منذ انسحاب القوات الأمريكية وسيطرة حركة طالبان على الحكم في أفغانستان، تطرح تركيا نفسها لاعبا رئيسيا في الساحة الأفغانية مستقبلاً. وهي بذلك تنطلق من عدة محددات تحقق للطرفين أهدافًا استراتيجية بعيدة المدى، تزكيها علاقة أنقرة الجيدة مع الأطراف المؤثرة على طالبان، خاصة باكستان (التي لها امتداد تاريخي وديني وسياسي مع الحركة)، وقطر (راعية اتفاق السلام مع الأمريكان).
وبدت مؤشرات على أنّ ثمة دورًا تركيًا محتملاً في أفغانستان، سواء ما يروّج على أنه “دفع غربي” أو اعتبارات نفعية، تقويِّها علاقة بين الدولتين تحمل خصوصية شديدة وفقًا لاعتبارات تاريخية وعقائدية وعرقية. كما أن تركيا تعي الأهمية الاستراتيجية للدولة الجارة، وهي بذلك تحاول ضمها لحلفها القائم بالفعل مع باكستان وأذربيجان.
محددات التقارب بين تركيا وطالبان
تتعدد نقاط الالتقاء بين تركيا وطالبان، ما يجعل أنقرة شريكًا رئيسيًا في مستقبل الملف الأفغاني، بحكم ظروف جيوسياسية، وأخرى أيديولوجية. فضلاً عن أهداف أخرى يمكن أن تكون متداولة خلف الكواليس بين الغرب وتركيا، لمرحلة ما بعد الانسحاب.
أفق التعاون
بدت عدة مؤشرات في الأفق لمستقبل العلاقة بين الطرفين، مبنيّة على تصريحات علنية بين الحركة والرئيس التركي، بعيد سيطرة الحركة على الحكم، بغض النظر عما يمكن أن يدور خلف كواليس مسرح الأحداث. فهذا سهيل شاهين المتحدث باسم “طالبان” في قطر يقول إن “أفغانستان تحتاج إلى الصداقة والدعم والتعاون مع تركيا أكثر من أي دولة أخرى”. كما يقول المتحدث باسم الحركة ذبيح الله مجاهد إن “الحركة تريد إقامة علاقات جيدة مع تركيا مبنية على المصالح المشتركة”. وأضاف: “نطلب علاقات جيدة مع تركيا. نطلب من تركيا أن تأتي بالمهندسين والأطباء والعلماء والتجار، وليس عن طريق الحرب والأسلحة”.
هنا يلتقط الرئيس التركي الخيط ليقول إن بلاده مستعدة لإجراء محادثات مع قادة حركة طالبان، وأن “هناك حقائق على الأرض، لذلك عندما يُطرق بابنا سنفتحه”. لكنّ الإشارة الأبرز لجذور العلاقة العرقية بدت على لسان أردوغان بقوله: “مستعدون لكافة أشكال التعاون من أجل رفاهية الشعب الأفغاني وسلامة بني جلدتنا أتراك أفغانستان ومصالح بلادنا”.
خصوصية العلاقة
كانت أفغانستان من أوائل الدول التي اعترفت بتركيا في عام 1921، ودعمت ذلك من خلال التمثيل الدبلوماسي المتبادل. وظلت تركيا حريصة على لعب دور أساسي في أفغانستان، والتواصل مع القادة المؤثرين في الأحداث، عبر الزيارات والدعم العسكري واللوجسيتي. بالإضافة إلى أن ثمة علاقة خاصة لتركيا مع الجماعات العرقية التركية والأوزبكية والتركمانية في شمال أفغانستان. كما كثفت استخدام وسائل القوة الناعمة، حيث اهتمت بنشر ثقافتها من خلال سلسلة المدارس التركية في كابول وغيرها. ورغم انخراط تركيا مع قوات الناتو أثناء الحرب الأمريكية، لكنها اكتفت بالدور التدريبي غير القتالي. أيضًا ساعدت فرق إعادة الإعمار التركية في محافظتي وردك وجوزجان، في بناء المدارس والمستشفيات وترميم الطرق والجسور.
