ستظل قناة الجزيرة واحدة من أهم القنوات الإخبارية العربية وربما الأكثرها تأثيرا ومشاهده في العالم العربي، حتى لو أصبحت أحد الأدوات المهمة للسياسة الخارجية القطرية.

وقطر دولة صغيرة ليس فيها أحزاب ولا برلمان ولا تداول سلمي للسلطة، وحتى التغيرات التي شهدتها فكانت كلها “انقلابات قصر”، فالأفكار الثورية لا تعرفها والنقابات العمالية غير موجودة ولا توجد احتجاجات اجتماعية، فهي مجتمع وفرة بامتياز، وهو ما جعل الجزيرة تنظر من “فوق” إلى العالم العربي، لأنها تبث من بلد لا يعرف مشاكله.

وقد حافظت الجزيرة منذ نشأتها على معادلة تخلط القواعد المهنية بالتحيزات السياسية أو التي وصفها البعض بالسياسة التحريرية، فهي لا تختلق أخبار كما تفعل بعض القنوات، إنما ترتبها وتسلط الضوء على ما هو قريب لتوجهاتها التحريرية.

وقد اختلت معادلة الجزيرة حين شهدت قطر أول انقسام مجتمعي عميق نتيجة رفض شريحة من المجتمع لقانون الانتخابات، والتي ستجري لأول مرة في تاريخ البلد في 2 أكتوبر المقبل، وسيتم فيها انتخاب ثلثي أعضاء مجلس الشورى (30 عضوا) وتعيين الثلث (15 عضوا)، حيث أعطى القانون حق التصويت للقطريين “الأصليين” الذين كانوا مواطنين في عام 1930 بما يعني استبعاد معظم أبناء القبيلة الأكبر في قطر وهي “آل مرة” من حق التصويت، رغم أنها وفق بعض التقديرات تقترب من 40% من عدد القطرين الذين يبلغون حوالي 14% من عدد السكان.

وهذه هي المرة الأولي التي تجد الجزيرة نفسها أمام تحدي كبير يخص البلد التي تبث منه، فهو تحدي يمس تماسكها الوطني الاجتماعي

وهذه هي المرة الأولي التي تجد الجزيرة نفسها أمام تحد كبير يخص البلد التي تبث منه، فهو تحدي يمس تماسكها الوطني الاجتماعي، حيث تم تداول عشرات الفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي التي تؤكد خروج مظاهرات احتجاجا على التمييز بين المواطنين الموجود في قانون الانتخابات، كما تكلم أكثر من مواطن قطري على مواقع التواصل الاجتماعي معلنين رفضهم القاطع للقانون حتى أن المحامي القطري الشهير هزاع المري وجه حديثه لأمير البلاد قائلا: “أناشدك أن تنجد نفسك وشعبك من فتنة عظيمة.. لن نعيش كالأنعام نأكل ونشرب وأمرنا بيد غيرنا.. وسنطالب بحقوقنا حتى لو كتب الموت لنا في السجون”.

ولأن هذا الانقسام يمثل تهديدا حقيقيا للتماسك الأهلي في قطر، ويعتبر بلغة الدول العربية الكبرى تهديدا للأمن القومي، وهي المفردات التي لا تحبها الجزيرة، فإن القناة لم تتجاهل الأمر “وعملت من بنها” إنما اقتربت منه بحذر وبالحدود الدنيا والهادئة، واعتبرته مجرد نقاش لآراء مختلفة حول قانون انتخابات، فاكتفت بعرض رأي يقول: من حق المعترضين أن يعبروا عن رأيهم بدون تحريض وفي إطار القانون، وتجاهلت تماما البعد القبلي والاجتماعي والسياسي للقضية، خاصة ان قبيلة “آل مرة” تحكم علاقتها بالأسرة الحاكمة تعقيدات كثيرة ومخاوف متبادلة منذ أن دعم كثير من أبناءها محاولات الأمير خليفة بن حمد آل ثاني استرداد السلطة من نجله الذي انقلب علية في عام 1995، كما أقدمت الحكومة القطرية في 2005 و2019 على سحب الجنسية من بعض أبناء القبيلة.

