الثقافة لا لزوم لها عند الدولة المصرية؛ حقيقة تبدو جلية لا تحتاج إلى بيانات المؤسسات الثقافية الرسمية، والتي لا تهتم إلا بـ”تستيف الورق” بعرض مشاريع بلا مردود شعبي أمام السلطة السياسية. دون النظر إلى مردود هذه المشاريع التي لا تحمل جديدا ولا فكرا ولا قدرة على مخاطبة الأجيال الشابة؛ التي تكتسب بمخالطتها للعالم المفتوح رؤية جديدة للثقافة والمعرفة والعلم والترفيه، في حين تخضع منظومة الثقافة في مصر لعقول متحجرة لا تعرف آليات العصر، وتكتفي بترديد أفكار تقليدية بائسة لا تجذب أحدا، ولكنها كافية للزعم بأن الوزارة ومؤسساتها تعمل! أما على أرض الواقع فهي تجتر فشلها وتعيد إنتاجه في ظل ضعف الإمكانات، وانعدام الإبداع، وغلبة بيروقراطية الموظفين المهيمنة والقاتلة لأي جديد.
تبدو الثقافة -ثروة مصر الحقيقية- في غيبوبة، في لحظة يفترض أن تكون في مقدمة الصفوف في مواجهة الفكر المتطرف، والذي لا يمكن القضاء عليه بالخيارات الأمنية وحدها، بل إن تجفيف المنابع لا يكون إلا عبر بوابة الثقافة التي نحتاجها، لكنها مغيبة بفعل فاعل، كميراث طويل من إهمال الثقافة بدأ في سبعينيات القرن الماضي، ومستمر حتى يوم الناس هذا.
إذا كنا نريد الراهن على العقول لانتشال مصر من أزمتها الحاصلة فإن تغييب الثقافة بمعناها الشامل -الذي يتجاوز فكرة قراءة الكتب فقط إلى ممارسة التفكر والتدبر والفنون بجميع أشكالها- يعني اختيارنا لأضيق الطرق لكي يظل المجتمع المصري في أزمته التي تزداد عمقا مع الأيام؛ أزمة عنوانها الرئيس هو تغييب المواهب وقتلها وغياب مناخ الحرية والإبداع، فالمجد للتيار المحافظ المعبر عن نفسه في قطاع الموظفين الذين يسيطرون على مفاصل الهيئات الثقافية، فعند الحديث عن مستقبل الثقافة في دولة بحجم مصر، علينا ابتداء أن نؤمن بالثورة في الفكر وحرية الرأي والإبداع وحماية المبدعين من سيف الرجعية بكل صورها وأشكالها.
هزيمة الثقافة الرسمية
تجلت هزيمة الثقافة الرسمية في فشلها المزمن في مواجهة الخطاب الديني المتشدد، وهي لا تتحمل وحدها المسؤولية فالمؤسسة الدينية كذلك تتحمل نصيبها من الفشل. على كل حال فشلت الثقافة في مواجهة التطرف، ليس الآن فقط بل على مدار عقود. ففي عز سيطرة شيوخ الوهابية على الشارع المصري ينشرون التطرف والجمود ومعاداة كل ما هو جميل، لم تحرك الثقافة الرسمية ساكنا واكتفت بطباعة بعض الكتب وعقد بعض الندوات، لكنها لم تنخرط في حوار حقيقي ومواجهة فعلية مع الشارع لتغيير واقعه، فكانت النتيجة أن تربت أجيال على سماع فتاوى تكفير طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ على المنابر، ويتم التفريق بين نصر حامد أبو زيد وزوجه، ويغتال فرج فودة أمام مكتبه، في ظل عدم قدرة الثقافة الرسمية على الاشتباك مع الواقع بسبب عدم رغبة السلطة السياسية منذ السادات في استخدام الثقافة إلا كسلاح لتزيين صورة الحاكم، بغض النظر عن قبح واقع المحكومين.
لا تبدو أزمة الثقافة الرسمية وهي الممثلة في كل المؤسسات التابعة لوزارة الثقافة، بنت اللحظة الحالية فقط، بل هي ميراث طويل بدأ منذ السبعينيات عندما فقدت مصر المشروع السياسي والاجتماعي، وأصبحت مجرد تابع للرأسمالية الغربية، لتهب ريح الاستهلاكية والمبادئ البلاستيكية على المجتمع، ثم تحولت الثقافة في عصر الرئيس الأسبق حسني مبارك وقيادة فاروق حسني إلى ثقافة نخبوية هدفها تدجين النخب المثقفة في حظيرة الدولة، مقابل السماح لهم بالاستمتاع بترأس المؤسسات الثقافية المختلفة والمشاركة في هيئاتها ولجانها والاستمتاع بامتيازاتها دون التورط في نقد جذري للسلطة السياسية.
مشروع مكتبة الأسرة
لم تنتج هذه العقود إلا مشروع مكتبة الأسرة، وهو مشروع مهم إذ اتسعت دوائر المستفيدين منه دون توقع مسبق بهذا النجاح والتأثير العميق الذي أحدثه المشروع، والذي خرج بداية لكي يكون فقط أحد إنجازات سوزان مبارك، لكن ملايين القراء من مختلف الأجيال استفادوا من المشروع الذي كشف عن فشل الثقافة الرسمية في الاستجابة لحقيقة وجود سوق ضخم يستهلك المنتج الثقافي ويقدره.
