يرددون في إيران مثلاً شعبيًا شهيرًا: “يمكنك تناول الحساء مع عدوك ولكن بملعقة أطول”، هكذا بدا للسياسيين في طهران نجاعة المثل الشعبي فنقلوه إلى أروقة السياسة، في محاولة حديثة لتسكين الأزمات مع دول الخليج، وفق تطورات دولية وإقليمية تجعل سياسة الحرب المفتوحة خاسرة للجميع.
اجتمع اللاعبون الإقليميون في ملعب يُذكر اسمه لأول مرة مقرونًا بالبناء، دونما مفردات الحرب والدمار. فكان العراق، الذي يبدو أن من حُسنِ حظه تولي منصب رئيس حكومته رجل الاستخبارات المعروف بدهائه وعلاقاته المتشعبة إقليميًا ودوليًا، فحوَّل مصطفى الكاظمي بلده إلى قاطرة سلام تجمع شتات المنطقة، وفي القلب منها تنقية أجواء التوتر بين دول الخليج العربية وإيران، فهل يمكن للطرفين أن يعيشان في سلام؟
المقدمات والمؤشرات التي سنتناولها بالتفصيل لاحقًا تقود إلى جملة من المقاربات الإيجابية التي تدفع في هذا الاتجاه، بجوار تحديات أخرى عميقة، تجعل المفاوضات الحالية واحدةً من أصعب الاختبارات في تاريخ المنطقة الحديث.
لا يمكن فصل محاولات التقارب الخليجية الإيرانية، عن جملة من المتغيرات الإقليمية، التي بدأت بالمصالحة الخليجية- القطرية، والخليجية- التركية والمصرية-التركية، والتطبيع بين بلدان عربية وإسرائيل، وهو ما يضع الشرق الأوسط في منطقة أخرى أقل توترًا مقارنة بالسنوات السابقة.
كما أن الحضور الطاغي والمباشر للطرفين (الخليجي والإيراني) في كافة الصراعات الإقليمية والصراعات بالشرق الأوسط، فإنّ أي حديث عن مصالحة أو تطبيع العلاقات يعني إنهاءً ولو مؤقتًا لكل تلك الأزمات.
محددات التقارب
دوافع اقتصادية
تتقاطع مصالح اقتصادية هائلة بين دول الخليج وإيران، فبينما تريد السعودية عدم إعاقة ناقلاتها النفطية في بحر العرب فإن الإمارات الأولى خليجيًا والثانية عربيًا للاستيراد من إيران، وهي تستحوذ على حوالي 90% من حجم تجارة إيران مع دول الخليج مجتمعة، وتعد إيران رابع شريك تجاري للإمارات، والأخيرة ثاني أكبر شريك تجاري لإيران. هذا بالنسبة لاثنين من أكثر أعداء طهران، نهيك عن دول أخرى ليس من مصلحتها العداء بين المشروعين الإيراني والخليجي، بحكم التركيبة الاجتماعية والدينية لديها كسلطنة عمان والكويت وغيرهما.
في المقابل، فإن الحصار الغربي على إيران يفرض على الأخيرة الهرولة صوب أي منفس اقتصادي لتقليل آثار الضرب الغربي على جسد اقتصادها المتداعي. وبالمقارنة الاقتصادية فإنّ الوضع لدى إيران أسوأ بكثير من دول الخليج، ذلك أنّ منصتها الاقتصادية ضيقة للغاية، وحتمًا ستنهار في يوم من الأيام.
حاولت السعودية كثيرًا الهروب من تهديدات إيران لناقلاتها النفطية بمضيق هرمز نحو بحر العرب وخليج عدن من خلال مد أنبوب نفطي عبر الأراضي اليمنية، لكنها لم تنجح حتى الآن في مهمتها. كما أنّ الإمارات التي حاولت تنويع تعاملاتها التجارية، لن تجد سوقًا تستوعب بضاعتها كإيران والعكس صحيح، بالنظر إلى قلة تكلفة نقل البضائع. حدث ذلك في أوج الخلافات السياسية فماذا لو كانت الأجواء هادئة؟ هنا يبدو واضحًا أن عداوة سياسية في العلن، لا تحول دون حتمية التعاون الاقتصادي بحكم الجيرة على ضفتي الخليج.
