في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، بينما كانت الحرب مشتعلة في بلدان أوروبا (شواطئ شمال البحر الأبيض المتوسط)، وكان الموت والدمار يخيمان على أراضيها، وانهارت كل أساسيات الحياة ومقوماتها، قررت الشعوب الأوروبية أن تترك بلدانها (مجبرة) من أجل النجاة، ولم يكن لهذه الشعوب من ملجأ إلا الاتجاه جنوبا، وكانت الهجرة (القسرية) في هذه اللحظة إلى بلدان الشرق الأوسط، وأفريقيا، (شواطئ جنوب البحر الأبيض المتوسط)، والتي استقبلت هؤلاء المهاجرين بترحاب، وكرم، وحسن ضيافة، وهنا لا أقصد الحكومات التي ربما كانت موالية لحكومات أوروبا، بل أقصد الشعوب التي أفسحت لهؤلاء المهاجرين مكانا بينها، وساندتهم، بل واندمج كثير من هؤلاء المهاجرين في تلك المجتمعات، ولم يعد بعضهم إلى موطنه الأصلي عقب انتهاء الحرب. بينما مع بدء القرن الجديد، وفي ظل أزمات اقتصادية، واجتماعية، وسياسية تضرب كثيرا من دول الجنوب، أطلت علينا التنظيرات الأوروبية بمصطلحات تبدو وجيهة ومنطقية، تؤكد في مجملها على ضرورة وقف الهجرات التي تأتيها من أفريقيا، والشرق الأوسط (شواطئ جنوب البحر الأبيض المتوسط)، بوصفها (هجرة غير شرعية).
هذه البلدان التي استقبلتهم سابقا
مثلت منطقة (البحر الأبيض المتوسط) على امتداد التاريخ واحدة من أكثر مناطق الهجرة كثافة على وجه الأرض، وهذا التنقل كان عنصرا أساسيا في حضارات هذه المنطقة، ولكن سياسة إغلاق الحدود في الآونة الاخيرة مع غياب بدائل واقعية للهجرة، جعلت حرية تنقل البشر في المنطقة خطرا عليهم، هذه الحواجز والحدود التي أقيمت بين السواحل لم تنتهك فقط الحق الأساسي في التنقل، إنما خلقت اقتصادا غير شرعي، وغير إنساني عابرا للحدود توسع في العشرين سنة الأخيرة، وأصبح مصدرا للرق والاستغلال بشكل حديث. وأصبحت البلدان الواقعة على طول الحدود الجنوبية والشرقية كالمغرب وليبيا وتركيا مناطق عبور، مما دفع الاتحاد الأوروبي لإسناد مهام رقابية على هذه التدفقات إلى البلدان هذه. وتم اعتبار المهاجرين من هناك مجرمين أو منافسين محتملين على التمتع بالموارد. من ناحية أخرى تحوّل اللاجئون السوريون إلى أكثر المجموعات عرضة للهجوم والخطر على طول البحر الأبيض المتوسط. ولهذا يجب أن يكون التنقل البشري دائما حقا إنسانيا أصيلا لا يمكن أن تقوضه أي سلطة.
إن القيود الحالية على حرية التنقل هي نتيجة لعدم المساواة في التنمية بين الضفة الشمالية والجنوبية للمتوسط على جميع المستويات، بما في ذلك التقدم الاقتصادي وفرص الشباب وحماية حقوق الإنسان والديمقراطية. ونعتقد أنه ينبغي على البلدان الأوروبية أن تتوقف عن تخويل مراقبة الحدود إلى بلدان جنوب المتوسط والصحراء، وأن تمد سياسات التنمية إلى ما هو أبعد من المناطق الساحلية جنوب المتوسط، بحيث تصل إلى تلك المناطق والبلدان التي تنبعث منها الهجرة، وهذا يعني أيضا أن حماية حرية التنقل تستوجب إحلال السلام والعدالة في مناطق الصراع المجاورة التي يفر منها الناس.
دلالة عنصرية
ربما نجحت الحركات العرقية/القومية في بلدان أوروبا هنا وهناك، في أن ترسل إلى حكوماتها رسائل ذات دلالة عنصرية، واستقبلتها هذه الحكومات بسعة صدر، أحزابا وشخصيات، وجعلوا من الهجرة فزاعة مخيفة، وطلبوا من ناخبيهم أن يساندونهم في التصدي لها، بتكوين جبهة قومية. وكادوا أن ينجحوا في أن تحتل ايديولوجيتهم المرتبة الأولى في هولندا وغيرها، ذلك البلد الذي سجله التاريخ، وتاريخ الفلسفة بالخصوص، بكونه أرض التسامح والإنسانية بامتياز.
إن أفضل رمز لتمثيل نقطة الالتقاء هو تلك السفينة التي أجرها شبان أوروبيون من اليمين المتطرف، أطلقوا على أنفسهم اسم “الجيل المتمسك بالهوية”، لاستخدامها في البحر الأبيض المتوسط كحاجز أمام قوارب المهاجرين، ولنا أن نتساءل إن كانوا ينوون إغراق هذه القوارب؟! ولكن هناك صورة أخرى تجول بالخاطر، وهي صورة الصيادين التونسيين الذين يعارضون تزويد السفينة بالوقود في موانئ هذه البلاد، معتبرين أنها “سفينة العنصرية”، وهو ما دفع أحد المنتمين إلى منظمة “من أجل الطبيعة والإنسان” أن يتساءل: “أين ذهبت إنسانيتنا؟!”
