متغيرات متسارعة يشهدها الشرق الأوسط خلال الفترة الأخيرة، خلطت أوراقًا، وأعادت مياهًا إلى مجاريها. وفق محفزات عديدة دفعت دولاً خصوم إلى اتخاذ خطوات للأمام في سبيل تطبيع العلاقات المتوترة أو المتوقفة. واحدة من تلك التغيرات بدت في التقارب الإماراتي التركي.

لذلك، فإنّ زيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي، طحنون بن زايد آل نهيان، إلى تركيا مؤخرًا نتاج خطوات أخرى عديدة، كانت تركيا فاعل رئيسي في دفعها. لكنها تبقى المحطة الأبرز في شكل العلاقة مستقبلاً بين أبو ظبي وأنقرة، استنادًا إلى عدة دلالات وتفاهمات مستقبلية.

سبقت تلك الخطوة جملة من الشواهد، عبر تبادل الرسائل الإيجابية بين الطرفين. لكن أبرزها على الإطلاق قول وزير الخارجية الإماراتي السابق في أبريل الماضي: “لا يوجد لدينا أي سبب لكي نختلف مع تركيا، فلا توجد مشكلة”. وهو تصريح لم يكن ارتجاليًا بقدر ما يشير إلى أنّ الخلاف بين البلدين كان نتيجة خلافات حول ملفات أخرى، في المجتمع الخليجي. ولذلك فعندما نطالع “علانية” عناوين عن خلاف سعودي إماراتي فلا مجال لاستبعاد تغيرات في المواقف الخليجية، كلٌ حسب مصلحته.

أحد المحللين الأتراك لامس هذا التباين في المجتمع الخليجي، عندما قال في مقابلة تليفزيونية إنّ السعوديين توسَّعوا في استثمارات وتحالفات اقتصادية بدون الإمارات. كان “المتابع التركي” يدلل على أن التعاون الاقتصادي بين أبو ظبي وأنقرة مفيدًا على عدة صُعد، حتى السياسية منها.

محفزات التقارب التركي الإماراتي

لذلك، فإن التقارب الإمارتي التركي، يبدو مدفوعًا بجملة من المحفزات للطرفين. تلك الدوافع تبدو أقوى من تذكُّر أن البلدين كانا على رأس قائمة “الأعداء” قبل أشهر. كما أن زيارة بهذا لحجم لمسؤول إماراتي يوصف بأنه الرجل الثّاني القوي في إمارة أبو ظبي، وبعدها حديث دافئ لأردوغان عن مستقبل العلاقة، تبدو أنها محت كل الآثار والرواسب السابقة، بناء على تلك المحفزات:

على الجانب التركي

تعيش تركيا واحدة من أصعب لاحظاتها على الإطلاق، في خضم أزمة اقتصادية، وخسائر سياسية، وتغيرات إقليمية. وذلك جعلها في أمس الحاجة لبناء تحالف إقليمي يقيها من سنوات عجاف قادمة.

كسر العزلة واستعادة النفوذ الإقليمي

عانت تركيا خلال الفترة الأخيرة حالة من العزلة الإقليمية والدولية نتيجة الأزمة الخليجية، مما أثر على نفوذها في الشرق الأوسط. أو ربمنا واجهت صعوبات في تنسيق المواقف بعدة ملفات، وهو ما جعلها في موقف المتهم دائمًا، ما أدى لتراجع تأثيرها إقليمياً في عدة ملفات.

عجلت تركيا بوادر التوافق وحل أزماتها الخارجية، عقب توقيع دول المقاطعة اتفاق العلا في يناير 2021. الذي أذن بإنهاء الأزمة الخليجية مع قطر، التي كانت الحليف الأول لها خلال فترة المقاطعة. وإدراكا لأثر ذلك على المكانة الإقليمية لتركيا، بادرت بتقديم التنازلات بهدف فتح قنوات التواصل مع دول التحالف.

اتفاق العلا
اتفاق العلا

بدأت تركيا التخلي عن الحشد السياسي والإعلامي لجماعة الإخوان المسلمين –محور الخلاف-، وتراجعت عن حدة الخطاب الموجه ضد دول المنطقة. واتفق الرئيس التركي مع الملك سلمان بن عبد العزيز على تنسيق الجهود المشتركة لدفع سبل التعاون في نوفمبر 2020.

