بمنتهي الوضوح والصراحة ومن البداية، فإن هذا المقال لا يصلح لصنفين من الناس: لمن يبحث عن الإجابات الجاهزة أو السهلة حول هزيمة أمريكا ونهايتها كقوة عظمي، أو تسيطر عليه نظريات المؤامرة فيتصور الانسحاب الأمريكي من أفغانستان هدفه إرباك المشهد في آسيا الوسطي بما يؤثر على الصين وروسيا وإيران.
هذا المقال أتصوره بداية لحوار جاد يمكن أن يساعد في بلورة منظور مصري لحقبة ١١ سبتمبر التي امتدت لعقدين من السنين، والتي تركت تأثيرها على المشهد المصري في الداخل والخارج عبر عدد من القضايا أبرزها: ماهو المنظور المصري للحرب على الإرهاب وما هي أبرز محطاته، وما هي وطبيعة علاقته بالمنظورات الأخرى المطروحة إقليميًا ودوليا؟ تأثير الحرب على الإرهاب على الإصلاح السياسي في مصر الذي كانت ذروته ثورة يناير والتي استخدمت هذه الحرب أيضا للانقضاض عليها؟ ماهي التكلفة الوطنية لهذه الحقبة من رؤية للذات والدور الإقليمي والاستقطاب المجتمعي والاستقرار السياسي ومكونات نظرية الأمن القومي؟ ما انتهى إليه تجديد الخطاب الديني الذي أعطي قوة دفع كبري في هذه الحقبة واستخدم كأحد أدوات الصراع بين قوى عديدة؟ ماهي التكلفة الاقتصادية للحرب على الإرهاب؟وأخيرا وليس آخرا، تغيرات البيئة الدولية الإقليمية لمصر في هذه الحقبة؟
تفجير برجي التجارة العالمي
موضوعات ستة تستحق المتابعة لعلها تساهم في بناء منظور يعكس تطلعات المصريين لا نظمهم السياسية وحكوماتهم فقط.
مساهمتي في هذا الحوار- الذي أتمنى انطلاقه -سيكون عبر مناقشة واستخلاص لأحد النماذج التقويمية الأمريكية لهذه الحقبة من خلال تحليل الملف الذي نشرته مجلة الفورن أفيرز لعدد سبتمبر/أكتوبر والذي ضم ست مقالات لعدد من أبرز الباحثين في هذا المجال، وبرغم أنه يمثل رؤية أمريكية صرفة لكن سيكون له تداعيات مستقبلية في حقبة ما بعد سبتمبر.
سمات خمس يمكن استخلاصها في هذا النموذج التقويمي، يحسن قبل أن نعرض لها أن نشير إلى أهمية لحظة ١١سبتمبر في الإدراك الأمريكي: فقد أدت إلى إعادة صياغة السياسة الأمريكية، كما لم يشكل أي حدث في القرن الحادي والعشرين شكل الولايات المتحدة ودورها في العالم بقدر أحداث 11 سبتمبر- كما يرى بن رودس في مقاله الذي حمل عنوان: “هم ونحن:
كيف تسمح أمريكا لأعدائها باختطاف سياستها الخارجية؟
وكانت “الحرب على الإرهاب” أكبر مشروع في فترة الهيمنة الأمريكية التي بدأت عندما انتهت الحرب الباردة.
