايدن.
جاءت المرتان الأخيرتان، أي في الصومال وأفغانستان في حقبة ما يسمي بمشروع القرن الأمريكي، أو مشروع الإمبراطورية الأمريكية، الذي بشر وآمن به -عقب انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة – التيار المحافظ في السياسة الأمريكية برافديه الرئيسيين: الواقعي ممثلا في الرؤساء نيكسون وريجان وجورج بوش الأب ودونالد رامسفيلد وزير دفاع بوش الابن ونظرائهم، والإيديولوجي ممثلا في المحافظين الجدد، الذين هيمنوا على السياسة الخارجية لإدارة بوش الابن.
من المفهوم أن الدافع الأكبر لهذا المشروع كان هو فائض القوة العسكرية الضخمة للولايات المتحدة، وجاذبية النموذج الثقافي والاجتماعي الأمريكي، أي ما يسمي بطريقة الحياة الأمريكية، فهما اللذان كفلا لها إنهاء الحرب الباردة بنصر بلا حرب حسب تعبير الرئيس الأسبق نيكسون، لكن هذا المشروع جوبه بمعارضة قوية الحجة وقوية الصوت داخل أمريكا نفسها من التيار الليبرالي، خاصة في الشمال الشرقي، حيث تقع أغلب الولايات المؤسسة للفيدرالية الأمريكية، فضلا عن المعارضة الخارجية سواء من التقدميين وكتل كبيرة من المحافظين في أوروبا، أو من الصين وروسيا وأمريكا اللاتينية وكثير من الوطنيين في جميع دول العالم، لكن الأكثر تأثيرا كان دائما ثورة الرفض من جانب الرأي العام والناخبين فور أن تلحق بهذا المشروع خسائر عسكرية مشينة، كما حدث في الصومال ولبنان، أو مع تراكم الخسائر العسكرية والاقتصادية والسياسية، بما يبدد أية رهانات علي نجاح محتمل مهما يطل أمد التورط الأمريكي، كما حدث في حالتي فيتنام وأفغانستان.
يقال إنه إذا تكرر الحدث في السياسة والاجتماع فإنه يصبح ظاهرة، وإذا تكررت الظاهرة فإنها تصبح قانونا، فما هي الأسباب الأعمق داخل أمريكا وخارجها التي جعلت المشروع الإمبراطوري الأمريكي محكوما بقانون الفشل الأبدي؟
الإجابة الإجمالية تتلخص في حدين يكّوِنان معا ما يشبه المعادلة الرياضية، أولهما انتهاء عصر الاستعمار وظهور واستمرار الروح الوطنية أو القومية كمثل أعلى لكل شعوب العالم، وكانت هذه الروح ذاتها من نتائج عصر الاستعمار ومن أهم أسباب زواله، والحد الثاني هو انعدام أو نقص تقاليد الاستعمار وخبرة تأسيس الإمبراطوريات في الثقافة السياسية الأمريكية .
بشيء من التفصيل ارتكزت ظاهرة الاستعمار على اختلال هائل في موازين القوى الشاملة عسكريا واقتصاديا وسياسيا وتنظيما وإداريا بين الدول الاستعمارية وبين مستعمراتها، ولهذا السبب ولأسباب أخرى منحدرة من التاريخ كالقبلية والطائفية والهجرات الكثيفة والغزوات السابقة كان في مقدور الإمبراطورية الوافدة أن تقيم تحالفات مع كتل مؤثرة من السكان الأصليين، أو مع السلطات الحاكمة، كما كان حال الإمبراطورية البريطانية في الهند ومصر بل وفي الصين وكثير من مستعمراتها، أو أن تنفذ عمليات إبادة جماعية كما فعل الأسبان في أمريكا اللاتينية، وبديهي أن كل ذلك لم يعد ممكنا، حتى وإن بقي ميزان القوي في مصلحة الاستعماريين، لأن الروح القومية، والحروب الشعبية وكثافة سكنى المدن تكفلت جميعها بتحقيق درجة كافية من توازن القوة، فضلا بالطبع عن اكتساب مهارات وتقاليد الإدارة والتنظيم التي أنجزتها الحداثة الغربية.. يعود انعدام أو نقص تقاليد الاستعمار وخبرة تأسيس الإمبراطوريات في الثقافة السياسية الأمريكية. إلى عدة عوامل، أولها أن أمريكا الحالية هي في الأصل وفي ذاتها تكوين إمبراطوري يمكنه الاستغناء عن العالم، بمعنى أنه ليس في حاجة ماسة إلى موارد خارجية تسوغ للمواطنين الاعتياد على فقد أرواحهم أو أرواح أبنائهم بالجملة من أجل (لقمة العيش )، كما كان حال الإنجليز وقبلهم الهولنديين والأسبان في بلادهم محدودة المساحة والموارد، كذلك لا يوجد تقليديا تهديد خارجي جدي لأمنهم وأسلوب حياتهم، كما كان الحال في صراعات الدول الأوروبية سابقا داخل القارة وخارجها، بل لا شيء حقيقيا يهدد هيبة ومكانة الولايات المتحدة (كحالة فرنسا بعد لويس الرابع عشر) سوى هذه الخسائر المشينة في حروب محدودة من أجل المشروع الإمبراطوري، كتلك التي ذكرناها، وبالطبع فقد أضيف بزوغ الصين مؤخرا إلى هذه المهددات. التي ليست عسكرية من الأصل.