مقتضيات سياسية
حوّلت إيران ودول الخليج الشرق الأوسط إلى مسرح لـ”حروب بالوكالة”، قبل أن تجد تلك الدول نفسها حبيسة صراعات “لا نهائية”. كلفتها مئات المليارات على مشروعات وهمية، اتضح أنها تقود إلى مزيد من التعقيد.
وبغض النظر عن: من ذهب إلى الآخر صاغرًا؟، فإنّ الطرفين باتوا مقتنعين أن الحروب الاستنزافية، يجب أن تنتهي. بدا ذلك من تبادل الرسائل الإيجابية بين ولي العهد السعودي والرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، ومسؤولي البلدين، تزامن مع جولات تفاوض قِيل إنها بدأت قبل سنوات.
كما أن الإمارات راجعت سياستها الخارجية تجاه طهران، لدرجة أن مراقبين رأوا في تقليص الوجود العسكري الإماراتي فى اليمن يهدف إلى تجنب استهداف الحوثيين وعدم استفزاز الإيرانيين. بعدها رصدت وسائل إعلام لقاءات علنية بين مسؤولين أمنيين من الإمارات وإيران، تركزت على مسائل “الأمن المشترك”.
وعندما وصل الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي إلى السلطة، قال في أول رسائله إن طهران تريد علاقات إقليميةً أوثق. وأن الأولوية ستعطى لتحسين العلاقات مع دول الخليج. مقتضى هذه المواقف أن دول النزاعات سواء اليمن أو سوريا والعراق وغيرها لم تخطو خطوة إلى الأمام، ولم يعد طرفًا فائزًا والآخر خاسرًا، بل هي مقتضيات ميدانية بين الانحسار والتمدد.
هكذا تبدو دول الصراع السياسي تحت عباءة طائفية “سنية شيعية” على النفوذ بالمنطقة، في طريقها لصفحة جديدة. رهينة أن تقترن تلك الجلسات “المكتبية” بخطوات عملية على الأرض، عبر تحجيم نفوذ الأطراف الموالية (المسلحة) إقليميًا.
معادلات استراتيجية
في العام 2019 كتب الكاتب السعودي الشهير عبد الرحمن الراشد مقالاً أثار جدلاً شديداً، جاء عنوانه: ماذا لو غدر بنا ترامب؟ أثار خلاله الحديث عن الحماية الأمريكية، وأنّ الرئيس الأمريكي قد يركز في حال توقيع اتفاق مع إيران على تأمين مصالح إسرائيل فقط دون أي اعتبار للدول العربية الحليفة. ربما تخوفات الراشد في محلها وفق تغيرات في السياسة الأمريكية “الانسحابية” من الشرق الأوسط. هنا تجد دول الخليج حاجة مقنعة لحوار مع إيران.
-الاتفاق النووي
عندما انسحب الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، رحبت دول الخليج بهكذا خطوة. في سياق أنّها تحد من نفوذ طهران بالمنطقة، لكنّ خطوة عكسية من جو بايدن بشأن أحد أذرع إيران بالمنطقة من خلال إلغاء وضع الحوثيين على قائمة الإرهاب، ثم الانخراط في مفاوضات لإحياء الاتفاق.
دول الخليج العربية المعادية لإيران منزعجة من سياسة بايدن التي تضع التوصل لاتفاق بشأن برنامج طهران النووي، مقدمًا على مناقشة ملف حلفاء إيران بالمنطقة، ومستقبل التهديدات العسكرية، لذلك تعتبر السعودية والإمارات الاتفاق يعطي الدولة الفارسية دفعة لتعزيز نفوذها بالمنطقة. وهو ما يقود لتعزيز شبكة المسلحين في العراق ولبنان وسوريا واليمن.
-الحماية الأمريكية
ويمتلك دول الخليج تخوفًا من أن الولايات المتحدة ماضية في تقليص التزامها بأمن الخليج. وما يعزز مخاوفها مواقف فاترة لإدارة واشنطن تجاه إيران المتهمة بالوقوف وراء الهجمات الصاروخية البالستية وعمليات التهديد البحرية لناقلات النفط، مع اقتراب ذلك بمواقف مماثلة للإدارات الأمريكية.