هذه الخصوصية التي حافظت عليها تركيا مع الأفغان، رمت إلى مستقبل التغيرات السياسية التي قد تعيد طالبان إلى مسرح الأحداث. وهي بتلك السياسات حافظت على علاقات قوية مع جميع الفصائل السياسية. خاصة حركة طالبان التي تضرب العلاقة بين الطرفين بجذورها منذ تولي الرئيس التركي رجب أردوغان الحكم، بحكم التقارب الأيديولوجي. من حيث الاعتماد على آلية التوظيف السياسي للإسلام. كما لا تخفى العلاقة التي تجمع أردوغان ومؤسس حزب الإسلام “قلب الدين حكمتيار” القيادي بحركة طالبان. وهو ما يفسر إرسال تركيا طائرة خاصة لحكمتيار بهدف استقباله فور رفع اسمه من قوائم الإرهاب الدولي في 2017. وأعرب حكمتيار عن رغبته في استضافة تركيا عمليات التفاوض بين الفرقاء الأفغان في فبراير عام 2020، وفقا لوكالة الأناضول.
امتداد أيديولوجي
ولا يمكن فصل الصيغة الأيديولوجية بين حركة طالبان ونظام الحكم في تركيا، باعتبارهما ذا منبع واحد. وإن كان أقل حدة وأكثر برجماتية لدى أنقرة، لكنه يبقى واحدًا من العوامل المهمة لاتصال بعيد المدى بين الطرفين. مدعوم بعواطف شعبوية، بدت من خلال احتفاء كبير في الأوساط الشعبية التركية بعودة طالبان. وهو الاحتفاء المماثل الذي شهدته باكستان، لدرجة أنّ أحزابا وشخصيات يسارية وليبرالية باكستانية أظهرت حالة نشوة عارمة بـ”انتصار طالبان”.
خدمة النفوذ التركي
العلاقات بين قادة طالبان وأردوغان، تضع تركيا على رأس القوى المؤثرة المعنية بمراقبة الأوضاع على الساحة الأفغانية. حيث عززت السياسة التركية المتمثلة في الابتعاد عن العمليات العسكرية ودعم مشاريع بناء الدولة الأفغانية حسن نيتها مع الأفغان عكس قوات الناتو الأخرى، كما حاولت تركيا لعب دور الوسيط بين طالبان والغرب.
وفي معرض دفاعه عن وجود قوات بلاده في أفغانستان، قال أردوغان إنها “لم تكن أبدًا قوة قتالية ولم نستخدم جنودنا هناك كقوة أجنبية”. يعني أردوغان أنّ الأرض خصبة الآن لتحشيد شعبوي، لتعضيد موقف سياسي أو عسكري في وقت لاحق.
ويكشف التزام تركيا بتأمين مطار كابول عن نية أنقرة استخدام أفغانستان كوسيلة لتحسين علاقتها مع الغرب. وطريقة لإنهاء العقوبات الأمريكية وإظهار تركيا كشريك موثوق به مرة أخرى على الساحة الدولية. وبالتالي تعزيز روابطها الجيوسياسية والاقتصادية في آسيا الوسطى.
وتعاني تركيا الفترة الحالية تراجع مكانتها الاستراتيجية على الساحة الإقليمية والدولية. وذلك نظرًا للعقوبات الأمريكية التي شملت هيئة الصناعات التركية وحظر أي قروض من المؤسسات المالية الأمريكية، وحظر تراخيص التصدير الأمريكية. كما أعلن البيت الأبيض تعليق مشاركة تركيا في برنامج مقاتلات إف-35. وكذلك على مستوى الشرق الأوسط، إثر توقيع اتفاقية العلا، ثم اتفاقية أبراهام.
شرعنة طالبان دوليًا
لامس أردوغان الرغبة الطالبانية في الحصول على دعم واعتراف دولي. فقال إن “الوجود العسكري التركي في أفغانستان سيقوي يد الإدارة الجديدة في الساحة الدولية ويسهل عملها”. لكنه ترك الباب مشرّعاً بقوله: “نضع خططنا وفقا للحقائق الجديدة المتشكلة ميدانيا ونواصل مفاوضاتنا على أساس ذلك”.
وعند وصولها إلى السلطة، في المرة الأولى عام 1996، لم تحصل على الاعتراف إلا من 3 دول فقط. ثم سحبت أحدهما الاعتراف في ظل الضغوط الدولية. لذلك كانت تعي جيدًا أهمية الاعتراف الدولي، وعندما سنحت الفرصة، رحبت بالمفاوضات مع الولايات المتحدة التي توجت بعقد اتفاق الدوحة.
