الحرية بمعناها الحديث كانت ومازالت لها مكانة نظرية ممتازة في الدساتير المصرية منذ بدأت مصر كفاحها الدستوري في الربع الأخير من القرن التاسع عشر .

لكن دائما كانت هناك فجوة بين الواقع النظري للحرية في الدساتير وواقعها الفعلي في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المعيش علي الأرض والدائر في تفاعلات الحياة اليومية، وقد اختلفت هذه الفجوة ضيقا واتساعا من فترة إلى أخرى على الأخص في المائة عام الأخيرة من دستور ١٩٢٣م إلى وقت كتابة هذه السطور في أغسطس ٢٠٢١م .

هذه الفجوة بين الحرية النظرية في الدستور والحرية الفعلية في الواقع وصلت إلى أوسع مداها في السنوات التي أعقبت صدور دستور ٢٠١٤م حيث تم الاستفتاء عليه في يومي الرابع والخامس عشر من يناير ثم تم صدوره والعمل به رسميا بدءا من الثامن عشر من يناير ٢٠١٤م .

يمكن تخيل حدود هذه الفجوة بين الواقع النظري والواقع العملي باستدعاء النصوص ثم استقراء الواقع .

النصوص – كما يشهد كل من له إلمام بالفقه الدستوري- هي من أروع ما تكون النصوص الممتازة في أبواب الحريات في دساتير العالم المتحضر، فالباب الثالث من دستور ٢٠١٤ ومثله الباب الرابع كلاهما ينتمي إلى العالم الأول، وكلاهما معا يتضمنان المواد من الواحدة والخمسين حتى المادة رقم مائة، التي تقول: “الكرامة حق لكل انسان” وحتي المادة التي تقول: “تصدر الأحكام وتنفذ باسم الشعب”، هذه المواد الخمسون هي الحصاد النظري لما يقرب من مائة وخمسين عاما من نضال المصريين في سبيل حريتهم.

هذه المواد الخمسون جاءت تحت عنوانين: عنوان الباب الثالث “الحقوق والحريات والواجبات العامة” وهو يتضمن من واحد وخمسين حتى ثلاثة وتسعين، ثم عنوان الباب الرابع “سيادة القانون” ويتضمن المواد من أربعة وتسعين حتى مئة .

ثورة 25 يناير- صورة أرشيفية
ثورة 25 يناير- صورة أرشيفية

تحت عنوان الحقوق والحريات والواجبات العامة ترى الحرية كأفضل ما تكون الحرية في دساتير أكثر الدول عراقة في الديمقراطية، تقرأ: الكرامة حق لكل إنسان لا يجوز المساس بها، التعذيب بكل صوره وأشكاله جريمة لا تسقط بالتقادم، المواطنون لدى القانون سواء وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مصونة لا تُمس، كل من يُقبض عليه تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، السجن دار إصلاح وتأهيل، للحياة الخاصة حُرمة وهي مصونة لا تُمس، للمنازل حُرمة ولا يجوز دخولها ولا تفتيشها ولا مراقبتها أو التنصت عليها إلا بأمر قضائي مسبب، الحياة الآمنة حق لكل إنسان، لجسد الإنسان حُرمة، التبرع بالأنسجة والأعضاء هبة للحياة، حرية التنقل والهجرة والإقامة مكفولة، يحظر التهجير القسري للمواطنين، حرية الاعتقاد مطلقة، حرية الفكر والرأي مكفولة، حرية البحث العلمي مكفولة، حرية الابداع الفني والأدبي مكفولة، المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك الشعب، تلتزم الدولة بحماية حقوق الملكية الفكرية، حرية الصحافة مكفولة، يُحظر بأي وجه فرض رقابة علي الصحف، تلتزم الدولة بضمان استقلال الصحف ووسائل الإعلام المملوكة لها، للمواطنين حق تنظيم الاجتماعات العامة والمواكب والمظاهرات وجميع أشكال الاحتجاجات السلمية، للمواطنين حق تكوين الأحزاب، للمواطنين حق تكوين الجمعيات، القانون يكفل حق إنشاء النقابات والاتحادات، يكفل القانون استقلال النقابات المهنية، تكفل الدولة للمواطنين الحق في المسكن الملائم،  لكل مواطن الحق في غذاء صحي وكاف، تكفل الدولة حقوق الأطفال، تكفل الدولة حقوق ذوي الإعاقة، تكفل الدولة رعاية الشباب، تلتزم الدولة بضمان حقوق المُسنين، مزاولة الرياضة حق للجميع، لكل فرد الحق في مخاطبة السلطات العامة، التجنيد إجباري وفقا للقانون، مشاركة المواطن في الحياة العامة واجب وطني، تلتزم الدولة بحماية نهر النيل، تلتزم الدولة برعاية مصالح المُقيمين بالخارج، تُحظر كل صور العبودية والاسترقاق والقهر والاستغلال القسري للإنسان، تلتزم الدولة بتشجيع الوقف الخيري، تسليم اللاجئين السياسيين محظور، الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن لا تقبل تعطيلا أو انتقاصا، تلتزم الدولة باتفاقات حقوق الإنسان الدولية .

