رغم إقدام دول عربية كثيرة على إلغاء خانة الديانة في أوراق الثبوتية في السنوات الأخيرة، إلا أن مصر لم تظهر رغبة كبيرة في تحرير القيود الدينية التي تميز بها أصحاب الديانات السماوية والأشخاص غير المؤمنين بالأساس.

يتأكد ذلك مع كل دعوة يطلقها نشطاء أو برلمانيون أو حتى رجال دين لإلغاء هذه الخانة من بطاقة الرقم القومي، حيث تخمد الحملة في مهدها ولا يمتد أثرها أكثر من محيطها الحقوقي والإعلامي، لتنضم إلى أخواتها، اللواتي فشلت في تغيير موقف الحكومة من إلغاء خانة الديانة.

يحدث هذا منذ سنوات عدة، وتحديدا منذ بداية عمل المنظمات الحقوقية في مصر على قضايا الحريات الدينية، وكانت آخر هذه المحاولات هي الدعوة القضائية التي أقامها المحامي نجيب جبرائيل، مستشار الكنيسة القبطية، ورئيس منظمة الاتحاد المصري لحقوق الإنسان، أمام محكمة القضاء الإداري.

استمرار وجود خانة الديانة ببطاقة الرقم القومي أمر غير مفهوم بالنسبة لكثير من المعترضين
استمرار وجود خانة الديانة ببطاقة الرقم القومي أمر غير مفهوم بالنسبة لكثير من المعترضين

طالب جبرائيل في دعواه بإلزام وزير الداخلية ومساعده لقطاع الأحوال المدنية بإلغاء خانة الديانة. وجاء في الدعوى أنه في ظل ما تشهده مصر من وحدة صف غير مسبوقة تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، ومن ثم فقد آن الأوان للتخلص من كل مالا يرتضي هذه الدولة بل أحياناً يكون لاستغلال بعض الأمور وبسوء نية في تقويض أركان الدولة، والتي من بينها بعض الأوراق الثبوتية التي تصدرها وزارة الداخلية والمتمثلة في بطاقة الرقم القومي.

استمرار وجود خانة الديانة ببطاقة الرقم القومي أمر غير مفهوم، بالنسبة لمستشار الكنيسة القبطية، خاصة أننا في دولة شعبها متدين بطبعه وهذا سر تفرده وتفوقه، ومن ثم فإن وعي المرء وإدراكه وإيمانه بعقيدته لا يكون من خلال مجرد لفظ يكتب سواء مسلم أو مسيحي ببطاقة الرقم القومي.

مساوئ الإبقاء على خانة الديانة يعددها جبرائيل في استبعاد البعض من التعيين في الوظائف الكبرى، كما أن التضييق وصل إلى عقود الإيجار والتمليك التي تؤثر على إتمامها في بعض الأحيان وجود تلك الخانة.

سنوات من المطالبة

سبقت دعوى مستشار الكنيسة عدد من الدعاوي ومطالب برلمانية وحقوقية تحمل ذات المطلب.

لا يوجد تاريخ محدد لبداية دعاوى إلغاء خانة الديانة، لكن الأمر اكتسب صبغة رسمية مع بداية تحرير البهائيين المصريين دعاوى قضائية بأحقيتهم في الحصول على شهادات ميلاد وغيرها من الأوراق الرسمية مع ترك خانة الديانة فيها خالية، دون إجبارهم على اعتناق الإسلام أو المسيحية.

ويوضع علامة (-) أمام خانة الديانه لدى الأشخاص الذين يعتنقون الدين البهائي، وفقا لتوصية قضائية صدرت في العام 2009، حيث لا تقيد الديانة البهائية في خانة الديانة بمستندات الأحوال المدنية لما يمثله من تعارض مع النظام العام.