وركزت السياسة التركية على دبلوماسية اللقاءات، حيث زار وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الرياض في مايو 2021. كما أوقفت تركيا وسائل الإعلام المعارضة للسياسة المصرية في إسطنبول لخلق مناخ ملائم؛ بهدف بحث الملفات محل الخلاف بين الدولتين. وفي يونيو 2021 جرت مباحثات استكشافية على مستوى نائبي وزيري الخارجية لكلا من مصر وتركيا في زيارة رسمية لأول مرة منذ تولي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.

كرر أردوغان محاولات كسر العزلة الإقليمية عن تركيا. وقال في يونيو الماضي “إن بلاده تأمل بزيادة تعاونها مع مصر ودول الخليج إلى أقصى حد على أساس نهج يحقق الفائدة للجميع”. كما أكد وجود إمكانيات تعاون بين بلاده ومصر في منطقة واسعة، بدءاً من شرق المتوسط حتى ليبيا”.

أما عن زيارة زيارة طحنون لتركيا، قال أردوغان: “تركيا وفي مقدمتها جهاز استخباراتها قامت خلال الأشهر الماضية بعقد بعض اللقاءات مع إدارة أبو ظبي، وتم التوصل خلالها إلى نقطة معينة”. بل قال إنها سيلتقي محمد بن زايد (الحاكم الفعلي للإمارات) في الفترة المقبلة.

الضغوط الأمريكية

بين التوترات المحلية والإقليمية والدولية، مثلت الخلافات بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية أبرز الضغوط التي تواجه تركيا خلال الفترة الحالية. وهي التي وصفها مستشار الأمن القومي الأمريكي “جيك سوليفان” بأنها تمثل مصدر قلق مستمر لواشنطن وأوروبا بأكملها. ويرجع ذلك إلى عدد من الأسباب صاغتها القيادة الأمريكية، منها محاولة تركيا توسيع نطاق سياستها في المنطقة بما لا يتسق مع السياسة الأمريكية. بالإضافة إلى ملف التقارب التركي الروسي وشراء صواريخ “إس400” الروسية. والتي وصفتها أنها بمثابة تهديد صريحاً لأنظمة دفاع حلف الناتو.

بايدن وأردوغان
بايدن وأردوغان

كما أن الرئيس الأمريكي جو بايدن لم يتواصل مع نظيره التركي منذ قدومه إلى السلطة إلا بعد 5 أشهر. كما يعتبر الرئيس الأمريكي الأول الذي وصف مذابح الأرمن بأنها إبادة جماعية. وفي ديسمبر 202 صعدت الولايات المتحدة موقفها بإدراج اسم مستشار الصناعات الدفاعية بالرئاسة التركية إسماعيل دمير في قائمة العقوبات. وكذلك فرض عقوبات على هيئة الصناعات التركية والتي تضمنت حظر أي قروض من المؤسسات المالية الأمريكية. وحظر تراخيص التصدير الأمريكية، كما أعلن البيت الأبيض تعليق مشاركة تركيا في برنامج مقاتلات إف-35.

أما “اتفاقية أبراهام” في أغسطس 2020 التي رعتها الولايات المتحدة بين إسرائيل والدول العربية، مثلت تهميشا واضحا لدور تركيا بالمنطقة. وتصعيد لإسرائيل، ووضعها في الجانب المستهدف إلى جوار إيران. وكان ذلك أحد الأسباب القوية التي دفعت تركيا إلى الرجوع لحاضنة الشرق الأوسط مرة أخرى. والعمل على تسوية الخلافات بغرض رفع مكانتها والخروج مع دائرة الحظر المفروضة عليها من قبل الإدارة الأمريكية.

الأزمة الاقتصادية

تعيش تركيا منذ عام 2018 أزمة اقتصادية متعددة الجوانب، طالت آثارها جميع أركان الدولة، حيث تجاوز التضخم 25%. كما انهارت قيمة الليرة، وانكمش القطاع الصناعي بنسبة 30%، وتراجع قطاع الملابس والمنسوجات بنسبة 60%. وكذلك ارتفعت معدلات البطالة إلى 34%، وبلغ عجز الموازنة 12% من الناتج المحلي الإجمالي. بالإضافة إلى ما تسببت فيه أزمة فيروس كورونا من أعباء اقتصادية إضافية، حيث تعمقت الأزمة المالية في البلاد, فضلاً عن فقدان 3 ملايين و320 ألف وظائفهم، وانخفاض معدل النمو، ارتفاع تكلفة الإنتاج والاستيراد، وتآكل ودائع المواطنين؛ بسبب هبوط القيمة السوقية للعملة المحلية.