وأظهرت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، خلال الفترة الماضية، علامات تشير إلى نيتها خلخلة شراكتها مع الرياض. من خلال مطالبتها بضبط الأعمال العسكرية في اليمن، وتعليق مبيعات الأسلحة للمملكة، واحترام حقوق الإنسان، ورفع الحوثيين من قائمة إرهابية، ونشر معلومات استخباراتية تؤكد تورط محمد بن سلمان في اغتيال خاشقجي.
ما سبق يفسر قول قائد القوة البحرية للحرس الثوري الإيراني علي رضا تنكسيري في الرابع من أغسطس الماضي إن “إيران والدول الإسلامية في منطقة الخليج قادرة على ضمان أمن المنطقة ومن دون الحاجة لوجود الأجانب فيها”.
-المحور الروسي
خروج واشنطن من الشرق الأوسط يرجح كفة المحور الآخر الصين وروسيا وهو ما يتطلب بالضرورة هدنة مع إيران. وهو ما أقدمت عليه بالفعل السعودية والإمارات، حيث وقعت الأولى اتفاقية تعاون عسكري مع موسكو قبل أيام، كما اقترحت روسيا بيع أسلحة للمملكة. وقبل يومين أعلن نائب وزير الدفاع الروسي ألكسندر فومين أن موسكو مستعدة لتوطين إنتاج الأسلحة والمعدات العسكرية في الإمارات. وعندما ظهر خلاف سعودي إماراتي للعلن، قالت تقارير إن روسيا توسطت للتقريب بين البلدين الخلجيين، وهي مهمة كان كفيلها أمريكيا في السابق.
أضف إلى ما سبق، إعلان أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني أن طهران اقتربت من العضوية الكاملة في منظمة شنغهاي، وهي الكتلة الأوراسية التي تأسست عام 2001، بين روسيا والصين ودول آسيا الوسطى بشكل أساسي.
ملامح التحديات
إسرائيل.. وموضع اتفاق أبراهام
قد ترى إسرائيل في عودة العلاقات بين إيران والخليج خطرًا على أمنها، لكنّ حالة الجنوح إلى السلام الحالية، وتصفير الأزمة. بيد أن التساؤل سيدور حول موضع اتفاق أبراهام من تلك الخطوات المحتملة، هل ثمة اتصال بين الاثنين، لاعتبارات السلام المشتركة؟ أم أن تأثير الاتفاق الذي رعته الولايات المتحدة الأمريكية دفع في اتجاه تلطيف الأجواء مع الخصوم؟
اقرأ أيضًا| تأثير صعود طالبان على اتفاقية أبراهام
الإجابة عن هذا السؤال تقتضي النظر إلى طبيعة المحادثات الحالية، هل هي انخراط كامل في تفاصيل العلاقات بين الطرفين (إيران ودول الخليج)، أم أنها نقاط محددة تتعلق بالأمن البحري وحرب اليمن وملفات تبتعد عن العلاقة مع إسرائيل، وفي هذه الحالة تبقى تل أبيب مجرد هامش آخر يحتفظ الطرفان بمستوى من العلاقات يناسبهما، سواء أكثرها عداءً أو أعملها ودًا وسلامًا.
وكلاء إيران في الشرق الأوسط
التحدي الآخر الذي سيواجه على الأرجح فكرة العيش في سلام، يتعلق بشكل تواجد إيران في الشرق الأوسط، عبر وكلائها المحليين، والمسلحين، وهي النقطة الأساسية في المباحثات بين الطرفين، بالنظر إيران انخراطها في عمق الملف اليمني المزعج للملكة العربية السعودية.