الدستور المصري
الدستور المصري

– ثم في الباب الرابع وتحت عنوان سيادة القانون تقرأ: سيادة القانون أساس الحكم في الدولة وتخضع الدولة للقانون واستقلال القضاء وحصانته وحيدته ضمانات أساسية لحماية الحقوق والحريات، العقوبة شخصية ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، المتهم بريء حتي تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، التقاضي حق مصون ومكفول للكافة، استقلال المحاماة ضمانة لكفالة حق الدفاع، كل اعتداء على الحرية الشخصية جريمة، تصدر الأحكام وتنفذ باسم الشعب .

– هذه الحرية النظرية لم تأت من فراغ ولا هبة من حاكم ولا منحةً من السماء، إنما هي خلاصة كفاح ونضال أجيال متعاقبة من المصريين كافحوا تسلط الخديوية والسلاطين والملوك من سلالة محمد علي باشا ( ١٨٠٥ – ١٩٥٣ ) ثم هي كذلك خلاصة كفاح ونضال أجيال متعاقبة من المصريين كافحوا تسلط الحكام من ضباط الجيش في العهد الجمهوري ( ١٩٥٣ – ٢٠٢١م )، ووصف هذه الحريات بالنظرية لا يعني التقليل من شأنها، ولا يعني أنها حبر على ورق، ولا يعني أنها سطور ميتة لا حياة فيها، كل ذلك يتردد على ألسن كثيرين من المصريين وهو غير صحيح، الصحيح هو أن هذه النصوص الدستورية مكسب كبير لتطورنا الديمقراطي وتقدمنا الانساني، فقد تم انتزاعها من بين أنياب الطُغاةُ، وقد تمت التضحية في سبيلها بالكثير من الأرواح والجهد والفكر والعرق والمعاناة من ثورة العرابيين في الربع الأخير من القرن التاسع عشر حتى ثورات المصريين في يناير ويونيو من الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، هذا التراث النظري نصف الطريق إلى الحرية، ليست كنصوص ووعود وأماني وأحلام، ولكن كواقع فعلي معيش ومشهود في تفاصيل وتعاملات الحياة اليومية للمصريين، بين المصري وذاته، وبين المصريين بعضهم بعض، وبين المصريين وحكامهم. هذه النصوص مازالت شعوب عربية وغير عربية بعيدة عنها -حتي نظريا- بُعد السماء عن الأرض، وسوف يكون مكتوبا عليها أن تكافح أحقابا من الزمن حتي تصل الي مثلها أو قريبا منها .

– إذن هذه هي النصوص الدستورية خلال الفترة من ٢٠١٤م إلى كتابة هذه السطور في أغسطس ٢٠٢١م، فماذا عن استقراء الواقع الفعلي لها ولما تعنيه فيما يخص مسألة الحرية؟

للأسف الشديد؛ الفجوة بين النظري والتطبيقي واسعة، وتزداد كل يوم اتساعا، وقد ازداد الاتساع حتى وصل إلى درجة الانفصال التام، فالواقع منفصل تماما عن نصوص الدستور، ويصنع نفسه بمعزل عنها، ويشق طريقه في استغناء تام عنها، فهو يخلق آلياته الخاصة، ويبتكر دينامياته المتغيرة دون اهتداء بالنصوص ولا روحُ النصوص، الواقع سيطرت عليه فكرة السيطرة لذاتها وفكرة التمكين لذاته دون التفات لغير ذلك .