كل ما سبق دفع تركيا للبحث عن فرص اقتصادية، وورأت في الإمارات شريكًا اقتصاديًا قويًا. فهي تقع في المركز 12 كأكبر مستورد للسلع التركية على مستوى العالم والمركز الثاني على المستوى العربي. كما تجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين 8 مليارات دولار عام 2020.

في هذا الإطار يقول الرئيس التركي: “الإمارات ستقوم قريبا باستثمارات كبيرة في بلاده”. كما ناقش مع الشيخ طحنون “مجالات ونوع الاستثمارات الممكن إقامتها”. وذلك في حضور نائب رئيس صندوق الثروة السيادية ورئيس مكتب الاستثمار التركيين الاجتماع، لبحث خارطة الطريق المتعلقة بالاستثمارات.

لم يكشف عن حجم الاستِثمارات التي وعد بها “طحنون” الجانب التركي، لكن النشوة التي بدا عليها الرئيس أردوغان وحفاوته باللقاء تُوحي بأن الإمارات، تعتزم ضخ استثمارات ضخمة في الاقتصاد التركي. كما أن الإمارات تبدو وهي تركز على الجانب الاقتصادي في علاقتها بتركيا، ترسل رسائل لمحاور إقليمية، لمّا تتضح معالمها بعدُ.

على الجانب الإماراتي

الإمارات ليست أقل رغبة في السعي نحو التقارب مع تركيا، رغم فجائية تطبيع العلاقات بهذا المستوى. فيهي ترقب رغبة غربية للتعاون مع إيران ينتظر أن يقود إلى إعادة تشكيل القوى الإقليمية. وفي المقابل ثمة انسحاب أمريكي من الشرق الأوسط، مخلفًا وراءه حزمة من التحديات الأمنية وكثيرًا من الجماعات الراديكالية، التي يمكن اعتبار تركيا وسيطًا مثاليًا معها.

إعادة صياغة النفوذ

تستهدف الإمارات الحفاظ على دور ريادي، وفقا للمستجدات التي طرأت في ظل قيادة أمريكية جديدة، ومفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيراني. وبالتالي تسعى الإمارات نحو تشكيل جبهة موحدة تتكون من فواعل إقليمية ذات التأثير في مواجهة التهديدات الحالية.

من ثم، بدأت الإمارات تخفيض حدة التوترات مع تركيا كامتداد طبيعي لاتفاق العلا، في ظل ملامح تركية لإنهاء الخلاف. واتخذت بعض الخطوات، منها تخفيف بعض القيود التي فرضت على التجار ورجال الأعمال الأتراك، واستئناف الرحلات الجوية بين البلدين. وتخفيف قيود منح التأشيرة، إضافة إلى قيام تركيا بتعيين سفير جديد لدى أبو ظبي. والذي أعقبه اتصال هاتفي بين وزيري خارجية تركيا والإمارات في أبريل 2021، مما بعث برسالة إيجابية على مستقبل العلاقات بين البلدين.

وزير الخارجية التركي ومحمد بن زايد ومحمد بن راشد
وزير الخارجية التركي ومحمد بن زايد ومحمد بن راشد

وتأتي زيارة طحنون في إطار تحركات دبلوماسية إماراتية، سبقتها زيارة طحنون لمصر ولقاء الرئيس عبدالفتاح السيسي في 10 أغسطس. ثم زيارته للأردن عقب لقائه أردوغان. ووصف الدبولماسي الإماراتي أنور قرقاش اللقاء بأنها “اجتماع تاريخي وإيجابي للشيخ طحنون بن زايد مع فخامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان”. مضيفا أن “الإمارات مستمرة في بناء الجسور وتوطيد العلاقات، كما أن أولويات الازدهار والتنمية محرّك توجهنا الداخلي فهي أيضًا قاطرة سياستنا الخارجية”.