لا تعترف إيران بتواجد رسمي لها في مناطق النزاع بالشرق الأوسط، لكن نقاشات من هذا القبيل الساعي للتهدئة بستلزم تعهدًا إيرانيًا واضحًا بالحد من نفوذ الجماعات المسلحة، وإعادة رسم خريطة الأحداث بما ينهي تلك الأزمات. واقعيًا يمكن لإيران أن تقدم سيلاً من التعهدات في هذا الإطار لكن عمليًا لا يمكنها سحب دعمها لوكلائها في الشرق الأوسط، وهي الورقة التي تعيها دول الخليج أيضًا، ويبدو أنها تحتاط لها عبر الاحتفاظ بعلاقات مع أطراف وجماعات يمكن أن تمثل “شوكة في حلق إيران”. تلك الاحتياطات المشروعة سياسيًا بإمكانها أن تعيد الأمور إلى نقطة الصفر.
شكل التواجد الإيراني في المنطقة، لا يتوقف على دعم الوكلاء المحليين، بل يتعداه إلى اختراق المجتمع الخليجي ذوي التركيبة الاجتماعية المختلطة بين السنة والشيعة، وتلك نقطة لا يمكن ملامستها ماديًا خلال النقاشات لكنها تبقى متوقفة على نية حقيقة لطهران إزاء خفض التوتر.
المؤكد أن عدم حل ملف الميليشيات يعني أن المبادرة الحالية ستبقى عالقة في الهواء. خاصة أن السعودية ولّت وجهها شطر طهران بعدما رأت جحيما من الحوثيين في اليمن، لذلك فإن ما يدور وراء الكواليس بشأن ما يُعتقد أنه تحضير لشرق أوسط جديد، يجب أن يرتكز أساسًا على خفض التصعيد وتحجيم دور الميليشيات والعمليات العسكرية.
الخلافات الخليجية الخليجية
واحدة من معقدات المشهد تتعلق بالعلاقات الخليجية – الخليجية، خاصة الخلافات الضاربة بجذورها بين دول مجلس التعاون وقطر القريبة من إيران، فضلاً عن عدم توافق ملموس بين الرياض وأبو ظبي، والتي تدلل وقائع السنوات الماضية كيف احتفظ الإمارات بمبدأ برجماتي في علاقتها بطهران، خاصة ما يتعلق بالتعاون الاقتصادي في أوج الخلافات وحرب ناقلات النفط في الخليج.
اقرأ أيضًا| خلاف سعودي – إماراتي يتردد صداه في اليمن
الواضح أن أزمة قطر انتهت بقمة العُلا، لكن الخلاف الخليجي الداخلي لا تزال قائمة. ذلك أن إنهاء الأزمة ليس حبًا في قطر بقدر ما هو كرهًا في إيران. وتلك السياسات سرعان ما تجرفها مياه التغيير السرعية وبدون مقدمات، ما يجعل إمكانية تحقيق سلام دائم بين دول الخليج وإيران رهن “طوفان السياسة”، التي ستجد لها أرضية خصبة مشبعة بضغائن بين دول الخليج العربية.
الخلافات الخليجية العراقية
أما العراق وهي الراعي الحصري لقمم السلام ودبلوماسية الشرق الأوسط الآخذة في التغيير حاليًا، تمتلك عداءً غير قليل مع دول الخليج، لاسيما الكويت والسعودية، اللتين ما إن تغيرات الإدارة الحاكمة في بغداد حاليًا فإن الأمور قد تنقلب إلى ما لا يتمناه الجميع.
نعم نجحت العراق في تجميع دول جوارها وأطراف إقليمية ودولية لتحقيق أجندة ما يصطلح على تسمية بـ”الشرق الأوسط الجديد”، لكن التنبؤ بمدى هذا المشروع يتوقف على معالجة جذور الأزمات وليس تسكينها، وبديهي ألا تحقق اجتماعات دبلوماسية طائرة هذا الغرض، بل الأمر يبقى رهن تصورات بعيدة المعدة مفادها: هل حقًا دول الخليج جادة في تصفير الأزمات، وهل الطرف الآخر يمتلك نفس الشعور لإزالة الرواسب وأسباب الخلاف؟
العراق وضعت وزير خارجية إيران في الصف الأول عند التقاط صورة جماعية لقمة بغداد، وتلك إشارة كثيرة الدلالات، خاصة أنها تحتفظ لنفسها بقدر من الثقة التي تجعلها تجلب القوى الإقليمية ذات الثقل إلى طاولة واحدة والتي هي في حالة صراع مفتوح، باعتبار ذلك إنجازًا دبلوماسيًا لحكومة الكاظمي، سيبقى العراق إزاء ذلك محتفظًا برأس مرفوعة، وتلك الحالة تجعل أمر الانسياق وراء توجيهات خليجية أمرًا مشكوك في نجاعته.