وإذا كان الحدث بهذه الأهمية فقد تحول إلى منظور شامل واقتراب أساسي أعاد صياغة المؤسسات والبني والهياكل والسياسات على مدار 20 عامًا. كانت مكافحة الإرهاب هي الأولوية الرئيسية لسياسة الأمن القومي للولايات المتحدة، وأعيد به تصميم آلية الحكومة لخوض حرب لا نهاية لها في الداخل والخارج، حين أصبحت الوظائف الأساسية – من إدارة الهجرة إلى بناء المرافق الحكومية إلى الشرطة المجتمعية – مؤمنة بشكل كبير، كما هو الحال مع جوانب الحياة اليومية: السفر، والخدمات المصرفية، وبطاقات الهوية، وأصبح الإرهاب قضية بارزة في كل علاقات واشنطن الثنائية والمتعددة الأطراف تقريبًا. كما أعادت الحرب على الإرهاب تشكيل الهوية القومية الأمريكية، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كانت الولايات المتحدة دولة مجردة من الإحساس بوحدة الهدف الذي عززته الحرب الباردة. لقد انتهى وضوح الصراع الأيديولوجي بين الديمقراطية الرأسمالية والأوتوقراطية الشيوعية، والعالم الحر والمجتمعات المنغلقة، لكن بعد الحادي عشر من سبتمبر، حشد الرئيس جورج دبليو بوش وراء التطلع إلى هوية أمريكية موحدة ووجهها نحو صراع جيل جديد، أعلن فيه أن الحرب على الإرهاب ستكون على قدم المساواة مع النضالات التاريخية ضد الفاشية والشيوعية.
٣-المثال والنموذج الأمريكي: غيرت الحرب على الإرهاب كيف ترى الولايات المتحدة نفسها وكيف ينظر إليها بقية العالم ؛ فالأمريكان الآن تتضاءل شهيتهم لتصدير مثلهم للخارج ،ومتشككين في دورهم العالمي ،ويعانون من إجهاد الحرب …إلخ ،هذه الأعراض وغيرها تجد جذورها في النقاش حول العناصر التالية:
أ-تأثر الديموقراطية الداخلية والعلاقات المدنية العسكرية ؛”فلم تعمل الحرب على الإرهاب على تسريع الاتجاهات الاستبدادية في أماكن أخرى فحسب ؛ بل فعلت ذلك في الوطن أيضًا. اندمجت الشوفينية في حقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر بالأمن القومي وسياسات الهوية ، مما أدى إلى تشويه الأفكار حول ما يعنيه أن تكون أميركيًا ،وطمس التفرقة بين النقاد والأعداء.”
كما تأثرت العلاقات المدنية العسكرية؛ إذ سمح عدم وجود مسودة عسكرية للحكومة الأمريكية بإسناد حروبها لطائفة عسكرية ، وهي جزء متزايد من المجتمع ينفصل عنه ذاتيًا ، مما أدى إلى انقسام مدني-عسكري متسع. مثل أي انقسام عرفه المجتمع الأمريكي على الإطلاق.
وهكذا تنتهي أحد الدراسات إلي :”من روما قيصر إلى فرنسا في عهد نابليون، يُظهر التاريخ أنه عندما تقترن جمهورية بجيش كبير قائم بذاته مع سياسات داخلية مختلة ، فإن الديمقراطية لا تدوم طويلاً”.
ب-بعد عقدين من الزمن، تعاني الولايات المتحدة أيضًا من إجهاد الحرب. احتفل الشعب الأمريكي في البداية بالقضاء علي طالبان ، ثم عانى من حروب لا نهاية لها تلعب في خلفية حياتهم. تدريجيًا ، توتر المزاج الوطني ، وقد لاحظ الخصوم ذلك. لقد أدى إجهاد الأمريكيين – واعتراف الدول المنافسة به – إلى الحد من الخيارات الاستراتيجية للولايات المتحدة. نتيجة لذلك ، تبنى الرؤساء سياسات التقاعس ، وتآكلت المصداقية الأمريكية،وعندما تنحسر القوة الأمريكية، تملأ دول أخرى الفراغ.
ج-خطر اليمين المتطرف ؛فلقد أدي التركيز علي الارهاب ذي الاسناد الإسلامي إلي إغفال تصاعد اليمين المتطرف والذي بلغ ذروته في الهجوم علي الكابيتول يناير الماضي ، أصبحت الأفكار اليمينية المتطرفة سائدة وتم تطبيعها مع حصول الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة على تمثيل في أكثر من 36 برلمانا وطنيا وفي البرلمان الأوروبي.
