لا تمثل سيرة الفنان الفلسطيني ناجي العلي، الذي تحل ذكرى وفاته اليوم، مجرد سرد لحياة أشهر رسام كاريكاتيري عربي. ولكن توثيق مرسوم لحياة الفلسطينيين في الشتات بعد النكبة، ومجازر الاحتلال الإسرائيلي بلبنان. وتحليل بالريشة والألوان لمشكلات لا تزال حاضرة في المشهد العربي حتى الآن.

جسدت رسومات العلي، المولود بقرية الشجرة بالجليل الأعلى في فلسطين عام 1937، نصف قرن من تاريخ بلاده. مع إيمان كامل من الفنان الراحل بأن تحرير بلده لن يتأتى إلا بالحرية وتنقية ثوبها من دنس أبنائها المتآمرين. أقوى من تهديد معتلي موجات الوطنية، وراكبي البطولة بحفلات الرقص وكؤوس الخمر.

اقتنع العلي بأن الفن سلاح معنوي بفلسطين، فلم يترك المهجّرون بيوتهم دون حمل العود ومفتاح العودة حتى في خضم الغزو الإسرائيلي لبيروت. كانت أوتاره تعزف وتغني “منتصب القامة أمشي.. مرفوع الهامة أمشي”، محركة للمقاومة وتشجيعا لها في ليالي المراقبة الطويلة لتحركات العدو.

التقط العلي أفكاره من أحاسيس البشر وظل واثقا بأنه سيمضي مع أبناء شعبه في الشتات، في طريق واحد حاملين صورة الوطن ليغرسوا علم فلسطين في ترابها. وأن أجيال جديدة ستخرج لتقاوم، ليرسم طفلة تمشي عكس قطيع الفارين من نيران القنابل وآخر يقف ماسكا حجره في وجه دبابة.

عاش العلي في مسقط رأسه بقرية الشجرة عشر سنوات فقط، ليخرج بعدها إلى مخيم عين الحلوة في لبنان وكان الكاريكاتير غاية حياته. فرسم على الأرض وقماش المخيم وجدران السجن كوسيلة اعتراض وتعبير وخلاص نفسي بالوقت ذاته.

استقرار وجداني

ابتكر ناجي العلي أهم شخصية كاريكاتيرية في التاريخ العربي “حنظلة” الشهيرة في فترة عمله بالكويت. التي عاد بها إلى استقراره الوجداني بعدما فكر في هجر الرسم في أعقاب نكسة ١٩٦٧ وضياع سيناء والجولان والضفة الغربية.

يعيد الفنان عبر حنظلة تقديم انعكاس ذاتي لشخصيته عندما كان راعيًا للغنم بقريته، فالرسمة الشهيرة هي العلي وهو ينظر لبلده. بينما يعطيها الجميع ظهورهم، فيعتقدون خطئًا أنه الذي يدير ظهره، لم يكبر منذ أن هجروه. فالعمر خارج قريته غير محسوب، ولم يكشف يوما عن وجهه، فالأهم ما يرنو إليه، فالاهتمام يجب أن يكون منصبا على الوطن وليس شخوصه.

يرسم العلي عبر حنظلة ملامح مأساة فلسطين فوالدته اسمها “ندبة” ووالده لا يذكر له أسمًا، لا يعرف رقم حذائه لأنه دائمًا حافي القدم. لا يحمل أي جنسية فهو عربي فقط، وهي نتاج سلسلة من الأسماء الوهمية التي ابتكرها الفنان. للتعبير عن الفلسطينيين المتاجرين بقضية وطنهم كشخصية أبو الفوارس الذي ينظم حفلا راقصًا بقصره في بيروت ويبني حديقة لأشجار الزيتون الفلسطينية داخلها ليثبت لإسرائيل أن القضية باقية في الصدور.

وزاد الخلاف بين العلي والسلطة الفلسطينية بسبب الموقف من التفاوض مع إسرائيل، الذي عبر عنه الرسام بأنه كلما يذكرون الخطوط الحمراء يطير صوابه. وتزايد الخلاف بين الطرفين حول فكرة إبقاء الخلافات الفلسطينية داخل البيت الفلسطيني دون نشرها في الصحف.

فيلم ناجي العلي

وأرخ الفنان نور الشريف لسيرة ناجي العلي في فيلم يحمل اسمه كان كصاحبه مثيرًا للجدل ولاقي غضب إسرائيل والسلطة الفلسطينية. التي طلبت منع عرضه في افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي عام 1992 لكن الحكومة المصرية رفضت وأكدت أن العمل لا يتضمن أية إساءات.

وهاجم الفيلم قطاع من الفنانين والمثقفين الذين اتهموا نور الشريف بالخيانة، وتلقي تمويل خارجي. فاكتفت دور العرض بطرحه لمدة أسبوعين فقط وسحبته خوفا من الانتقاد وخشي المنتجون من تمويل أعماله الجديدة. كما تعرضت أعماله لحملة مقاطعة في دور العرض العربية أيضًا.

لم يجد نور الشريف أمامه إلا القيام بحملة إعلامية توضح للجمهور أن رسومات العلي لم تنتقد سوى الرئيس السادات فقط. بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل شأنه شأن عدد من المثقفين المصريين حينها. والإشارة إلى التأييد الصريح لرسومات العلي للرئيس جمال عبد الناصر، ومحاولته استنهاض الأمة العربية حينها لإزالة آثار هزيمة عام 1967.

التحفظات الكبيرة على فيلم ناجي العلي تتعلق بمشهد اغتياله على يد شاب مجهول. والكل كان يريد إثبات التهمة بالموساد بدلا من تركها مفتوحة لحسم قائمة المتهمين المحتملين.

نهاية مأساوية

كما كتب الشاعر عبد الرحمن الأبنودي قصيدة رثاء للعلي قال فيها: قتلت ناجي العلي لما رسم صورة.. يواجه الحزن فيها براية مكسورة.. لما فضحني ورسمني صورة طبق الأصل.. ما عرفشي يكذب.. ولا يطلع قليل الأصل.. الناس بترسم بريشة.. وهو ماسك نصل”.

أنكأ الفيلم الكثير من القضايا غير السياسية على الهامش بفتحه انتهازيي الفرص الذين لا يبالون بقضية ولا يعنون لا بمصالحهم المالية. كالمدرسين الذين يعملون بالتعليم صباحا وبالليل رجال أعمال وأصحاب توكيلات. والصحافيون والشعراء الفلسطينيين الذين باعوا قضية بلادهم ليلحقوا تجار أسلحة. والتنظيمات المسلحة التي تحارب بعضها نهارا وتجتمع على طاولات السهر ليلا.

وفي أثناء توجهه إلى مكتب الصحيفة في غرب لندن يوليو 1987، أطلق شاب مجهول النار عليه. وأصابت الرصاصة ناجى تحت عينه اليمنى وظل في غيبوبة حتى وفاته في 29 أغسطس 1987 ودُفن في مقبرة بروك وود الإسلامية في لندن. وأعادت الشرطة البريطانية قبل أعوام فيتح القضية مجددًا.

عمل العلي في العديد من الصحف مثل مجلة الطليعة والسياسة الكويتية والسفير اللبنانية والقبس الكويتية والقبس الدولية. وخلف أكثر من 40 ألف عمل فني وثلاثة كتب في أعوام 1967، 1983، 1985.