أثارت أعمال إزالة قصر توفيق باشا أندراوس الشهير، الموجود داخل حرم معبد الأقصر، والمطل على كورنيش النيل بمدينة الأقصر التاريخية. حالة من الجدل حول الأسباب التي دفعت جهات الدولة المختصة لنزع ملكية القصر وتنفيذ قرار إزالته، وعما إذا كانت عمليات التنقيب عن الآثار بداخله خلال العام الماضي. هي السبب الرئيسي في سرعة إزالته رغم إمكانية ترميمه -وفق خبراء وأثريون-.
ورغم كون مصر واحدة من أكثر دول العالم امتلاكًا للآثار التاريخية والتماثيل. إلا أنه لا تكاد تمر فترة دون توجيه الاتهامات والانتقادات لمسئولي الآثار وخاصة المرممين. بسبب حجم الأخطاء التي تُرتكب وتؤدي إلى تدهور المباني التراثية مثلما حدث بقصر أندراوس.
تاريخ القصر ومقتنياته
في عام 1897 أنشأ توفيق باشا أندراوس القصر، وهو واحد من مجموعة القصور ذات القيمة التاريخية النادرة. وكان يضم مجموعة من القطع الأثرية التي نقلت إلى المخازن الأثرية في الأقصر قبل حوالي 20 عامًا -يقول عبد المنعم عبد العظيم مدير مكتب دراسات تراث الصعيد-.
لفت إلى أن توفيق باشا أندراوس استضاف في قصره هذا رموزًا تاريخية وحصل على الباشوية، وكانت له مواقف وطنية يذكرها التاريخ. إذ كان توفيق عضو مجلس النواب لـ 3 دورات متتالية دون منافس منذ عام 1923 إلى 1935 بعد مبايعته لسعد زغلول باسم المسيحيين. وكان يتولى إدارة مؤتمرات حزب الوفد ويتبرع بالأراضي والأموال لصالح خزينة حزب الوفد، وفق عبد العظيم.
ويذكر له التاريخ تصديه للإنجليز والحكومة حينما استقبل الزعيم سعد زغلول عام 1921. عندما صادرت الحكومة وسلطاتها حرية سعد زغلول في رحلته النيلية ومنعت الباخرة التي يستقلها الزعيم من أن ترسو على أي شاطئ من شواطئ المدن. إلا أن صاحب القصر لجأ إلى حيلة شجاعة، واستضاف الزعيم في قصره وقال جملته الشهيرة: “إحنا هنرجع سعد بالقوة وأنا عندي رجالتي”. كما استضاف القصر كثيرًا من مشاهير العالم ويتصدر القصر واجهة معبد الأقصر.
محاولات الهدم من 2009
في عام 2009 بدأت محاولات هدم القصر، بعدما أبدت محافظة الأقصر رغبتها في هدم القصر. وتم تشكيل مجموعة عمل لفحص القصر من أساتذة متخصصين في العمارة والتراث. وبالفعل ذهبت وعاينت القصر من الداخل والخارج وأوصت بعدم الهدم -يقول سمير غريب رئيس جهاز التنسيق الحضاري السابق لـ “مصر 360”-.
بعدها شكّل فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق لجنتين لاتخاذ قرار بشأن القصر وأيدتا قرار عدم الهدم، وفي ظل إصرار المحافظة على الهدم. تم تشكيل لجنة ثالثة لكنها كانت هذه المرة من مهندسين وليس متخصصين في التراث وهي التي اتخذت قرارا بهدم القصر الأول، يواصل غريب.
وأضاف غريب أنه كان هناك قصران متلاصقان تم هدم الأول بموجب قرار اللجنة الثالثة وبقي القصر الثاني الذي هدم الأيام الماضية. وعندما سُئل محافظ الأقصر وقتها عن سبب عدم هدم القصر الثاني قال إنه أبقاه كنموذج للتراث المعماري في تلك الفترة.