هذه المرة تبدو طالبان قد استفادت من الدروس، وأبدت انفتاحها على شركاء جدد للاستفادة من تجاربهم في الحكم والإدارة والتنمية. ويؤكد ذلك ما صرح به “هيبة الله أخوند زاده” زعيم الحركة بقوله: “نحن مستعدون للترحيب بالجميع. ليس لدينا عداء مع أحد، لا ينبغي لأحد أن يقلق بشأن مستقبل البلاد، نحن نؤيد حل المشاكل من خلال الحوار، يجب أن ننهض بهذا البلد معا مرة أخرى”.
كما صرح ذبيح الله “نريد علاقات جيدة مع تركيا، تركيا أخواننا. نحن نتشارك العديد من القضايا المشتركة على أساس المعتقد”، لذلك يعول على الدور التركي في أفغانستان أن يزود طالبان بالشرعية والمصداقية على المسرح العالمي من خلال الاعتراف بالنظام والتوسط مع الغرب ودعوته للمشاركة في السياسة الدولية والإقليمية. أي أنها جسر محتمل بين نظام طالبان الجديد والمجتمع الدولي، لضمان عدم عودة أفغانستان إلى العزلة الدولية قبل عام 2001.
أبعاد اقتصادية
في معرض حديثه عن طلب التعاون مع تركيا، يقول سهيل شاهين، المتحدث باسم “طالبان”: “تتمتع أفغانستان بموارد طبيعية غنية. لكن ليس لدينا إمكانية لاستخراجها. دمرت بنيتنا التحتية بالكامل بسبب الاحتلال وسرقة الحكام. نريد التعاون مع تركيا في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والاقتصاد والبناء والطاقة، وكذلك في معالجة المعادن”.
بدت طالبان واضحة في خطابها الحالي المستند على المنفعة، بينما أخفت الخطاب الديني العلني المباشر. وهو بالمناسبة النهج نفسه الذي صدّرته الثورة الإيرانية إبان الإحاطة بنظام الشاه. حيث كان الحديث عن الحجاب والمظاهر الدينية على بعد سنوات من استيلائها على السلطة، وتلك مقارنة حركية أكثر منها أيديولوجية.
حافة الهاوية التي تجلس عليها أفغانسان حاليًا تضع طالبان أمام اختبار وجودي. خاصة مع توقف عمل القطاعات الاقتصادية، وإغلاق البنوك، وارتفاع أسعار السلع الأساسية لما يقارب الضعف، كما تدهورت العملة الأفغانية. ووفقا لول ستريت، علقت عدد من الشركات الأمريكية تحويل الأموال إلى أفغانستان. فضلاً عن اعتزام الدول الأعضاء في مجموعة العمل المالي (فاتف)، تجميد أصول طالبان في البنوك الأجنبية. وحظر وصول التمويل المالي إليها بمختلف صوره، بجانب التوقعات بوقف المنح الأجنبية والمساعدات.
هنا تعرض تركيا نفسها كشريك في إعادة الإعمار والتنمية في أفغانسان, إذ صرح أردوغان بأن بلاده تعاقدت على عدد من اللقاحات مع طالبان. كما أشار إلى استمراره في تقديم الدعم، خاصة فيما يخص مساعدات من أجل تحسين البنية التحتية في أفغانستان.
تحديات النفوذ التركي في أفغانستان
في الجهة المقابلة لتلك الحماسة الكبيرة والمحددات المزكية لعلاقة تقارب بعيدة المدى بين الحركة وتركيا، ثمة تحديات لا تقل في الأهمية عن المحددات السابقة، سيكون الطرفان أمام اختبار اجتيازهما.
مطار كابول
قرأ البعض إعلان تركيا مسؤوليتها عن تأمين مطار كابول في أعقاب الانسحاب، على أن أنقرة ستكون الذراع الغربية في أفغانستان. ولكونها كانت جزءًا من التحالف الدولي على أراضيها، أظهرت طالبان غضبًا شديدًا تجاه هذه الرغبة التركية.