ثورة يناير- أرشيفية
ثورة يناير- أرشيفية

بعد يناير ٢٠١١م كانت الحرية تحتاج إلى ترشيد وضبط، وكانت العلاقة بين فكرة الثورة وضرورة الدولة تحتاج إلى توازن، وكانت العلاقة بين حيوية المجتمع وتماسك الدولة تحتاج إلى حكمة، لكن الذي حدث -عمليا- بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣م هو: ضبط وإحضار الحرية ذاتها، وبكل أشكالها، وتقديمها للنيابة أو لقضاة التحقيق، واتهامها بما ارتكبت ومالم ترتكب من أخطاء وتحميلها مسؤوليات ما ألم بالمصريين والعرب من تعاسة وشقاء، وتمت محاكمتها، ومازالت تجري محاكمتها، وقد تم تعمد أمرين :

الأول: أن هذه الحرية لم تزل في المهد ولم تحكم ولم تحمل مسؤولية عامة ولم تقرر ولم تتحكم في حياة الشعب قليلا من الزمن أو كثيرا، كانت واقعا جديدا وليدا غير مكتمل وغير ناضج وغير مستو .

الثاني: أن المسؤول عما آلت إليه مصر وغيرها من الشعوب العربية من تعاسة وشقاء إنما هو من حصاد الديكتاتوريات التي حكمت عقودا متواصلة من الزمن قبل انبثاق بصيص الحرية الخافت مع رياح الربيع العربي، فالذي فعل في العراق ما فعل من غزو أجنبي ثم تفكك داخلي ليس الحرية المشبوهة التي جاءت مع الغزو الأمريكي ٢٠٠٣م ولكن المسؤول هو ديكتاتورية صدام حسين، وقد حكم من ١٩٧٩ حتي ٢٠٠٣م، وكذلك لم تكن الحرية المتعثرة التي جاءت مع غزو حلف الناتو ٢٠١١م هي من قادت ليبيا إلى الحرب الأهلية وإنما هذه مجرد نتيجة من نتائج كثيرة فاجعة وصادمة لديكتاتورية القذافي وقد حكم من ١٩٦٩ – ٢٠١١م،  وكذلك فإن ديكتاتورية علي عبدالله صالح قد فتحت الطريق لحقبة سوداء من الحروب والفقر والمجاعات في اليمن وقد حكمها من ١٩٧٨ – ٢٠١٢م، والدرس ذاته في سوريا وقد حكمتها ومازالت تحكمها ديكتاتورية آل الأسد (الأب ثم الابن) من ١٩٧١ – ٢٠٠٠ ديكتاتورية الأب، ثم من ٢٠٠٠- إلى كتابة هذه السطور ديكتاتورية الابن، وقل مثل ذلك في الحرية المتعثرة في تونس، فما هي وما باقي أحوال تونس إلا نذر يسير من حصاد سنوات القمع والقهر الطويل في حكم زين العابدين بن علي من ١٩٨٧ – ٢٠١١م، وما آلت إليه أوضاع السودان إنما هو من غرس سنوات الديكتاتورية المستترة بالدِين والشرعية تحت حكم عمر البشير من ١٩٨٩ – ٢٠١٩ .

لقد أصرت دولة ما بعد ٣٠ يونيو -عن عمد وقصد- على ضبط وإحضار الحرية -التي لم تكد تولد حتى ماتت- واتهامها  بكل الجرائم التي هي منها بريئة، والتي هي من صنع الديكتاتوريات العربية التي حكمت عقودا طوالا قبل انبثاق الربيع العربي الوئيد، فقد ماتت الحرية ومات معها الربيع العربي، مات كلاهما في المهد، منذ اللحظة الأولي التي تحولت فيها الحرية إلى فوضى، ثم تحولت الفوضى إلى انقسام ثم تحول الانقسام إلى عنف أهلي يستخدم فيه السلاح الأجنبي والتمويل الأجنبي ويغذيه ويشعله كذلك التدخل الأجنبي .

– وكانت النتائج العملية لضبط وإحضار الحرية ثم التحقيق معها ثم اتهامها ثم محاكمتها ثم إدانتها، كانت نتائج ذلك كله هو رفع الحرية من الخدمة الفعلية تماما وبصورة تكاد تكون كلية في كافة أركان المجال العام، وعلى هذا الأساس تمت إعادة هندسة وبرمجة كافة مؤسسات الدولة والمجتمع وفقا لتصميم مُحكم يعتبر الحرية مكونا ليس له لزوم وشرطا يمكن أو يلزم الاستغناء عنه، وفي بداية هذه الهندسة كان من الممكن تسمع بعض الزمزقة هنا وهناك، الآن، تحولت الزمزقة إلى همهمة، ثم تحولت الهمهمة إلى همس، ثم تحول الهمس إلى صمت، وتحت الصمت طبقات من خوف مكبوت مع غضب عاجز .

