مقدمة: طرائف ومساخر

البحث في أحوال النقابات الفنية: المهن التمثيلية، المهن السينمائية، المهن الموسيقية، يتصل بالضرورة بالبحث في أحوال باقي النقابات المهنية (صحافيين، محاميين، أطباء….)، لسببين: الأول أنها جميعا ذات طبيعة “مزدوجة”؛ فهي تجمع ما بين كونها إطارًا رسميًا لتنظيم مزاولة المهنة، وتحوز على تفويض من الدولة بذلك، وما بين كونها إطارًا نقابيًا يتيح للأعضاء الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم، والسبب الثاني أن النقابات الفنية الثلاث تتمايز، بدرجة كبيرة، عن باقي النقابات المهنية.

وأي بحث جدي يقتضي، أولاً النظر تفصيليًا، ومن منظور تاريخي إلى مسارات القوانين واللوائح والمواد الدستورية التي تحكم وتنظم عمل هذه النقابات، والملابسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي جرت فيها، وتأثيرها على طبيعة تفاعلها مع الواقع وتفاعله معها، كما يقتضي ثانيًا النظر إلى الاتفاقات والمعاهدات التي وقعتها مصر، وتكون بالتالي، ملتزمة بها قانونًا، والمتعلقة بشكل مباشر، أو غير مباشر، بطبيعة أنشطتها. وأخيرًا، سيكون مفيدًا النظر بشكل مقارن بين الواقع المصري وبين مثيله في دول العالم.

***********

ثمانون عامًا، تقريبا، انقضت منذ أخذت النقابات الفنية الثلاث طابعها القانوني “الرسمي”. في هذه المقدمة سيتم التطرق إلى محدد رئيسي، ظل ساريًا ومتحكمًا بشكل قصري في طبيعة عملها؛ على الرغم من مختلف المتغيرات التي جرت خلال تلك الفترة، وهو “تجريم” الاقتراب من السياسة والدين، ومن هنا ستظهر المفارقات والطرائف الماضية والحالة، معًا.

وفي هذه المقدمة، أيضًا، سيجرى عرض تمايز دال وربما صارخ بين النقابات الثلاث، وباقي النقابات المهنية، والذي يمكن عده، دون مبالغة، من بين المساخر.

*********

واقعيا عُد القانون رقم 85 بشأن نقابات العمال، الذي أصدره الملك فاروق في 6 سبتمبر سنة 1942 (سنشير إليه بعد ذلك بقانون 85)، السند الفعلي لتأسيس النقابات الثلاث، فالفقرة الثانية من المادة الأولى تنص على أنه: “وللأشخاص الذين يشتغلون فى غير الأعمال الصناعية أو التجارية عدا من نص عليهم فى المادة الثانية حق إنشاء نقابات تقوم بجميع المهام النقابية ما عدا التدخل بين الخادم ومخدومه أو بين العامل وصاحب العمل”، وقد استند إليها الممثلون والسينمائيون والموسيقيون، فأسسوا أولى نقاباتهم، في العام التالي لصدوره، والعام الذي يليه، من دون الحاجة لقانون خاص بكل نقابة، ولكن فقط لقرار من وزارة الشئون الاجتماعية.

الملك فارق وجمال عبدالناصر وأنور السادات
الملك فارق وجمال عبدالناصر وأنور السادات

أما قانونًا، فقد مثل القانون رقم 142 بشأن إنشاء نقابات واتحاد نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية، الذي أصدره جمال عبد الناصر في 17 مارس 1955؛ بصفته رئيس مجلس الوزراء، البداية الفعلية لإنشاء النقابات الفنية (سنشير إليه فيما بعد بقانون 142)، وبعد ثلاث سنوات فقط أصدر الرئيس جمال عبد الناصر (رئيس الجمهورية العربية المتحدة) قانونًا جديدًا (رقم 118- سنشير إليه فيما بعد بهذا الرقم) بشأن نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية في الإقليم المصري، لأنه- وبحسب ديباجة القانون- “سرعان ما أظهر التطبيق العملي لهذا القانون (قانون 142) ضرورة مراجعة بعض نصوصه وإضافة بعض أحكام جديدة استوجبتها الحاجة”، وسنعود لبحث متغيرات السنوات الثلاث فيما بعد.