خبرة القرون علمتهم أن إسناد عرش مصر في ظروف حرب عالمية إلى سلطان أو ملك من خارجها سيواجه برفض عارم وشامل، أما إسناد العرش لأحد المصريين أو المتمصرين فسيفتح بابا واسعا لصراعات وأحقاد ومنافسات لا تنتهي.
أما اذا قارنا بين خبرة الأمريكيين في إقامة الإمبراطوريات وخبرة الإنجليز مثلا باعتبار أن الإمبراطورية البريطانية كانت هي (السلف الصالح أو الطالح) للإمبراطورية الأمريكية، فقد يغني عن كل شرح رفضهم المتغطرس لأية مسؤولية عن إعادة إعمار أفغانستان بعد انسحاب السوفييت، ثم رفضهم المتغطرس أيضا لعودة الحكومة الملكية بعد إسقاطهم لحكم طالبان كنواة صلبة لمشروع بناء الدولة الجديدة هناك، وتفضيلهم الاعتماد على قادمين من الخارج ينظر إليهم بوصفهم دمى وعملاء، فضلا عن الاستهتار بثقافة وعقائد الأفغان، ومما يزيد الأمر وضوحا الأخطاء الأمريكية الجسيمة في العراق بعد غزو ٢٠٠٣ من حل الجيش الذي انخرط ضباطه السنة في تنظيم داعش، إلى تسليم الحكم لعملائهم القادمين من المنفى، دون اعتداد برأي العراقيين أنفسهم إلخ، في حين ضمنت بريطانيا ما يشبه الإجماع من العراقيين علي تنصيب فيصل ابن الشريف حسين ملكا على العراق بعد الحرب العالمية الأولى، ولم تهدم نظام (الراجات) في الهند، بل احترمتهم، وعندنا في مصر لم تخلع الأسرة العلوية بخلع الخديوي عباس حلمي الثاني في بداية الحرب العالمية الأولي، ولم يكن ترويج شائعات عن احتمال خلع الأسرة كلها إلا للضغط على الأسرة الحاكمة لقبول الحماية البريطانية، لأن خبرة القرون علمتهم أن إسناد عرش مصر في ظروف حرب عالمية إلى سلطان أو ملك من خارجها سيواجه برفض عارم وشامل، أما إسناد العرش لأحد المصريين أو المتمصرين فسيفتح بابا واسعا لصراعات وأحقاد ومنافسات لا تنتهي .
الأمثلة كثيرة، والأخطاء الأمريكية أكثر، وكما قلنا فإن التاريخ يرفض والشعوب تقاوم والمجتمع الأمريكي نفسه لا يرحب بتلك الإمبراطورية المستحيلة، ويبقي فقط أن أذكر نفسي وأذكر قرائي أن كل ما تقدم لا ينفي وجود استغلال أمريكي لموارد الشعوب وابتزاز وهيمنة وعدوان وتدخلات مقيتة في شؤون الدول. ولكن بوسائل أخرى وبدرجات متفاوتة من شعب إلى آخر، وأحيانا من إدارة أمريكية إلى أخرى.