رغم الغزارة الإنتاجية لأديب نوبل، نجيب محفوظ “1911-2006″، لكنه بخل على محبيه ولم يسر على خطى سابقيه من الكتاب والروائيين فيما يخص كتابة سيرته الذاتية، وهي الظاهرة التي عزاها روائيون وكتاب مصريون إلى أكثر من أمر، أبرزهم بالتأكيد رغبته في الفصل بين حياته العامة كأديب وحياة أسرته، واعتقاده بأن سيرته موزعة في أعماله الأدبية.
فسئل محفوظ، الذي نحيى اليوم ذكرى وفاته، كثيرا في حياته عن أسباب عدم كتابته سيرته الذاتية، لكن الإجابة دائما أن أعماله الأدبية هي سيرته الذاتية، وهي فقط تحتاج لعين حاذقة لتكشف ملامحها.
أخذت سيرة نجيب محفوظ التي لم تكتب حيزا كبيرا من اهتمام الوسط الثقافي في مصر، وهو اهتمام يستحقه أديب نوبل، للدرجة التي جعلت الباحث المصري عمار علي حسين أن يصدر دراسة بعنوان “سيرة نجيب محفوظ”. فكما يقول أن محفوظ يرى أن سيرته الذاتية موزعة بين سطور قصصه ورواياته، لا تغفلها عين بصيرة ولا عقل متوقد، فأحياناً يكون محفوظ شخصاً بعينه من شخصيات الرواية، مثل ما هو الحال بالنسبة إلى أحمد عبدالجواد في الثلاثية، والتي اعترف كاتبها نفسه بأنه أقرب شخصية إليه.
وأوضح حسن صاحب كتاب “بهجة الحكايا.. على خطى نجيب محفوظ” أن كل من طالبوا بكتابة محفوظ لسيرته كان بغرض الاطلاع عن أسرار نجيب محفوظ الشخصية وليس على أعماله الإبداعية وهو الأمر الذي كان يرفضه نجيب بشدة.
أما تفسير الأديب الراحل خيري شلبي لعدم إقدام صاحب “الحرافيش” على كتابة سيرته أنه آثر السلامة والبعد عن النزاعات الشخصية أو السياسية، موضحا في حديث سابق له أنها سمة رئيسية في شخصية نجيب محفوظ.
تغييب سيرة الأديب العالمي أمره أيده بشدة سعيد الكفراوي، الذي رحل عن عالمنا قبل أشهر قليلة، إذ كان يرى أن نجيب كان على صواب لأن كثير من ممن كتبوا سيريهم الذاتية خصمت من تقديريهم في أعين الناس فيما بعد.
18 شهرا مع نجيب محفوظ في مقهى علي بايا
صحيح لم يسع محفوظ إلى كتابة سيرته لكن هناك من نقب بعدة طرق لاستنطاقه وتسجيل سيرته، مثلا حاول الكاتب رجاء النقاش في كتابه “صفحات من مذكرات نجيب محفوظ” الذي استمر 18 شهرا فى مقهى علي بابا، المطل على ميدان التحرير، الذي اعتاد أن يجلس فيه أديبنا لإجراء مقابلاته العملية.
يتطرق النقاش في كتابه إلى متاعب محفوظ مع سلطة النشر في مصر، والمصاعب التي واجهاه من أجل نشر رواياته في الأهرام، وكذا الهجوم الذي تعرض له بعد نشر المؤسسة القومية رواية أولاد حاراتنا.
مذكرات النقاش التي كتبها في تسعينيات القرن الماضي لاقت عاصفة كبيرة بسبب ما حملته من قنابل عائلية، بعدما أورد تصريحاته عن اقاربه ومحاولة أحدهم السفر مكانه لسويسرا لاستلام جائزة نوبل، الأمر الذي وصل إلى مقاضاة النقاش بسبب ذكره أسرارا عائلية.
محمد شعير.. الباحث في دفاتر محفوظ
الكاتب الصحفي أحد النباشين في سيرة نجيب محفوظ، كرس مجهوده خلال العقد الأخير لتوثيق إرث أديب نوبل، فأصدر كتابين “أعوام نجيب محفوظ.. البدايات والنهايات” الذي يحكى فيه عن مراهقته وطفولة وهو ابن الـ18 عاما، والكتاب الآخر عن “أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة”.
كتاب الأعوام بمثابة سيرة للأديب نجيب محفوظ، حيث تناول فيها سنواته الأولى، وتأثره بأمه التي كانت الحكاءة الكبيرة التى تحكى له القصص قبل نومه، وحكت له عن الجن والعفاريت والخيال والأولياء والأنبياء، وكلها قصص شكلت تجربة «محفوظ»، ووالدته كانت حكاءة بالفطرة وغرست فيه الشغف للحكى، لذلك كان تأثير حكايات والدته عليه قويًا جدًا.
كما تحدث عن مشاهدته أحداث ثورة 1919 من شرفة منزله المواجه لقسم شرطة الجمالية، قبل أن ينتقل إلى العباسية، والسنوات الخمس الأولى فى حياته انعكست على أعماله وتجاربه، كما انعكست نشأته على فنه وإبداعه.
في السياق ذاته، يقول الكاتب الصحفي سيد محمود إن سبب عدم إقبال نجيب محفوظ علي كتابة سيرته الذاتية هو المسافة التي كان يضعها بين حياته الخاصة والعملية، فالناس “معرفتش اسم بنات محفوظ إلا لما اتوفي”، و”أخفى خبر زواجه علي الناس حوالي 5 سنوات”. وهو ما يعكس السرية التي فرضها أديب نوبل على حياته الخاصة.
وأوضح محمود أن حوار جمال الغيطاني الذي كان بعنوان (نجيب محفوظ يتذكر) والحوار الآخر الذي أجراه رجاء النقاش والذي دام 55 ساعة أغناه عن كتابة سيرته الذاتية، إذ قال محفوظ عن الكتاب الأول إن “هذا الكتاب أغناني عن التفكير في كتابة سيرة ذاتية لما يحويه من حقائق جوهرية وأساسية في مسيرة حياتي فضلا عن أن مؤلفه يعتبر ركنا من سيرتى الذاتية”.
كتبت- هنا الداعور