ونتيجة لذلك، تم التعامل مع الهجمات الإرهابية اليمينية على أنها حوادث هامشية ، وليست خطرًا مستمرًا ومتزايدًا على الأمن القومي – وهو خطر يفوق الآن الإرهاب الجهادي من حيث الخسائر التي تلحق بالمجتمعات الغربية،لذا ففي أكتوبر 2020 ، أعلن تقييم التهديد السنوي لوزارة الأمن الداخلي- أخيرًا -أن التطرف العنيف المحلي هو التهديد الأكثر إلحاحًا وفتكًا الذي يواجه البلاد.
د-تغير النظرة للمهاجرين ففي بيئة سبتمبر أصبحت المشاعر المعادية للمهاجرين أكثر انتشارًا، والمشكل أن أمريكا مجتمع قام علي الهجرة، وهو وإن تأسس علي هيمنة الرجل الأبيض ،إلا أنه اعترف بالتعددية بشكل متنامي ولكنها باتت مهددة نتيجة بروز أفكار وعناصر تمييزية كما ظهر في عصر ترامب.
هذه مجرد أمثلة لتداعيات الحرب علي الارهاب في حقبة سبتمبر من جهة تأثيرها علي النموذج الأمريكي الذي يتسم بقوة تزيينية كبيرة جاذبة ومحركة لأحلام كثير من الناس في العالم، لذا تتساءل أحد المقالات بحق :هل بعد عقدين من الحروب المتسعة في الشرق الأوسط الكبير/العالم الإسلامي استطعنا أن نكسب عقول وقلوب المسلمين؟
رابعا:العقيدة القتالية: هل هي هجومية أم وقائية؟، وهل هي حرب علي جماعات غير حكومية منتشرة في أنحاء كثيرة أم مواجهة لتمرد له حاضنة اجتماعية تدعمه وتحميه؟
استندت حملات الولايات المتحدة الواسعة لمكافحة التمرد في أفغانستان والعراق إلى عقيدة وقائية ،كما قال بوش في عام 2007 ، “سنقاتلهم هناك حتى لا نضطر لمواجهتهم في الولايات المتحدة الأمريكية.” ،لكن ما يجعل الحرب على الإرهاب مختلفة عن الحروب الأخرى هو أن النصر لم يكن قائمًا على تحقيق نتيجة إيجابية. كان الهدف منع الهجمات ،لكن في هذه الحرب ، لا يأتي النصر عندما تدمر جيش خصمك أو تستولي على عاصمته كما جري في الحرب الثانية؛ يحدث هذا عندما لا يحدث شيء.
هجمات 11 سبتمبر
أولا: المعلومات: بالطبع لا يمكن بناء أي نظام تقويمي دون معلومات مدققة، وهنا يلاحظ ثلاثة أشياء الأول استناد إلى المعلومات الأصلية لا الثانوية، فنيللي لحود قامت بمسح أكثر من 96 ألفا من وثائق بن لادن التي استولت عليها السلطات الأمريكية من مخبئه في بوت آباد أثناء اغتياله وقامت بالكشف عن سريتها الأعوام الماضية، كما استند التقويم إلى قواعد بيانات قام ببنائها المجتمع الأكاديمي مثل قاعدة بيانات جامعة براون عن تكاليف الحرب، وأخيرا المعلومات المقارنة مسألة هامة في هذا المجال حين تمت المقارنة بين ضحايا الهجمات الإرهابية ذات الإسناد الإسلامي بهجمات اليمين المتطرف، بما سمح لأحد الباحثين للحديث عن الانتقال من ١١سبتمبر إلى ٦ يناير.
ويقصد به تاريخ الهجوم على مبنى الكونجرس في إشارة واضحة لتصاعد خطر اليمين المتطرف على حساب الإرهاب ذي الإسناد الإسلامي.