واستندت مفوضية هيئة المفوضين بالمحكمة الإدارية العليا أن المستقر لدي أئمة المسلمين، بأن الديانة البهائية ليست من الأديان المعترف بها، وإنما هي فكر خرج أتباعه عن كل الأديان السماوية، لذلك رأت المبادئ الدستورية والأعراف القانونية، أن لا يجوز قيدها في مستندات الأحوال المدنية، أو أي مستند رسمي لما يمثله ذلك من تعارض مع النظام العام.

ليس البهائيون وحدهم من عانوا من هذا التمييز، فالعائدون إلى المسيحية بعد اعتناقهم لفترة الإسلام واجهوا صعوبة في إثبات ذلك عبر الأوراق الرسمية، وحررت دعاوى قضائية نظرتها محكمة القضاء الإداري في الفترة من 2004 إلى 2007 لتقاعس قطاع الأحوال المدنية عن إتمام هذا الأمر.

الأمر طال أبناء المتحولين من المسيحية إلى الإسلام، وكذا المتحولين عموما من المسيحية إلى الإسلام، بحجة عدم إباحة الشريعة الإسلامية للارتداد عن الإسلام.

تعارض مع الدستور

من هنا خرجت الدعوات لإلغاء الديانة في الأوراق الرسمية لقطع خطوة في مشوار عدم تعطيل ديانتك معاملاتك الحكومية اليومية، وهي مطالبات تستند في الأساس إلى النص الدستوري: المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسى أو الجغرافى، أو لأى سبب آخر”.

وبحسب المادة 53 من الدستور، فإن التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون. وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض.

السنوات الأخيرة شهدت دعوات مستمرة في هذا الشأن أملا في القضاء على التمييز الديني، خصوصا مع إقدام دول عربية كثيرة مثل تونس والأردن والسعودية، إلى جانب دول أخرها معروف عنها التقسيم الطائفي مثل سوريا لم تعد بها هذه الخانة، ولبنان أيضا لم يدرج من الأساس هذه الخانة في أوراق ثبوتية المواطنين.

خانة الديانة في البرلمان

إلى جانب الدعوات التي أطلقها نشطاء مدافعون عن حقوق الإنسان على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل حملة “حاجة تخصني”، وبالتأكيد مؤتمر المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي عقد في 2006 للحديث عن هذا الأمر، اهتم أحد أعضاء مجلس النواب بتقديم مشروع قانون في العام 2018 وهو النائب إسماعيل نصر الدين، لإلزام الحكومة المصرية بحذف خانة الديانة من بطاقة الرقم القومي.

نصر الدين أوضح أن إلغاء خانة الديانة، مجرد إجراء شكلي، الهدف منه التعود على التعامل مع الناس من خلال هويتهم الإنسانية أولا، وهويتهم الوطنية، كما يرسخ لمبدأ مهم من المبادئ الدستورية التي حرص الدستور المصري على تأكيدها.

حملة "حاجة تخصني"
حملة “حاجة تخصني”

نصر الدين لم يكن أول من طرح طلب كهذا في البرلمان، فسبق أن تقدم النائب علاء عبد المنعم بمشورع قانون عام 2016، حوى على “إلغاء خانة الديانة في بطاقة الرقم القومي وكافة الوثائق والمستندات الرسمية ولا يجوز إجبار أي مواطن على الإفصاح عن ديانته إلا إذا كان الإفصاح ضروريا لترتيب مركز قانوني كالميراث والزواج”.

ومثلها كالدعوات الحقوقية لم تنجح مشروعات القوانين في تحريك هذا الملف، إذ رفضت بحجة أن القانون غير مستوفى الشروط الواجب توافرها، والتأكيد على أن وجود خانة الديانة على بطاقة الرقم القومى أمر ضرورى لا يمكن الاستغناء عنه.

جابر نصار.. الباحث عن المواطنة في جامعة القاهرة

يعد الأكاديمي جابر نصار واحد ممن حاولوا العزف منفردا في هذا الملف، حيث إنه قرر خلال رئاسته جامعة القاهرة في عام 2016 إلغاء تطلب خانة الديانة كبيان في كافة الشهادات والمستندات والأوراق التي تصدرها أو تتعامل بها جامعة القاهرة مع طلابها أو العاملين بها أو أعضاء هيئة التدريس أو الهيئة المعاونة.