لكن عندما سُئل أردغان مؤخرًا عن مسألة تأمين المطار، أجاب بأن ثمة تطورات متسارعة وترك فرصة لتقييم الوضع. وهو بذلك يفتح لنفسه بابًا على أي متغيرات قد تعكّر صفو العلاقة مع طالبات التي وصفت موضوع التأمين “بالخطوة المقيتة والمتهورة وتمثل انتهاكاً لسيادتنا ووحدة أراضينا وضد مصالحنا الوطنية”. وحذرت من أن اختيار تركيا لتمديد وجودها العسكري في أفغانستان سيعتبر احتلالاً للأراضي الأفغانية وسيتطلب الجهاد ضد القوات التركية.
يحمل مطار حامد كرزاي الدولي أهمية استراتيجية، حيث يعد مركزا اقتصاديا وعسكريا ولوجستيا. ويمثل البوابة الرئيسية إلى العالم الخارجي. نظرا لكونها دولة غير ساحلية لا تمتلك قنوات تواصل بحرية مع العالم الخارجي، فكيف يعالج الطرفان أول اختبار في طبيعة علاقتهما المستقبلية؟
تململ داخلي في تركيا
واجه القرار التركي البقاء في كابول معارضة شديدة من أحزاب في تركيا. بدافع أن استمرار القوات التركية في ظل عدم وجود قوة دولية أخرى قد يعرض تركيا إلى التورط في صراعات داخلية على ساحة غير مستقرة. مما سيؤدي إلى وقوع خسائر بشرية ومادية كبيرة، وبالتالي فإن القرار لا يحظى بدعم شعبي.
اتفق ذلك مع تصريحات زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كلشدار أوغلو، التي شدد فيها على ضرورة عدم ترك القوات التركية في مواجهة مع حركة طالبان. كما أيضًا صرحت زعيمة حزب الجيد، ميرال أكشنار: “أدعو السيد إردوغان للعودة إلى رشده. لا يوجد سبب لاتخاذ مثل هذه المخاطرة لمجرد أنك ستبدو لطيفا أمام رئيس الولايات المتحدة الجديد”.
العلاقة العلنية والغرب
إذا جرى استبعاد أن تكون تركيا هي “الرسول” الأوروبي في أفغانستان، فإن ثمة تحديًا أمام أنقرة مستقبلاً. كيف تصيغ علاقة علنية أمام الغرب مع طالبان، بغض النظر عما يمكن أن يكون في الخفاء، باعتبار أن الملفات الرئيسية لا تحتمل التورية، كالاقتصاد وأمن الحدود، والدعم السياسي الدولي. فإما أن تغامر بالاصطفاف إلى جوار الحركة الإسلامية بشكل كلي، وتحمل تبعات الموقف. أو أن تقوم بدور المراوغ لتحقيق مكاسب مشتركة مع الحركة. وذلك بخلاف الافتراض القائل بأنها يمكن أن تكون الوسيط الأمثل بين الغرب والحركة.
اللاجئون الأفغان
بينما رفض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في السابق أن تكون بلاده “وحدة تخزين المهاجرين في أوروبا”. فإنّ قافلة محتملة قادمة إليه من أفغانستان. تلك المعضلة تجعل الموقف الرسمي في “خانة ضيقة” حال اصطفاف أنقرة بجوار الحركة الحاكمة، التي قطعًا لن تكون قادرة على منع الهجرة، فإما أن تستقبل تركيا الأفغان بصدر رحب أو تطردهم بأدوات لا تخلو من الانتهاكات، كما حدث مع السوريين، لكن هذه المرة ثمة حكومة صديقة (حكومة طالبان) وشعب يسألها عن علاقتها بتركيا.
وخلال الفترة الماضية تدفق لاجئون أفغان يقومون برحلة عبر إيران تستغرق أسابيع سيرًا على الأقدام قبل الوصول إلى الحدود التركية. لذلك شرعت أنقرة في تعزيز الإجراءات على الحدود، عندما بدأت حركة طالبان بالتقدم في أفغانستان، وسيطرتها على كابول.
ورطة محتملة
يبقى ثمة تخوف أخير لتركيا يتمثل في تصور مستقبلي إذا انزلقت أفغانستان إلى حرب أهلية. لدى تلك النقطة ستجد تركيا نفسها عالقة وسط حرب، ووقتها كافة الحسابات ستتغير، وربما يشعر أردوغان أنّه في ورطة كبيرة. ذلك يعني أنّ حصاد الدور التركي المحتمل في الساحة الأفغانية محكوم بمدى استقرار الوضع هناك.