فظلت تجربة مكتبة الأسرة غير مستفاد منها في إحداث ثورة داخل مرافق الثقافة الرسمية، إذ دخلت “الثقافة الجماهيرية” في غيبوبة طويلة لم تستيقظ منها، ولن تستيقظ منها بسبب غلبة الأداء الوظيفي من “تستيف الأوراق” من ناحية، وغياب المشروع من قبل الدولة ونظامها السياسي من ناحية أخرى، فأغلب إصدارات الهيئات الثقافية الرسمية من مجلات مثلا تعاني من تراجع حاد في المبيعات وغياب واضح في التأثير كنتيجة منطقية لغياب البوصلة، بينما تحولت جوائز الدولة التي تقرها لجان المجلس الأعلى للثقافة لمناسبة للمجاملات بين الأصدقاء الذين يتبادلون عضوية اللجان تباعا.
يبدو حال هيئة قصور الثقافة ملخصا لبؤس وضع الثقافة الرسمية ممثلة في أبرز وأهم أسلحتها؛ الثقافة الجماهيرية، إذ تمتلك هيئة قصور الثقافة نحو 592 مكانا ما بين قصور وبيوت ثقافة ومكتبات، بميزانية تقدر بنحو 700 مليون جنيه فقط، وتعرف الهيئة نفسها بأنها مؤسسة “ذات الدور البارز في تقديم الخدمات الثقافية والفنية”، وأنها هيئة تستهدف “المشاركة في رفع المستوى الثقافي وتوجيه الوعي القومي للجماهير في مجالات السينما والمسرح والموسيقى والآداب والفنون الشعبية والتشكيلية، وفي نشاط الطفل والمرأة والشباب وخدمات المكتبات في المحافظات”، لكن هل يشعر أحد ما بأن هذه الرسائل العظيمة قد تحقق منها أي شيء؟ نترك الإجابة لكل مهتم.
الجامعة الشعبية
ظهرت هيئة قصور الثقافة لأول مرة تحت مسمى الجامعة الشعبية العام 1945، ثم تغير اسمها إلى الثقافة الجماهيرية 1965، قبل أن تتحول إلى مسماها الحالي العام 1989. شهدت الفكرة ذروة مجدها في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، الذي قد تختلف في تقييم فترة حكمه خصوصا فيما يخص غياب الديمقراطية وحضور الدولة البوليسية، إلا أنك لن تختلف عن إدراك نظامه لقيمة الثقافة ودورها في بناء المجتمع، وهي فلسفة عبر عنها صلاح جاهين شعر قائلا: “تماثيل رخام ع الترعة… وأوبرا في كل قرية عربية”، بل كان هذا هو الواقع لإيمان الدولة بأن الثقافة من حقوق المواطن التي يجب أن يحصل عليها مجانا، وهي المهمة التي اضطلع بها ثروت عكاشة، ومساعدة كتيبة من الشباب في مقدمتهم سعد كامل والذي آمن بضرورة نقل الثقافة إلى العمال في المصانع والفلاحين في الريف، وهو ما تحقق عبر إنشاء قصور ثقافة في عواصم المحافظات لنشر الثقافة بجميع أشكالها سواء عبر تأسيس المكتبات أو المسارح.
وهو ما تفاعل معه المصري بقوة وأينع سريعا حركة ثقافية مزدهرة عمادها الإبداع والنهل من الموروث الشعبي، لكنها سرعان ما بدأت في التراجع مع انقلاب السادات على المشروع الناصري، ثم تم القضاء على الفكرة عبر تحويل “الثقافة الجماهيرية” إلى “الهيئة العامة لقصور الثقافة”، نهاية الثمانينات، وهي نفس الفترة التي شهدت ازدهار جماعات العنف باسم الإسلام، وصعود مشايخ الوهابية المصرية في الشارع، وانحسار تأثير المثقف المصري في دوائر محدودة ونخب ضيقة بعيدا عن الشارع الذي فشلت المؤسسة الرسمية الثقافية في تعاليها في التعاطي مع الشارع والاستماع له والتعبير عنه، تحولت “قصور الثقافة” إلى كائن ضخم مترهل بسبب البيروقراطية وضعف الدعم الحكومي، فغابت الفعاليات عن قصور الثقافة وغلب على نشاطها التقليدية وفقر الأفكار فانفض الشباب من حولها سريعا، وتوالت استقالة رؤساء الهيئة تباعا تعبيرا عن الإحباط أو الفشل في تغيير المنظومة.
نريد استعادة دور الثقافة في المجتمع المصري، لكن علينا أن نصارح أنفسنا هل نرغب في هذا حقيقة؟ إذا كنا نريد أن نقضي على الأمية والتطرف وغيرها من الأمراض المجتمعية، فلا بديل عن مشروع تتبناه الدولة ابتداء لنشر مفهوم الثقافة الشاملة، أن توفر الإمكانات الكافية لدعم قصور الثقافة، وأن تعطي الفرصة كاملة لأجيال الشباب ممن هم دون سن الثلاثين، من أجل خلق تجربة ثقافية حقيقية تعبر عن إيقاع العصر وتطوراته، وأن تفتح المسارح المغلقة لعشرات الفرق الشابة التي لا تجد مكانا لتتدرب عليه، وأن تفتح قصور الثقافة لعشرات بل مئات المبادرات في جميع المجالات والتي لا تجد مكانا تنطلق منه. نحن في لحظة تحول هائلة على المستوى العالمي والمحلي، وعلينا إذ كنا جادين في الحفاظ على فرص هذا البلد في المستقبل أن نجعل الثقافة بجوار الصحة والتعليم كأولوية، وهو ما لن يتحقق إلا بمناخ من الحرية يسمح باحتضان الشباب ويترك لهم مساحة بلا حد للإبداع في السينما والمسرح والموسيقى والكتابة والبحث وكل أشكال الثقافة، فهذا هو منتج مصر الذي تنافس به دوما.