ثانيا: الأهداف: حديث الأهداف في حقبة سبتمبر معقد ومركب جدا، لذا فقد اقترحت أن الباحثين عن الإجابات السهلة يمتنعون: فما هو هدفك الأساسي من هذه الحروب الممتدة التي يمكن من خلالها أن تعلن النصر؟، وفي المقابل، ما هو هدف خصمك الذي تحاربه؟ هل هذه حرب أبدية ممتدة؟
بالنسبة لأسامة بن لادن والرجال الآخرين الذين خططوا لسبتمبر، فلم يكن الهجوم مجرد عمل إرهابي. بالنسبة لهم، كان يمثل شيئًا أعظم بكثير: إطلاق حملة عنف ثوري من شأنها أن تبشر بعصر تاريخي جديد. على الرغم من أن أهداف بن لادن كانت مستوحاة من الدين، إلا أنها كانت ذات طبيعة جيوسياسية.
كانت مهمة القاعدة تقويض النظام العالمي المعاصر للدول القومية وإعادة إنشاء الأمة التاريخية، المجتمع العالمي للمسلمين الذي كان يجمعهم ذات يوم من قبل سلطة سياسية مشتركة. اعتقد بن لادن أنه يستطيع تحقيق هذا الهدف من خلال توجيه ما وصفه بـ”الضربة الحاسمة” التي ستجبر الولايات المتحدة على سحب قواتها العسكرية من الدول ذات الأغلبية المسلمة، مما يسمح للجهاديين بمحاربة الأنظمة الاستبدادية في تلك الأماكن .
انسحاب أمريكا من أفغانستان
أما بالنسبة للولايات المتحدة فإنها تدرك أنه على الرغم من أنه قد يكون من المستحيل القضاء على الإرهاب الجهادي بشكل كامل ودائم – أو أن تكاليف محاولة القيام بذلك باهظة للغاية – يمكن تقليل التهديد إلى الحد الذي تمنع فيه الهجمات علي الأراضي الأمريكية ويقتل فيه عدد قليل نسبيًا من الأمريكيين ( منذ الحادي عشر من سبتمبر، عانت الولايات المتحدة، في المتوسط، ستة وفيات سنويًا بسبب الإرهاب الجهادي )، لذا فقد ركزت الإدارات الثلاث الأخيرة – إدارة باراك أوباما ودونالد ترامب والآن بايدن – على إبقاء المنظمات الجهادية ضعيفة وتحت ضغط دائم وهذا ما تحقق لها.
تنتهي إحدى الدراسات إلى أن: “لن يختفي الإرهاب الجهادي، لكن تأثيره الأكبر محسوس بشكل رئيسي في أجزاء من العالم حيث المصالح الأمريكية محدودة.”، ويصبح السؤال حينئذ: هل تستطيع الولايات المتحدة أن تدعي أنها انتصرت في الحرب على الإرهاب بينما خسرت حربي أفغانستان والعراق؟ والإجابة مركبة فهي انتصرت حين منعت هجوما إرهابيا واسعا على الأراضي الأمريكية وقللت ضحاياه من الأمريكان إلى حد كبير، ولكن هذا وجه من وجوه النصر التي لا يمكن الجزم به دون حديث عن التكلفة والتداعيات.
ثالثا: ماذا كلفت الحرب على الإرهاب أمريكا؟
التكاليف المباشرة يمكن حسابها وهو عادة ما يتبادر إلى الأذهان، فقد كلفتها هذه الحرب حتى الآن 7 آلاف قتيل، و30 ألف منتحر من المحاربين القدماء، و7 تريليونات دولار.
ولكن ماذا عن التكاليف الأخرى؟ هنا تقدم لنا المقالات الستة محددات كثيرة من التكاليف المنظورة وغير المنظورة، والمباشرة وغير المباشرة والتي يمكن من خلالها استشراف عناصر المستقبل، أو ملامح حقبة ما بعد سبتمبر.