وأخيرًا أصدر الرئيس أنور السادات، في 22 يونيه 1978 قانون رقم 35 (سنشير إليه فيما بعد بقانون رقم 35)، بشأن إنشاء نقابات واتحاد نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية، وهو القانون الذي ما زال ساريًا حتى اللحظة.

في قانون فاروق نقرأ أنه: لا يجوز للنقابات.. الاشتغال بمسائل سياسية أو دينية. وفي قانوني عبد الناصر نقرأ أنه: لا يجوز لتلك النقابات أو الاتحاد الاشتغال بالأمور السياسية أو الخلافات الحزبية أو الدينية، وعلى العضو أن “يتجنب الجدل في الأمور السياسية أو الحزبية أو الدينية في داخل النقابة”. أما قانون السادات فلا نجد فيه هذا المنع، لكننا نجد أن على العضو أن يؤدي قسمًا تنص جملته الأولى على: “اقسم بالله العظيم أن أصون مصلحة الوطن”.

سنبحث هذا المنع فيما بعد تفصيليًا، فدلالة المنع في كل مرحلة مختلفة كثيرًا عن سابقتها، لكننا الآن سنعرضه على مقارنة مزدوجة، فأولاً سنقارن واقع الحال بالنسبة للفنان المصري وزميله الأميركي، وثانيًا، سنقارن بين الفنان المصري والصحفي المصر من نفس الزاوية، زاوية “النقابة والسياسة”، وقد نحتاج وجود طبيب.

************

سنختار ممثلين أميركيين فقط، وللمصادفة العجيبة أن الاسم الأول لكل منهما: دونالد، أحدهما راحل، والثاني ما زال على قيد الحياة، وسنبدأ به.

في فبراير الماضي بثت وكالات الأنباء خبرًا، كان عنوانه: “ترامب يستقيل من نقابة الممثلين”، وفي التفاصيل نقرأ: “استقال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من عضويته في نقابة الممثلين التي تُراجع إجراءات تأديبية ضده بعد اقتحام مؤيديه لمبنى الكونغرس في السادس من يناير الماضي”، وذلك عبر خطاب أرسله إلى رابطة ممثلي الشاشة والاتحاد الأمريكي لفناني التلفزيون والإذاعة، وجاء فيه: “من يهتم! ..لم أعد أرغب في الانتماء إلى نقابتكم” وفي بيانها الخاص، ردت النقابة على ترامب قائلة: “شكرا لك”.

دونالد ترامب عمل بالتمثيل
دونالد ترامب عمل بالتمثيل

نفهم من الخبر أن ترامب كان ما زال يحتفظ بعضويته في النقابة أثناء توليه الرئاسة، ونعرف، أيضا، أنه مارس السياسة على نطاق واسع بينما كان عضوا، ونعرف أن أسباب تصويت أعضاء النقابة بنسبة كاسحة، بالموافقة على طلب للتحقيق معه، أنه، وبحسب تصريحات رئيسة النقابة، غابرييل كارتريس، قد “هاجم القيم التي تعتبرها هذه النقابة مقدسة”، وهي: “الديمقراطية والحقيقة واحترام المواطنين من كل الأعراق والأديان وحرية الصحافة”. ونعرف من الأخبار، أيضًا، أن ترامب انضم إلى النقابة عام 1989، وأنه إلى جانب تقديمه برنامجًا تلفزيونيًا شهيرًا “ذي ابرانتيس” لفترة طويلة، بداية من عام 2004، شارك في عدد من الأفلام، من أهمها “هوم ألون 2: لوست إن نيويورك” (1992).