احتواء التهديدات الإقليمية

يمثل سقوط السلطة في أفغانستان وصعود حركة طالبان متغير جديد على الساحة الإقليمية والدولية، والذي يتطلب الاستعداد لمواجهته واحتوائه. وذلك في ظل عدم وضوح شكل العلاقات المحتمل بين القيادة السياسية في كابول ودول الشرق الأوسط. وفي الآونة الأخيرة أصبحت التنظيمات الإرهابية بمثابة ورقة لإدارة الصراعات في المنطقة، وتمتلك تركيا رصيدا لا يستهان به في كيفية إدارة هذا الملف.

لذلك، فإنّ تركيا تعتبر أحد أقوى الفاعلين في ملف طالبان، أو اعتبارها وسيطًا محتملاً بين الحركة وبقية دول العالم. خاصة أن الحركة كررت طلبها التعاون مع أنقرة. وقال المتحدث باسم طالبان سهيل شاهين إن الحركة تنظر إلى الصين وتركيا على أنهما “الشريكان الرئيسيان في إعادة إعمار أفغانستان بعد الحرب وبناء إمارة إسلامية”. وأضاف: “تحتاج إمارة أفغانستان الإسلامية إلى الصداقة والدعم والتعاون مع تركيا أكثر من أي دولة أخرى. إذ تتمتع أفغانستان بموارد طبيعية غنية. لكن ليس لدينا إمكانية لاستخراجها. دمرت بنيتنا التحتية بالكامل بسبب الاحتلال وسرقة الحكام. ونريد التعاون مع تركيا في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والاقتصاد والبناء والطاقة، وكذلك في معالجة المعادن”. أوجبت تلك التغيرات على دول المنطقة المؤثرة التقارب وبناء تفاهمات وسياسات استراتيجية مع تركيا. بغرض اللحفاظ على المكتسبات ولتلاف المخاطر والتهديدات”.

التداعيات المحتملة

من المرجح أن يؤثر التقارب التركي مع الدول العربية في التوصل إلى اتفاق في العديد من الملفات الشائكة. من بيها على سبيل المثال في مشكلة سد النهضة نظرا لوجود تعاون مشترك بين أردوغان ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد. وكذلك التوافق على رؤية تعاونية في المسألة الليبية، ربما يتجاوز ذلك إلى إنشاء تحالف أمني لمواجهة التهديدات المتصاعدة في المنطقة. وتمرير التجارب الاقتصادية الناجحة، كما سيمثل جبهة ضغط في مواجهة الدور الإيراني، وكبح جماح نفوذها في اليمن ولبنان وغيرها.

كما سيترك التقارب الإماراتي التركي تأثيرات على الملف الأفريقي والعلاقة التركية مع قبرص والاتحاد الأوروبي. بخلاف الملفات الشائكة في العراق وإيران وسوريا وليبيا، ستنال جزءًا من هذا التقارب، وفق عمليات إعادة تموضع تتصل بمصالح مشتركة.

ملف طالبان في بؤرة الاهتمام
ملف طالبان في بؤرة الاهتمام

كما أن أبرز الملفات التي ينظر إليها بعد هذا التقارب، هو العلاقة بين الإمارات وقطر. والتي ما لبثت أن هدأت باتفاق العلا إلا وعاد التلاسن الإعلامي مرة أخرى. وهو ما يشير إلى إمكانية لعب تركيا دورا محتملا لتطويق هذا الخلاف، نظرًا لعلاقات أنقرة والدوحة الجيدة.

يعود الخلاف بين تركيا ومحور (مصر- السعودية- الإمارات) إلى عام 2017 في إطار المقاطعة الخليجية مع قطر. حيث يختلف الجانبان في التعامل مع القضايا الإقليمية مثل في ليبياز إذ دعمت الدول الثلاث قوات القيادة العامة بزعامة المشير خليفة حفتر. بينما اتخذت تركيا جانب فايز السراج ودعمته بالميليشيات المسلحة. وكذلك العلاقات التركية مع حركة حماس.

كما شكل التعاون التاريخي بين تركيا وجماعة الإخوان المسلمين واحدة من نقاط الخلاف بين تركيا ودول المنطقة. وصنفت دول المقاطعة الإخوان “جماعة إرهابية”، في الوقت الذي دعمت فيه تركيا قادة الجماعة، واستضافت المعارضين والعناصر المطلوبة أمنيا. إلى جانب الخلاف الأيدولوجي والجيوستراتيجي، حيث تسعى تركيا لاستعادة إرث الإمبراطورية العثمانية في العالم العربي والإسلامي.