من الصين إلى قادة جنوب فيتنام والعراق وأخيرا أفغانستان. دعمت الولايات المتحدة الحكومات الفاسدة. وعلى الرغم من المليارات والمليارات من الدولارات والدعم العسكري غير المشروط. تنهار تلك الأنظمة في نهاية المطاف مثل قطع الدومينو.
تفتح فوضى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان. وتسليم الجيش الوطني خلال ساعات كامل أراضي البلاد. والتخلي عن تسليحه الذي يعد بالمليارات، الجرح المتكرر. وعلى هذا المنوال، لدى واشنطن إرث تاريخي حزين وسيناريو متكرر مع الوكلاء الفاسدين الذين يؤدوا في النهاية إلى الهزيمة. فما السر؟
المشترك في أغلب تلك السيناريوهات هو الوكلاء المحليون الفاسدون الذين تختارهم واشنطن. للتعاون معهم في كل مغامرة تخوضها.
معادلة لخصها منشور على جريدة الفايننشال تايمز الأمريكية بالقول: “أدى الفساد إلى تآكل الدعم الشعبي، ما سمح للخصوم بالسيطرة. يسلب الفساد من السكان احتياجاتهم الأساسية ويحول الأموال للاستخدام الشخصي”.
“لم يشعر القادة الفاسدون الذين دعمتهم الولايات المتحدة بالحاجة إلى إصلاحات أو إعادة بناء دولهم، فالهدف الأساسي دائما هو الحفاظ على السلطة، ولقد نجا هؤلاء المسؤولون الفاسدون فقط بسبب دعم الولايات المتحدة”.
وعلى ذكر الفساد. قالت منظمة الشفافية الدولية في تقرير أشار إلى تنامي المخاطر التي تواجهها الديمقراطية في العالم. إن الولايات المتحدة تراجعت أربع نقاط على مؤشر عالمي للفساد في عام 2018 لتخرج بذلك من قائمة أفضل 20 دولة لأول مرة منذ 2011، ولكن للقصة جذور أعمق.
أفغانستان.. تمكين الفساد
نبدأ من السيناريو الأفغاني الذي أحدث صدمة غير متوقعة، هزيمة نكراء، وضياع تريليوني دولار على مدار عشرين عاما في جهود دعم النظام. من أموال دافعي الضرائب، فضلا عن استنزاف موارد الشعوب الفقيرة، ليس للمرة الأولى وغالبا لن تكون الأخيرة.
تحكي الصحفية والخبيرة بالشأن الأفغاني الامريكية سارة تشايس. التي سبق وغطت سقوط طالبان في العام 2001. عن مشاهداتها في المنطقة، والطريق إلى الهزيمة في مقالها “أفكار أغسطس“.
تقول سارة عن عوامل الإخفاق: للولايات المتحدة دورا مهما في تمكين الحكومة الأفغانية الفاسدة بالأساس من حكم البلاد. ومؤخرا علمت أن المتحدث الأخير للبرلمان الأفغاني رحمن رحماني أصبح مليونيرًا. وذلك بفضل العقود الاحتكارية لتوفير الوقود والأمن للقوات الأمريكية في قاعدتها الرئيسية، باجرام. متسائلة: هل هذا هو نوع الحكومة التي من المحتمل أن يخاطر الناس بحياتهم للدفاع عنها؟”
وتروي سارة كيف أنه قبل عقدين من الزمن، كان الشباب في قندهار يشتكون من الميليشيات التي تعمل بالوكالة. التي قامت القوات الأمريكية بتسليحها وزودتها بالزي الأمريكي كانت تضايقهم عند نقاط التفتيش.
وبحلول عام 2007. كانت وفود من كبار السن تزورها بعد أن أقامت هناك وعملت على تأسيس منظمتي مجتمع مدني. فيقولون لها “طالبان تضربنا على هذا الخد، والحكومة تضربنا على ذلك الخد”.