لم يسلم نصار من الانتقادات، إذ رفضت هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف قراره، معتبرة أن المستندات التي تثبت شخصية وهوية إنسان أمور تنظمها الدولة، وأن وضع الديانة في البطاقة يساعد على معرفة وكشف الديانات الأخرى غير السماوية وحماية المجتمع من نسب ومصاهرة المخالفين.

لكن بطريرك الكرازة المرقسية البابا تواضروس الثاني كان في صف المؤيدين، لاعتبارها خطوة من أجل تحقيق المساواة والقضاء على التمييز.

لا تعبر الدعوى القضائية الأخيرة عن الكنيسة المصرية، بشكلها الواسع، باعتبار أنها مقدمة باسم نجيب جبرائيل، لكنها بكل تأكيد تمثل مطالب الكنائس الرسمية في مصر.

خطوات نحو إلغاء التمييز

يؤكد أحمد جمعة، المحامي الحقوقي، أن إلغاء خانة الديانة من الهوية الشخصية من الأمور التي تلغى التمييز بكل تأكيد، لكنها تحتاج إلى مراجعة وهيكلة لجميع الإجراءات الإدارية اليومية، مثل تسجيل المواليد والزواج والطلاق واستخراج شهادات الوفاة والميراث، فإثبات الديانة من الأمور الهامة في هذه الإجراءات الرسمية.

يوضح أنه في حالة إقرار إلغاء خانة الديانة دون مراجعة هذه الإجراءات سوف يعطل الإجراءات اليومية الحياتية، مشيرا إلى أن الدستور أعطى تمييزا إيجابيا للفئات على أساس الدين، فبإلغاء الخانة الدين دون مراجعة الإجراءات سوف يهدد هذا التمييز الإيجابي.

محامٍ: إلغاء خانة الديانة من الأمور التي تلغى التمييز بكل تأكيد، لكنها تحتاج إلى مراجعة وهيكلة لجميع الإجراءات الإدارية اليومية، مثل تسجيل المواليد والزواج والطلاق واستخراج شهادات الوفاة والميراث

ومن جانبه، قال الباحث إسحاق إبراهيم ومسؤول ملف حرية الدين والمعتقد في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إن وجود خانة الديانة يعطي رسالة وانطباعًا أن الدولة تهتم بمعرفة ديانة الشخص وعقيدة المواطنين، وهو ما يسمح بأن الأفراد يقومون بالتمييز بينهم البعض، أو الموظفين بناء على معرفة خانة الديانة.

وأضاف إبراهيم لـ”مصر 360″، أن الاتجاه العام في أغلب الدول والمحاكم الدولية للمطالبة بحرية المعتقد وحذف خانة الديانة من الأوراق الرسمية، حتى لا تؤثر على التعامل الشخص مع الدولة، مشيرا إلى أن الكثير تعرض لتمييز بشكل مباشر أو غير مباشر، قائلا: “طالما أفصحت عن خانة الديانة وارد أن يقع التمييز”.

وعرض الباحث بالمبادرة المصرية لواقعة تعرض أحد طلاب ممن تقدموا إلى الدراسة بمعهد الدراسات الأفريقية، وتم رفض طلبه ومجموعة أخرى من الأقباط، وبعد التحقيق تبين أنه تم رفضهم لعقيدتهم، وهو ما دفع رئيس جامعة القاهرة جابر نصار باتخاذ قرار حذف خانة الديانة آنذاك، كما ذكرنا في الأعلى.

يشير إبراهيم إلى أن استمرار التمسك بخانة الديانة، نابع من عدم الاعتراف إلا بالأديان السماوية، ما يجبر آخرين لإظهار عكس ما يؤمنوا به، لذا ينادي كثيرون بإلغاء هذه الخانة من أوراق الثبوتية.