إيران من الداخل
واحدة من الإشكاليات العميقة في طبيعة العلاقات بين إيران والخليج تتمثل في معاناة النظام إيراني من تعدد مراكز اتخاذ القرار. هذا ليس خلال حقبة واحدة ولكن مع تغير الأنظمة، حاليًا يبدو إيران أكثر انسجامًا بين قيادة سياسة وقيادة دينية، لكن خلال فترات صعود “الإصلاحيين” فإن الأجواء تبدو أكثر توترًا، وما ما كشفته تسريبات وزير الخارجية السابق جواد ظريف بأن الحرس الثوري الإيراني يتنقل بين عواصم عربية ودول خارجية بدون التنسيق مع وزارة الخارجية، بل إن قائد فيلق القدس بالحرس الثوري تواجد في بغداد ودمشق في نفس توقيت وجود ظريف دون أن يعلم رئيس الدبلوماسية الإيرانية.. هل تتخيل الفجوة؟!
الدليل على ذلك أنّ العلاقات الإيرانية الخليجية شهدت تحسناً نسبياً في عهد رؤساء، وانخفضت إلى أدنى مستوياتها لدى آخرين، ففي عهد الإصلاحيين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي تحسن العلاقات مع الرياض التي زارها رفسنجاني وهي أرفع زيارة لمسؤول إيراني منذ قيام “الثورة الإسلامية الإيرانية”، لكن مع صعود الرئيس المحافظ أحمدي نجاد تجددت الخلافات مع السعودية، وعلى إثرها اندلعت اشتباكات في عدة مناطق على أطراف السعودية، وأحبطت محاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير، واتهمت طهران بالوقوف وراءها. هذا يعني أنه حتى نضمن نجاحًا مستقبليًا لأي تهدئة بين الخليج وإيران يجب أن تتحول إيران إلى البراجماتية، بعيدًا عن الصوت الثيوقيراطي، والأمر نفسه بالنسبة للخليج. و”رئيسي” يتمتع بنفوذ أكبر في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني من سلفه الرئيس حسن روحاني وهو ما يمكنه من لعب دور حاسم إن توفرت الرغبة.
الاستقطاب الديني
صحيح أن مسألة التقاطب الشيعي- السني لا يعدو كونه إطارًا ظاهريًا لمشروع الطرفين السياسي، لكنّه يجد مواضعه في عواطف الأنصار بالمنطقة، لاسيما أن السعودية التي تتزعم الإسلام السني وإيران التي تتزعم الإسلام الشيعي، يمتلكان تاريخًا من التحشيد الديني، وصل في عدة مرات إلى شجار بين أستار الكعبة، في واقعة التدافع الشهيرة التي راح ضحيتها المئات من الحجج، بغرض أن طهران تريد تناوب تنظيم موسم الحج باعتبار أن الحرمين ليس ملكًا للسعوديين.
اقرأ أيضًا| كيف جعلت السعودية والإمارات إنهاء الحرب في اليمن مستحيلاً؟
البعض محق في اعتبار أن الصلح صعب بسبب هذه الخلافات العميقة، لكن لغة المصالح تجبر الفرقاء على التقارب، خاصة أن الإمعان في العداء يعود سلبًا على البلدين، وفق مؤشرات ذكرناها آنفا، لكنّ ذلك يبقى متوقفًا على احتمالية صعود أجيال جديدة لدى الطرفين تتخلى أو تقلل من حدة المشاريع القائمة على المذهبية.
أرض الواقع يشير إلى أن السعودية اتخذت هذا الطريق، عندما شرعت في التخلص من العباءة الوهابية المتشددة، بينما لم تقدم إيران بأية إشارات إيجابية في هذا الصدد، ناهيك عن تولي التيار المتشدد مقاليد الحكم، وهو ما قد يجعل تخفيف النزاعات السياسية بين القوتين الإسلاميين “على كف عفريت”.