– يبقي السؤال، الآن، عن مستقبل الحرية، في مصر، على وجه التحديد؟

باستعارة التعبير الشهير للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر  ١٩٠٥ – ١٩٨٠ يمكن القول، بأن مصر محكوم عليها بالحرية، وذلك اقتباسا من عبارته الحكيمة ” انسان محكوم عليه بالحرية، ومن ثم محكوم عليه بالاختيار، فوجوده في هذا العالم نابع من الحرية، فلسنا أحرارا في أن نتخلى عن حريتنا”، وهو يحكي تجربته مع لحظة فقدت فيها بلده فرنسا حريتها بالكامل وفقد فيه المواطنون الفرنسيون حريتهم بالكامل عندما وقعت تحت سيطرة الألمان في الحرب العالمية الثانية، فقد تطوع في صفوف المقاومة الفرنسية السرية، وسجل موقفه من غياب الحرية في مسرحية شهيرة مهورية الصمت” بقوله: “لم نكن في يوم من الأيام أكثر حرية مثلما اليوم الذي غابت فيه الحرية تحت الاحتلال، تولد الحرية حيثما يوجد القهر، أسواط الجلاد لا تعفينا أن نكون أحرارا، لقد اكتشفنا أننا أحرار حرية كاملة رغم أننا سجناء، فالسجين حر حرية كاملة في أن يكسر قيوده، لأن معنى القيود لا ينكشف إلا في ضوء الهدف الذي نختاره لحياتنا، لقد كانت لحظات الجبر والقهر شرطا من شروط الحرية، فتحت جمهورية الصمت النازية حقق كل فرنسي حريته بنفسه غير مدعوم من منظمة ولا حزب ولا جيش ولا دولة، حرية كانت لكل فرنسي مكسبا يثبت ويقوي دعائمه الروحية، فالعقبات التي تقف في طريق الحرية لا يمكن أن تكون حجة ضد السعي في سبيل الحرية، ومهما كانت العقبات لا يمكنها أن تمنع ميلاد الحرية، بل كلما كان هناك جبر وقهر كانت هناك حرية، بهذه الحرية كنّا نقاوم الإهانة والهزيمة والتعذيب تمت “جمهورية الصمت “.

– الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل، في الفصل الثالث من كتابه الشهير (في الحرية On   Liberty ) يفرد دفاعا مجيدا عن الحرية الفردية بوصفها -على حد قوله- عنصرا من عناصر الخير البشري .

في هذا الفصل يضع ميل الحدود الفاصلة بين حرية القول وحرية الفعل، أولا، كل حرية عنده يلزم أن يكون عليها بعض الضوابط أو حتى القيود. ثانيا، حرية الفعل يلزمها ضوابط أحكم وربما قيود أكثر. ثالثا: في كل الأحوال يلزم مراعاة الاعتدال بين حريات الأفراد وسلطة الدولة وبين الحريات العامة والمصالح العامة وبين التغيير وهو لازم وبين الاستقرار وهو حتم. ثم يضرب مثالا عمليا يقول فيه ما ملخصه: لك الحق أن ترى أن تجار سلعة معينة لصوص وغشاشون، ولك أن تكتبه وتذيعه وتنشره، ولكن ليس لك الحق أن تتحول من القول إلى الفعل، وتحشد أنصارك، وتحرضهم، وتذهب بهم إلى بيت كبير هؤلاء التجار، وتخطب في أنصارك وتذيع فيهم رأيك، فهذا تحريض، قد يتحول إلى عنف مادي، تترتب عليه عدة جرائم في وقت واحد، ربما جرائم في الأرواح أو في الأموال أو في غيرها. لو اكتفيت بمجرد اعتناق الرأي وكتابته وإذاعته فهذه حرية رأي مكفولة، أما إذا حرضت به غيرك على القيام بأفعال تترتب عليها أضرار تمُس الآخرين فهنا وجب منعك، يتم منعك بالإقناع أولا، ثم بالقوة ثانيا، وهذا هو واجب الدولة .

– أردت من العودة إلى جان بول سارتر تأكيد المستقر في ضميري، فمصر ذاهبة إلى الحرية مهما بدا في الأفق غير ذلك .

– ثم أردت بالعودة إلى جون ستيوارت ميل تأكيد المستقر في ضميري منذ زمن بعيد، فالخطر على الحرية يأتي من داخلها، يأتي من أهلها، يأتي من سوء التصرف بها، يأتي من إساءة استخدامها، وهو ما حدث بأقدار متفاوتة في مصر وغيرها من بلدان الربيع العربي .

– فلولا أخطاء يناير ٢٠١١م،

– ما كانت خطايا يونيو ٢٠١٣م .

وفي كل الأحوال بقي لنا الدستور، فهو خلاصة كفاح المصريين، وهو نصف الطريق إلى الحرية.