وتتابع سارة: “لقد أمضيت أنا والعديد من الأشخاص الآخرين الذين لا يمكن إحصاؤهم سنوات من حياتنا في محاولة إقناع صانعي القرار الأمريكيين. بأنه لا يمكن توقع أن يخاطر الأفغان نيابة عن حكومة كانت معادية لمصالحهم مثل حركة طالبان”.
في أسباب الهزيمة.. خدعة الديمقراطية
بعد أن تأكد لسارة أن الولايات المتحدة غير عازمة على التصدي للفساد. لم يعد لديها شك أن الهزيمة قادمة ولا مفر منها.
وتقول الرواية التي يفضلها الأمريكيون في أفلامهم. لقد حاولنا ببسالة جلب الديمقراطية إلى أفغانستان. ولكن الشعب هناك لم يكن مستعدا لها. أو أن الأفغان رفضوا التدخل الأجنبي، وتشهد سارة على ذلك قائلة: كنت هناك لم يرفضنا الأفغان بل نظروا إلينا كمثال على الديمقراطية وسيادة القانون. بعد أن ظنوا أن هذا ما حاربنا من أجله، ولكن اتضح لاحقا أن ما حرسناه طوال تلك الفترة هو المحسوبية، والفساد المستشري.
تؤكد سارة إن ما دافع عنه الأمريكان حقيقة هو النظام الرأسمالي الذي يضع قواعده شبكة من المتخصصين الماليين والمصرفيين يعملون على وضع نظام حكومي يستفيد منه المليارديرات فقط.
سارة أيضا ترى أن كل ما يحدث كان دائما مدبرا، فبالرغم من جميع الشواهد التي تشي بأن طالبان صنيعة المخابرات الباكستانية، فأن واشنطن طالما تعاملت مع اسلام اباد كحليفة، حتى مع اكتشافها اختفاء أسامة بن لادن بين تلالها.
المؤامرة والفساد
وتتشكك سارة في خلفيات وأسباب هذا السقوط المخجل للحكومة الأفغانية. فكيف لميليشيا مفككة ومختبئة في التلال كطالبان. قادرة على تنفيذ خطة حملة معقدة بدون دعم دولي. وإمدادات مالية لامتناهية تستطيع بها شراء قادة الجيش والشرطة الأفغان المحليين. وتعيين مسؤولين بدلاء في اليوم نفسه يتحدثون لهجة قندهارية غير مألوفة. وكأنهم وافدين من الخارج.
تتضح المؤامرة والفساد شيئا فشيئا بالكشف عن أن حميد كرزاي أول رئيس وضعته الإدارة الامريكية بعد الإطاحة بطالبان. كان وسيط المخابرات الباكستانية الذي ساهم في استيلاء الحركة عام 1994على البلاد. ويعود مرة أخرى ليقوم بنفس الدور عبر لجنة التنسيق التي تفاوضت على الاستسلام.
بالتوازي تتساءل سارة عن الدور الذي لعبه المبعوث الأمريكي الخاص زلماي خليل زاد صديق كرزاي القديم. وكان هو الذي أدار المفاوضات مع طالبان لإدارة ترامب. التي اضطرت فيها الحكومة الأفغانية لتقديم تنازل بعد تنازل.
وقد كان زاد أيضا مقربًا من نائب الرئيس السابق ديك تشيني وضغط لصالح خط أنابيب نفط عبر أفغانستان عندما كانت طالبان آخر مرة في السلطة. ومع ذلك لم يفكر أحد في استبداله.
أمريكا.. دول عميلة وفاسدة
حاولت جريدة الإيكونوميست الوقوف على أسباب دعم أمريكا للعملاء الفاسدين وكيفية علاج هذا الداء. في مقال حمل عنوان ” لماذا تستمر أمريكا في بناء دول عميلة فاسدة”.
تقول الجريدة الأمريكية العريقة في مقالها: هزمت أمريكا في جنوب فيتنام عام 1975، ومرة أخرى في الأسبوع الماضي في أفغانستان. ويبقى العامل المشترك بين الانهيارين تعميقهما للفساد. وهو مرض قديم تتميز به جميع مشاريع واشنطن، بدءا من البوسنة وهايتي وحتى كوسوفو والعراق.