دونالد الآخر، هو ريجان، الذي شغل منصب الرئيس الأربعين للولايات المتحدة في الفترة من 1981 إلى 1989، فتعريفه الرسمي المعتمد، هو: سياسي وممثل أمريكي راحل، أما التعريف بأهم المناصب التي شغلها، فإلى جانب الرئاسة، يذكر أنه كان حاكم ولاية كاليفورنيا الثالث والثلاثين بين عامي 1967 و 1975، بعد مسيرة كممثل في هوليوود ورئيس نقابة ممثلي الشاشة، وقد شغل منصب النقيب لفترتين من 1947 إلى 1952، كان خلالها يمارس نشاطا محموما لاستئصال النفوذ الشيوعي في الاستوديوهات الأميركية.

ريجان ثم ترامب، حالة فريدة بلا شك، وما ذكرهما، هنا، إلا على سبيل ذكر الطرائف، لكن الدلالة المتعلقة بموضوع النقابة والسياسة لها نصيب.

دونالد ريجان عُرف بالرئيس الممثل
دونالد ريجان عُرف بالرئيس الممثل

***********

الفنان المصري كان يجب عليه أن يتجنب يوم 21 يونيه 1978 “الجدل في الأمور السياسية أو الحزبية أو الدينية في داخل النقابة”، وفي اليوم التالي كان عليه أن يقسم بالله العظيم أن يصون “مصلحة الوطن”، ومن يومها حتى اللحظة، يمكن له أن يعتبر نفسه محظوظًا بالمقارنة مع صديقه الصحفي أو قريبه الطبيب؛ فحالهما في موضوع النقابة والسياسة أصعب بكثير.

نقرة إصبع واحدة من الجهاز الذي تقرأ عبره هذه الكلمات ستفيدنا، معًا، أنا ككاتب لهذه الكلمات، وأنت كقارئ.

اكتب “نقابة الصحفيين” على محرك البحث، ستجد على موقع النقابة الرسمي قانون رقم 76 لسنة 1970، إنه قانون النقابة في اللحظة التي تقرأ فيها هذه الكلمات، ستقرأ التالي في المادة الثالثة: تستهدف النقابة: أ: العمل على نشر وتعميق الفكر الاشتراكي والقومي بين أعضائها وتنشيط الدعوة إليه في داخل المؤسسات الصحفية وبين جمهور القراء”، ثم ستقرأ “ويجرى نشاط النقابة في إطار السياسة العامة لالتحاد االشتراكى العربي”.

وقم بنفس الخطوات مع “نقابة الأطباء”، في موقعها الرسمي، ستجد أن قانون رقم 45 لسنة 1969 بشأن نقابة الأطباء ينص في بنده الأول على أنه “تنشأ نقابة الأطباء لها الشخصية الاعتبارية وتباشر نشاطها في إطار السياسة العامة للاتحاد الاشتراكي العربي…”، وفي أهداف النقابة ستجد في الفقرة (ب) ما يلي: “العمل علي دعم الأفكار والقيم الاشتراكية بين الأطباء والتعبير عن آراء الأطباء في المسائل الاجتماعية والاقتصادية والوطنية”.

عزيزي القارئ: لا داعي للسخرية، فالموضوع جدي، بجد، ماذا يهم إذا كانت نقابة الأطباء تباشر نشاطها من غير إطار، إطار اختفى عام 1977، وماذا يهم إذا كانت نقابة الصحفيين هي الآخرى “ضاع” منها “الإطار”، وأنه لا يجرؤ صحفي واحد على العمل على أولى أهداف النقابة.

المهم أن الفنان العضو في إحدى النقابات الفنية الثلاث خرج منتصرا من نقرتي الأصبع، فكل ما عليه أن “يصون مصلحة الوطن”؛ بتجنب الجدل في السياسة والدين.

والأهم أن أكون قد نجحت في جذب اهتمامك للموضوع، فإلى لقاء في مقدمة جادة، بجد.