وحصل “مصر 360” على مستندين هامين بشأن هدم قصر أندراوس الثاني في الأقصر، بعد أن تم القصر الأول في 2009. والمستندين هما الصفحة الأخيرة من اللجنة التي شكلهّا وزير الثقافة حينها لبحث هدم القصر. والتي رفضت بالإجماع الهدم، وكان بها ممثلين عن التنسيق الحضاري والآثار، وبرئاسة الدكتور صابر عرب أستاذ التاريخ المعاصر ورئيس دار الكتب والوثائق وقتها. وأوصوا بعدم هدم المبنيين لأنهما يمثلان قيمة تاريخية ومعمارية متميزة، بما يخضعهما لمواد القانون رقم 144 لسنة 2006. والمستند الثاني هو الصفحة الأخيرة من مذكرة الدكتور صابر عرب وموقعة بخط يده ويرفض بها عمليات الهدم.
لماذا هُدم القصر؟
عمليات هدم قصري أندراوس التي تمت رغم رفض اللجنة المُشكلة في 2009 نُفذت بكامل أركانها بإزالة القصر الثاني الخاص بتوفيق باشا أندراوس الأيام الماضية. بناءً على قرار لجنة جديدة شُكلت مؤخرًا وأكدت أن القصر أصبح آيلاً للسقوط.
القصة الكاملة لإزالة القصر تعود إلى طلب وزارة السياحة والأثار من محافظ الأقصر تشكيل لجنة لاستكشاف مدى الحالة البنائية للقصر. من حيث البقاء أو السقوط، خاصة بعد أعمال التنقيب التي شهدها محيطه العام الماضي، يوضح رئيس مجلس مدينة الأقصر العميد طارق لطفي لـ “مصر 360”.
محافظ الأقصر قرر إثر ذلك الطلب تشكيل لجنة من إدارة المنشآت الآيلة للسقوط والتي أقرت بتهديد القصر لحياة المواطنين؛ حيث تظهر على جدرانه العديد من الشروخ. فضلًا عن سقوط بعض الأجزاء الحاملة للطابق الثاني من الخلف، وعدم وجود صرف صحي به. حيث كان يتم الاعتماد على طرنشات تسببت في تسرب المياه إلى أجزاء كبيرة أسفل القصر، ما جعله معرض حتمًا للانهيار والسقوط –يوضح لطفي-.
مع بدء أعمال الإزالة تم تشكيل لجنتين، الأولى مهمتها الحفاظ على أي مقتنيات يتم العثور عليها خلال الإزالة للقصر، والأخرى تتابع أعمال الإزالة لحين نهاية الأعمال وإزالته بالكامل. وتم تحديد لجنة لحصر المنقولات داخل القصر، وعقب معاينتها عُثر على غسالة وثلاجة وطقم أنتريه متهالك. تم التحفظ عليها ونقلها لمخازن المدينة لحين تسليمها لملاك القصر. وأوضح “لطفي” أنه عقب انتهاء أعمال إزالة كامل حطام القصر سيتم تسليم الأرض التي كان عليها إلى وزارة السياحة والآثار بحكم تبعيتها لحرم معبد الأقصر.
الدكتورة مونيكا حنا، القائم بأعمال عميد كلية الآثار بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري، أكدت لـ “مصر 360″، أنه لا يوجد مبنى غير قابل للترميم. فالقصر مبني من الطوب اللبن وكان من الممكن ترميمه، واصفة هدم القصر بأنه استمرار لسياسة وزارة السياحة والآثار التي لا تقدر قيمة تنوع التراث المصري.
“تعبير آيل للسقوط” ما هو إلا محاولة للالتفاف حول القانون الذي ينص على حماية المباني غير الآيلة للسقوط، فأي مبنى يمكن ترميمه. وهناك درجات متعددة للتعامل مع المباني ذات القيمة التاريخية والطراز المعماري المتميز ومن بينها قصر أندراوس -تواصل حنا-.
التنقيب عن الآثار أسفل القصر
زاد من قناعات المسؤولين بحتمية هدم القصر محاولة لصوص التنقيب عن الآثار أسفل القصر خلال العام الماضي. وهو ما أضر بأساسات القصر، على حد قول المسؤولين في المحافظة آنذاك.
مصدر بوزارة الآثار أكد لـ “مصر 360″، أن القصر شهد محاولة للتنقيب عن الآثار كونه يقع في حرم معبد الأقصر بمعرفة عدد من ورثته. وجرى القبض على المتهمين وأحيلت القضية إلى النيابة، ومن ثم صدر حكم بنزع الملكية للصالح العام ولحماية آثار معبد الأقصر.