تشير الجريدة إلى أهمية الانتباه لقضية الفساد ليس فقط لفهم سبب فشل وكلاء أمريكا. ولكن لكيف تعمل الدول بشكل عام.
ويبدو الأمر مثل شبكة مترابطة أقوى من الدولة نفسها تقوم على المحسوبية والفساد، وبدلا من تفكيكها. قامت الولايات المتحدة بتعزيزها عبر دفع أموال لأمراء الحرب للحفاظ على السلام، وفقًا لتقارير المفتش العام الخاص بإعادة إعمار أفغانستان.
قد يتذكر الأمريكيون في السبعينات مصطلح “الجنود الأشباح” من فيتنام. حيث استخدم القادة الفاسدون نفس النظام تمامًا. حيث كان ربع المجندين في الجيش عبارة عن أسماء وهمية. وهو النموذج نفسه من الفساد الذي اتبعه القادة في أفغانستان.
آنذاك اعتاد كولونيل فيتنامي جنوبي أن يأمر بقصف مدفعي بلا هدف من أجل نشر أغلفة القذائف المستهلكة كخردة معدنية يتم بيعها لاحقا حيث كان أغلب الضباط هم رجال أعمال بارزين. كما هو الحال في أفغانستان حين استفادت قوات الشرطة والجيش أيضًا من تجارة الهيروين.
وقد كانت استنتاجات تقرير صدر عام 1978 عن سقوط جنوب فيتنام من قبل مؤسسة “راند” .وهي مؤسسة بحثية أمنية. تشابه تلك الواردة في تقرير “سيجار” الأخير عن أفغانستان الذي صدر في 31 يوليو الماضي.
إذ وجد تقرير مؤسسة راند أن الفيتناميين الجنوبيين يعتقدون أن الفساد “مرض أساسي كان مسؤولاً إلى حد كبير عن الانهيار النهائي”. ومع ذلك رفضت أمريكا التعامل معه على أنه قضية خطيرة عندما غزت أفغانستان بعد عقود.
دول الدولارات
تشير الإيكونوميست إلى أن مجابهة الفساد يتطلب تغيير المنظور. فما كان من الولايات المتحدة إلا التعامل معه باعتباره شكلاً من أشكال الحكم في حد ذاته، وتقول: إنه يشبه دول ما قبل الحداثة التي يسميها فرانسيس فوكوياما، حيث تقوم السلطة على الروابط الأسرية أو الصداقة بدلاً من المؤسسات غير الشخصية، وهذه الدول معنية بشكل أساسي بتهدئة القادة المسلحين من خلال منحهم حصة من الغنائم الاقتصادية.
وهذا بدوره يؤدي إلى مشكلة ذات صلة إذ أن إنفاق الكثير من المال في البلدان الفقيرة يسبب الفساد، كما حدث في كل من جنوب فيتنام وأفغانستان ومن قبلهما هاييتي، وبالوقت نفسه تسبب التدفق الهائل للدولارات الأمريكية في زيادة التضخم ، مما أدى إلى القضاء على رواتب موظفي القطاع العام.
على سبيل المثال وصل متوسط التضخم في أفغانستان 17.5٪ في الفترة ما بين 2003 و 2008. وبناء عليه اضطر الموظفون النزيهين للجوء إلى الرشوة بعد أن تقطعت بهم سبل العيش.
ومن ثم فإن إحدى توصيات خبراء مكافحة الفساد هي أن المساعدات في دول مثل أفغانستان يجب أن تكون مقتصدة وأن تركز على الإنجازات بدلاً من حجم المنح. حيث يجب أن تتعلم الولايات المتحدة أن الدولارات لا يمكنها بناء حكومة حقيقية، فجل ما تستطيع إنجازه هو إنشاء حكومة مزيفة أخرى.