١-حروب لا يسأل عن تكلفتها؛ اليوم، مع تضخم العجز القومي والتحذيرات من التضخم، من الجدير بالذكر أن الحرب على الإرهاب أصبحت واحدة من أولى وأغلى الرسوم/ التكاليف التي فرضها الأمريكيون على بطاقات الائتمان الوطنية الخاصة بهم بعد الميزانيات المتوازنة في التسعينيات؛ كان عام 2001 هو العام الأخير الذي أسفرت فيه الميزانية الفيدرالية التي أقرها الكونجرس عن فائض. لقد تطلبت كل حرب خاضتها الولايات المتحدة نموذجًا اقتصاديًا للحفاظ عليها. إن تمويل الحرب من خلال الإنفاق بالعجز الذي سمح له بالتفاقم من خلال الإدارات المتعاقبة مع عدم ذكر سياسي واحد لفكرة ضريبة الحرب، وفي الوقت نفسه، فإن أشكال الإنفاق الأخرى – من عمليات الإنقاذ المالية إلى الرعاية الصحية، ومؤخرًا حزمة تحفيز التعافي من الأوبئة – تولد نقاشًا لا يطاق.
٢-تكلفة الفرصة البديلة، فعلى مدار العقدين الماضيين، بينما كانت واشنطن تعيد توجيه الجيش الأمريكي للمشاركة في حملات ضخمة لمكافحة التمرد وعمليات دقيقة لمكافحة الإرهاب، كانت بكين منشغلة في بناء جيش لمحاربة وهزيمة منافسها الأساسي الولايات المتحدة. استهلكت مكافحة الإرهاب -أيضًا- قدرًا لا يحصى من النطاق الترددي المحدود للحكومة الأمريكية – كل شيء بدءًا من وقت واهتمام الرئيس وكبار المسؤولين إلى التوظيف وتحديد الأولويات داخل الوكالات، ويجب أن نضع في اعتبارنا -كما اشارت إحدى الدراسات- ما كان يمكن للولايات المتحدة فعله بهذه الموارد وهذا النطاق الترددي على مدار العقدين الماضيين، حيث كافحت الدولة لمواكبة تغير المناخ والأوبئة واتساع عدم المساواة والاضطراب التكنولوجي وتقلص نفوذ الولايات المتحدة – خاصة في الأماكن التي يغريها النفوذ الاقتصادي المتزايد للحزب الشيوعي الصيني والوعود بتحسين البنية التحتية.
يشير حجم التكاليف وتكاليف الفرصة البديلة لحروب ما بعد 11 سبتمبر إلى أن البلاد بحاجة إلى تصحيح هيكلي، وليس مجرد تغيير في المسار، كما تنصح دراسة أخرى.
كيف إذن يعلن النصر؟
تجيب إحدى الدراسات: بعد الحادي عشر من سبتمبر، بدا الأمر كما لو أن الاستراتيجيين الأمريكيين، غير قادرين على تصور حرب يمكن كسبها فقط من خلال عدم السماح لمجموعة معينة من الأحداث بتكرار نفسها، شعروا بأنهم مجبرون على خلق حرب تتوافق مع المفاهيم الأكثر تقليدية للصراع. مثلت الحروب في أفغانستان والعراق نوعًا مألوفًا من الحرب، مع غزو لإسقاط حكومة و”تحرير شعب”، تلاه احتلال طويل وحملات مكافحة التمرد.