مفهوم أن تتجاهل الجزيرة هذه الأبعاد لأن فتحها في ظل الواقع العربي الحالي والاستقطاب الإقليمي، ستكون أضراره أكبر من فوائده حتى لو كان ذلك على حساب “الرأي والرأي الآخر” وعلى حساب القواعد المهنية، وإن تهديد السلم المجتمعي لبلد نفطي ثري فيه قاعدة أمريكية وله دور إقليمي وشرق أوسطي واضح أمر غير مطلوب إقليميا ودوليا.

إن “المحاذير الحميدة” التي دفعت تغطية الجزيرة لتداعيات قانون الانتخابات القطرية، يجب أن تسحبها على باقي الدول العربية، فمن الوارد أن يكون للجزيرة سياسية تحريرية متعاطفة مع حركات الإسلام السياسي أو مؤيده لكل الثورات العربية وتدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان حتى لو كان ذلك ليس مهمة قناة إخبارية، ولكن مطلوب أن تميز بين سياسة تحريرية لها تحيزاتها مثلما هو الحال في كثير من القنوات العربية الإخبارية، وبين أن تكون هناك قضايا تمثل تهديدا وجوديا لبعض الدول فتصبح المبالغة فيها خطرا حقيقيا على تماسكها المجتمعي. صحيح أن الحجب والتجاهل ليس حلا ولكن التكرار الفج  و”النفخ” في بعض القضايا هو “حل” تدميري لكثير من البلاد.

فمثلا قد يكون للجزيرة خط تحريري مخالف لقرارات الرئيس التونسي قيس سعيد ومتعاطف مع حركة النهضة، فهذا أمر يرجع لها وجزء من واقع “الفضائي العربي” المنقسم حول هذه القرارات،  ولكنه أمر يختلف تماما عن أن تعطي مساحة واسعة لجماعات وتيارات متطرفة تمثل تهديد للسلم الأهلي في تونس وغيرها.

أن تعتبر الجزيرة نفسها صوت المعارضين للنظام المصري لسنوات طويلة قبل المصالحة الأخيرة، فهذا خياراها التحريري، ولكن أن تعتبر أن معركة الجيش المصري ضد الإرهاب وجماعات العنف في سيناء هي معركة بين طرفين على قدر المساواة أمر لا يمكن قبوله، وأي تقارير من شأنها أن تضعف معنويات أي جيش لا يمكن السماح بها، فمطلوب أن تراجع طريقة تغطيتها لقضايا الإرهاب لأنها تخص مصائر كاملة لدول وشعوب كما فعلت مع قانون انتخابات وليس حرب يسقط فيها شهداء.

وكذلك تغطيتها لأحداث الثورة السودانية، فقد كانت صوتها وصوت أي حراك شعبي يجري في المنطقة، وهو أيضا خطها التحريري لأن هناك من يرفض أي ثورة وأي حراك شعبي في كثير من القنوات العربية، ولكن أن تستمر في التغطية والنفخ في المصادمات التي حدثت بين المتظاهرين وقوات الأمن أو تلك التي جرت على أساس عرقي في بعض الأقاليم السودانية، وهي تعرف أن مد خيط التغطية بهذه الطريقة إلي نهايته قد يهدد المسار الانتقالي برمته ولن  يعيد حقوق الضحايا، وأن البديل لن يكون دولة قانون ومحاسبه عادلة للمخطأ إنما رد فعل ثأري وفوضي واقتتال أهلي.

من الصعب تجاهل تأثير الجزيرة عربيا ودوليا، ولا كفاءة تغطيتها الإخبارية لعشرات القضايا وخاصة الدولية، مثل الانتخابات الأمريكية الأخيرة أو أحداث أفغانستان، وحتى الفترة القصيرة التي أعطت فيها أولوية لتغطية قضية المياه وسد النهضة كانت ممتازة، وأخيرا فإن “الجزيرة الإنجليزية” كانت تغظيتها لمظاهرات الشيخ جراح وعرب 48 والعدوان الإسرائيلي على غزة شديدة الاحترافية والتأثير في الرأي العام الغربي، ومع ذلك فهي مطالبه أكثر من أي وقت مضي أن تعرف أن ما فعلته مع قانون انتخابات قطر من حذر وحرص على المصلحة العامة والتماسك المجتمعي ورفض الفوضى يجب أن يكون حاضرا في تغطيتها لأحداث باقي الدول العربية وهو يختلف تماما عن السياسة التحريرية التي هي مفهوم أن تكون محل جدل.