الأوراق الخليجية.. باكستان نموذجًا
تحتفظ السعودية بأوراق ضغط على طهران، بإمكانها أن تضع كافة جهود السلام في أول سلة مهملات. ففي الوقت الذي سعت الرياض لدى كافة الأطراف لاستعادة العلاقات مع إيران، كانت في العمق الباكستاني تكيد لطهران، فأبرمت اتفاقية نفطية مع إسلام أباد، وستتلقى باكستان مساعدة نفطية بقيمة 1.5 مليار دولار سنويًا، وهو ما عدّها البعض محاولة للحد من نفوذ طهران في البلد الجار.
الحديث يدور عن المزيد من الاستثمارات السعودية في باكستان، وتتولى السعودية بناء مصفاة في ميناء جوادر الباكستاني ومجمع للبتروكيماويات بالقرب من كراتشي. هذا الوجود السعودي المتزايد في جوار إيران سيشكل مصدر إزعاج حتمًا لإيران في المستقبل.
كما تمتلك الإمارات علاقات نافذة وأكثر تقدما مع باكستان، خاصة أن إسلام آباد من أوائل الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع دولة الإمارات، وتطورت العلاقات حتى أصبحت الإمارات أكبر مستثمر في باكستان، كما تعمل في الإمارات نحو 7 آلاف شركة باكستانية.
أفغانستان المفاجئة
التحول المفاجئ في أفغانستان منذ صعود طالبان، جعل التنافس على نفوذ بتلك البلد محل صراع دول المنطقة. ومن ضمنها بعض دول الخليج وطهران اللتين لا يلتقيان في نفس الأهداف بشأن إعادة هيكلة الحكومة الأفغانية.
اقرأ أيضًا| ما يعنيه حكم طالبان: قراءة في الأسباب والأبعاد والتأثير
لا يمكن استبعاد أن يكون هناك “حرب بالوكالة” بين دول خليجية وإيران في حالة تدهور الوضع الأمني في أفغانستان. وهنا تبدو باكستان في موقف صعب، فهي ستكون منشغلة وقتها بأزمة تدفق لاجئين، وفي الوقت نفسه كيف تحافظ على سياستها الرامية إلى تحقيق توازن بين إيران والسعودية والإمارات. وهذا الملف تحديدًا يمكن أن تستخدمه دول خليجية للضغط على إيران، من خلال دعم الفوضى القريبة إلى أراضيها.
إيران والورقة العابرة للطوائف
تشير الشواهد إلى أن إيران تلعب بـ”الورقة العابرة للطوائف” بشكل أفضل من دول الخليج، وهو ما سمح لطهران بترسيخ نفسها أقدامها في العراق وسوريا، ثم تحاول حاليًا كسب طالبا في الجوار الآخر، كما أنّ فرص إيران في اكتساب نفوذ في أفغانستان أفضل من السعودية والإمارات، بالإضافة إلى اصطفاف قطر الدولة الخليجية راعية لاتفاق الانسحاب إلى جوارها.
ماذا ستربح المنطقة من المصالحة؟
النجاح في التوصل إلى تسوية لملف الخلاف الخليجي الإيراني، يعني بالضرورة أن ثمة شرق أوسط أقل توترًا، خاصة أن الطرفين يمتلكان حضورًا بشكل مباشر أو غير مباشر في النزاعات الإقليمية، بينما تتمثل مكاسب المنطقة في الآتي:
–تخلُّص الشرق الأوسط من حقبة التوترات الأمنية تدريجيًا ونسبيًا.
–إنهاء ملفات النزاع بالمنطقة، وعلى رأسها الملف اليمني وهو أكبر المتأثرين إيجابًا.
–تخفيف حدة التقاطب السني- الشيعي الذي كان أحد أسباب النزاعات في المنطقة لاسيما في سوريا والعراق واليمن.
–إعادة العراق، في حال نجاح الحوار الحالي بقيادتها، إلى منطقة أخرى أكثر استقرارًا لأول مرة منذ الغزو الأمريكي.
–وأد من “فزاعة” المشروع الإيراني بالمنطقة.
–وقف هجمات النفط التي تطال الناقلات في الخليج وبحر الحرب وتداعياتها على الأسعار العالمية.