في الماضي، لجأت الولايات المتحدة إلى مكافحة التمرد بنشر عشرات الآلاف من قواتها لمحاربة طالبان في أفغانستان ومختلف الجماعات الجهادية السنية في العراق، ومع ذلك تراجع الدعم العام لمثل هذه الجهود، وانتشرت الجماعات الجهادية في المزيد من البلدان. غالبًا ما تلجأ وكالات الجيش والمخابرات الأمريكية الآن إلى تدريب وتجهيز القوات المحلية التي يمكن أن تكون بمثابة رأس رمح مكافحة الإرهاب. تقتصر نجاحات التدريب على بعض وحدات النخبة الصغيرة مثل خدمة مكافحة الإرهاب في العراق. فشلت الجهود المبذولة لمواجهة الجيوش الكبيرة إلى حد كبير.
خامسا: حديث في التطورات والمآلات: لا توجد كرة بلورية يمكنها التنبؤ بما سيأتي به مستقبل الإرهاب، كما تنص إحدى الدراسات، ولكن إذا كان هناك يقين واحد فهو: تطرف الغد لن يبدو تمامًا كما هو عليه اليوم، ومع تطور الخطر، فإن أسوأ شيء يمكن أن تفعله الدولة هو التركيز مرة أخرى بقلق شديد وحصريًا على التهديد الذي تواجهه اليوم.
أبرز ملامح المستقبل كما تستشفه من الملف هو :١-التعايش مع الإرهاب-كما بتنا نتعايش اليوم مع الوباء،٢-حيث حروب مختارة لا أبدية مستمرة، ٣- وإدراك لخطر اليمين المتطرف، ٤- وتوجيه الموارد نحو الصراع مع الصين، ٥- وأجندة جديدة للأمن العالمي تشبه تلك التي وصفها بايدن في خطابه أمام مجموعة الدول السبع الكبرى يونيو الماضي: تنظيم العالم لمكافحة تغير المناخ، وتعزيز أنظمة الصحة العالمية، والتركيز على آسيا مع احتواء روسيا، ويضاف إليها تحالف الديموقراطيات ودعمها على المستوي الدولي.
سمات خمس لمرحلة ما بعد سبتمبر سبق أن تناولتها بالتفصيل في مقال آخر لكن الجديد هو ما انتهت إليه إحدى الدراسات: “الحاجة إلى اليقظة المستمرة تنبع جزئيا من فشل واشنطن في كسب العالم الإسلامي”، كما ثبت فشل قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على بناء الدول بعد هدمها وتغيير الأنظمة من الخارج. هاتان النقطتان لم يتم التعرض لهما بالتفصيل في المقالات الستة إلا على الهامش، برغم أنهما يقعان في قلب أي حديث في المستقبل: فهشاشة الدول وتآكل سلطاتها المركزية من بين أهم العوامل في انتشار الجماعات الارهابية.
تأملات مصرية
هذا النموذج التقويمي يثير عديد الأسئلة بالنسبة للسياق المصري من قبيل: مدى تأثير تبني نموذج متسع للحرب على الارهاب لم يعد يضم الإسلاميين فقط مع انتفاء التمييز بين معتدل ومتطرف بينهم على إغلاق وتصحير المجال العام؟ وهل باتت الحرب على الإرهاب بعد ٢٠١٣ منظورا شاملا أعيد من خلاله بناء كثير من فاعليات أجهزة الدولة المصرية وقوانينها وصرف كثير من مواردها نحوه، وما تأثير ذلك على ثقة الناس في هذه الأجهزة بعد ما جرى من تحول في طبيعتها؟ مدى تأثير الحرب ضد الإرهاب على مفاهيم وأولويات الأمن القومي المصري وتداعياته كما جرى في موضوع سد النهضة؟ وهل تراجع أولوية هذه الحرب في نظرية الأمن القومي الأمريكي سيكون له تداعيات على العلاقات بين البلدين خاصة في ظل ما بتنا نشهده من تغير في طبيعة هذه الحرب لدى الولايات المتحدة التي أصبحت الأطراف المحلية تضطلع بالدور الأكبر فيها في حين يقتصر دور الولايات المتحدة على المساندة الاستخباراتية والتدريب؟