التنقيب عن الآثار فجر أزمة هدم القصر “النية كانت مبيتة منذ فترة.. لكن أعمال التنقيب سرعة بتنفيذها”. من المتعارف عليه أن أي مبنى تتم بداخله أية أعمال تنقيب عشوائي عن الآثار تأتي بنتائج عكسية فيما يخص المبنى وأساساته، وبالتالي تحرك المسؤولون بسرعة شديدة لإزالة القصر وضم أرضه لوزارة الآثار.
فيما أكد الدكتور فتحي ياسين، مدير عام منطقة آثار مصر العليا، لـ “مصر 360″، أن القصر لم يُسجل كأثر في الأساس، لعدم وجود معالم زخرفية. وأن وزارة السياحة والآثار لم تصدر قرارًا بإزالته أو نزع ملكيته، لكن أعمال الهدم تمت بناءً على قرار صادر من لجنة المنشآت الآيلة للسقوط بالمحافظة.
جريمة قتل داخل القصر
في 2013 شهدت جدران القصر على أكبر جريمة بشعة شهدتها محافظة الأقصر في تاريخها، إذ استيقظ أهالي محافظة الأقصر على نبأ مقتل ابنتي أندراوس باشا مذبوحتين بداخل القصر الكبير وهما صوفي 82 عامًا. ولودي 84 عامًا، يقول عبد المنعم عبد العظيم مدير مكتب دراسات في الأقصر.
جرى العثور على جثتي الفتاتين ملقاة على الأرض وتحديدًا في 7 يناير من عام 2013، كما جرى وضع كل جثة في غرفة منفصلة عن الأخرى، إحداهما تعرضت إلى ضربة من الخلف باستخدام آلة حادة والأخرى من الأمام.
يواصل عبد العظيم: عدم الاستجابة للهاتف أو لجرس الباب أجبر الأهالي إلى إبلاغ محاميهما، وتم إبلاغ الأجهزة الأمنية والتي انتقلت في ظل حضور فريق من قسم المباحث الجنائية. ووجدتا الفتاتان مقتولتين لمدة تزيد عن اليومين أثناء المعاينة الأولى للجثتين، وحتى الوقت الحالي لم يتم التوصل إلى حل للغز مقتلهما في منزلهما الشهير.
موجة هدم المباني التراثية
أعاد هدم قصر أندراوس التاريخي، قضية حماية المباني التاريخية والتراثية المصرية إلى الواجهة. بعدما أثار هدمه ضجة كبيرة وانتقادات بين المتخصصين في الآثار والتراث حزناً على مصير القصر الذي كان شاهداً على أحداث تاريخية. مؤكدين أنه كان من “الممكن ترميم القصر والحفاظ عليه بدلاً من هدمه”.
كثير من المتابعين في البداية ظنوا أن أنها محاولة لتنظيف ساحة القصر من المخلفات، حتى تم التأكد من أنها معدات هدم القصر. فأثار الوضع ضجة عقب تداول صور لعمال ومعدات هدم قصر توفيق باشا أندراوس، يقول مفتش الآثار، محمد عباس لـ “مصر 360”.
كانت هناك دعوات على فترات متباعدة لهدم القصر، بحجة أنه يعتدي على حرم معبد الأقصر، لكن لو كان ذلك مبرراً للهدم فهذا معناه هدم مسجد أبو الحجاج الواقع داخل معبد الأقصر. لكن هذا غير ممكن، لأن القصر والمسجد أصبحا جزءاً من الطبقات التاريخية للمنطقة، يواصل عباس.
وتساءل بسام الشماع المرشد السياحي والمؤرخ، “ما هو السبب وراء الهدم، وما الفائدة من ورائه، وكيف يكون الهدم في مصلحة الآثار التي حول القصر. وأي دراسات التي أدت إلى تلك النتيجة؟، نحن نعيش يومًا نفقد فيه أثرًا جديدًا لن يعود موجودًا بعد الآن وسيختفي معه جزء مهم من التاريخ الملموس لمدينة الأقصر”.
وأشار الشماع: “موجة هدم الآثار لم تتوقف عند قصر أندراوس، فقبلها كان هناك تعدي على قناطر أحمد بن طولون النادرة في القاهرة. والتي تهدم جزءً منها، كما هدمت طابية ومسجد الفتح في أسوان، وقيل إن السبب خطأ من قائد البلدوزر، واليوم نرى هدم قصر أندراوس”.
أزمات الترميم والتعدي على حرمة الآثار
برزت مشاكل ترميم الآثار في مصر بشكل واضح خلال العقدين الأخيرين بعدما أُسند لبعض شركات المقاولات ترميم عدد من المناطق الأثرية. ذلك بالمخالفة للضوابط والقواعد الدولية المتعارف عليها في هذه العمليات الدقيقة. ويصل الأمر حد أن شركات المقاولات الكبرى تُسند هي الأخرى بعض الأعمال لمقاولين من الباطن لتنفيذ جزء من مهام الترميم. ما يوصل عملية الترميم إلى الوضع الكارثي الذي شاهدناه مؤخرًا ومن ثم انهيار عدد من المباني الأثرية.
يؤكد أستاذ ترميم الآثار بجامعة القاهرة، الدكتور محمد عبد الهادي، أن جزءًا كبيرًا من عمليات ترميم الآثار في مصر تفتقر إلى الأسس والضوابط العلمية الواجب توافرها في مُرممي الآثار. ما قد يصل في بعض الحالات إلى محو الصفة الأثرية للمعابد أو التماثيل أو غيرها.
ويشدد أستاذ الترميم، في تصريحاته لـ”مصر 360″، على بعض الضوابط الواجب اتباعها، ومنها: عدم جواز استخدام أدوات التكسير والآلات الحديدية أثناء الترميم. فقد يتم تشويه أجزاء كبيرة من الأثر بسبب الآلات التي لا يتم الاعتماد عليها دوليًا.
ويشير عبد الهادي أيضًا إلى بعض المراحل الواجب اتباعها قبل التعامل مع الأثر. ومنها إجراء بعض التحاليل والفحوصات وتوثيق حالته الأثر قبل وخلال وبعد الانتهاء من الترميم. إضافة إلى ضرورة التعامل الآثار على أساس إصلاح التالف منها، وليس على أساس تجديدها، ويوضح أن بعض تلك الضوابط لا يتم الاعتداد بها أثناء الترميم، ومن ثم خروج المظهر الأثري بكم الأخطاء التي تظهر كل فترة.
سلسلة من الأخطاء لا تنتهي وانتهاكات لحرمة الآثار المصرية والمباني التراثية والنيل من سمعتها حول العالم. سواء من ترميمها بشكل خاطئ أهدى إلى تحطم بعضها، وتشوه البعض الآخر. بداية من دقن الملك “توت عنخ آمون” ومرورًا بتشويه هرم سقارة ونهاية بعدد من المعابد والمباني التراثية المصرية.
الافتقار للبعثات الأجنبية
كانت البعثات الأجنبية تتوافد على مصر بشكل دوري حتى بداية الألفية الحالية. لكن مع تزايد عدد شركات المقاولات التي دخلت مجال ترميم الآثار تضاءل تواجد هذه البعثات. وأثر ذلك على مستوى جودة وكفاءة الآثار التي تخضع للترميم ومن ثم انهيار عدد من المباني التراثية، تشير مصادر مسئولة بالآثار لـ “مصر 360”.
وترى المصادر أن التكلفة الباهظة التي تتحملها وزارة الآثار على البعثات الأجنبية لم تعد تتحملها خزينة الوزارة. لذا فقد لجأت لزيادة الاعتماد على الكفاءات المصرية وكبريات شركات المقاولات في عمليات الترميم. هذا أمر جعل الاعتماد على البعثات الأجنبية مقتصرًا على ترميم آثار مُعينة ذات أهمية تاريخية كبرى.
للبعثات الأجنبية ميزات تفتقر إليها مثيلتها في مصر، إذ إن هذه الوفود تعتمد على خامات ذات مواصفات عالية ولا تعترف بالخامات المصرية. كما أنها تعمل وفق وسائل أمان. وأسلوب محافظة على الأثر لا تجديده، وذلك بشكل علمي دقيق يستعين بمعامل الترميم وتحليل الأثر وتوثيقه قبل بدء العمل. وهو أمر تفتقر إليه بعثات الترميم المصرية.