هل نعيش اليوم أزمة حول مفهوم ذا دلالة وهو مفهوم “الإنسانية”، وما الذي تعنيه أزمة الإنسانية؟!
أعتبر أن الطريقة التي تم بها طرح هذا التساؤل أساسية، لأنها تبرز أن ما تمثله “أزمة الهجرة/اللجوء” التي نعيشها، والتي يقال إنه لم يسبق لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، ويكشف عن نزعات الانطواء على الهوية وهي نزعات من شأنها أن تعيد النظر في النسق الأخلاقي للإنسانية عامة، ولما يطرحه الغرب وخاصة أوروبا حول هذا المفهوم.
كان البحر الأبيض المتوسط دائما مهد الحضارات في أوروبا، وعندما ندافع عن مفهوم الجانبين المنفصلين والمتعارضين، نحن إذن نتجاهل ببساطة تاريخ الألفية الذي هو مسؤوليتنا، علي ضفاف البحر المتوسط ولدت اللغات والأديان والمذاهب الفلسفية والضوابط العلمية التي غذت الحضارات التي نشأت في المنطقة عبر التاريخ، الذي يمثل المجال المميز حيث تمكنت ثقافات شعوب الشرق الأدنى وشمال إفريقيا وجنوب أوروبا أن تدخل في اتصال وتختلط وتندمج، إنه حقا مهد أولى المجتمعات الحضرية، ومراحل التنوير المضيئة مثل عصر النهضة، في الشرق، الحضارات اليونانية- الرومانية، واليهودية- المسيحية، والحضارة الإسلامية، حيث توجد مدن عالمية مثل الإسكندرية، طنجة، البندقية، القسطنطينية/إسطنبول، سالونيك و دوبروفنيك. البحر الأبيض المتوسط هو مفترق طرق، حيث اندمج كل شيء لآلاف السنين، وأثرى ذلك: البشر، والحيوانات، والسلع، والسفن، والأفكار، والأديان، وأنماط الحياة، وحتى النباتات.
الانفتاح وتجاوز للغريزة
إن الإحساس بالانتماء العرقي يمثل في جوهره تجليا غريزيا، نعم هو غريزة. وحيث أنه غريزة، فلا طائل من البحث عن أصله أو عن طبيعته، وإنما ينبغي علينا الاعتراف بوجوده وبأنه مغروس في طبيعتنا بشكل بدائي. وهو ما يمثل الحافز الذي ترتكز عليه السياسة (القبيلية) للدعوة إلى التجمع العرقي/القومي، ومن ثم، وعندما تتظاهر هذه السياسة صاحبة الرؤية المنغلقة بالحكمة، وتقدم نفسها بوصفها رد فعل بديهي فوري ضد السياسة الداعية للانفتاح على الآخر (التي ترفضها باعتبارها سياسة “مراعاة” معقدة)، نفهم أن سياسة هذه المجموعة قد اعتمدت الطابع البدائي للغريزة القبلية بوصفها مصادرة أوليّة لسياساتها، وفقا لنظرتها، ما هو موجود بالنسبة “لي” هو المجتمع الذي تحويه دائرة القربى، من رجال ونساء يشبهونني، ربما يملكون نفس لون البشرة، ونفس الدين، وما إلى ذلك، إلى الحد الذي أدى إلى أن يقترح أحدهم: فرز اللاجئين حسب ديانتهم!.
وإذا أردنا أن نستحضر مفهوما مجردا كما هو الحال مع مفهوم “الإنسانية” عبر مفهوم الغريزة، فإن ذلك لن يكون سوى تجميعا حيوانيا، أو مجموعة نحصل عليها فقط بعملية جمع لإنسانيات متنوعة في النهاية، إذ لا يمكن الوصول إلى فكرة الإنسانية بمجرد الحديث عن الانتماءات وبتوسيع السجلات الإقليمية تدريجيا، بما يعني أنه لا يمكن أن نتحايل على “غريزة القبيلة” أملا في أن تصبح “غريزة الإنسانية”.
أخوة إنسانية
ينبغي إذن أن نتمكن من تجاوز الغريزة حتى نجد أنفسنا من جديد، مباشرة، في اتجاه الإنسانية، في ذاتنا ولدى الآخرين. ومن ثم نعيد طرح التساؤل على نحو جديد: كيف يمكن أن نفتح “الروح الإنسانية” على ما يتجاوز القبيلة، إذا تأكد أننا نحب في الأصل آباءنا ومواطنينا بشكل طبيعي ومباشر، بينما أن حب الإنسانية لا يمكن له إلا أن يكون بطريق غير مباشر ومكتسب؟! وعلى حد قول برجسون: من أين يستمد شعور مغاير للغريزة الفورية قوته؟! أو بعبارة أخرى، كيف يمكن اكتساب ما هو مخالف لما رسمته الطبيعة لنكون جزءا من المجموعة التي بنتها “قبيلتنا”، بأخلاقياتها الخاصة ومناهضتها للقبائل الأخرى؟!
والجواب: إنه من طبيعتنا، كما طرح برجسون، القدرة على «خداع» تلك الطبيعة ذاتها، وعلى توسيع التضامن الاجتماعي ليصبح أخوة إنسانية، بفضل الذكاء الإنساني، والفلسفة.
إن هذه الروح المنفتحة هي بالتحديد مبدأ تلك القفزة. على عكس ما يمكن أن نسميه بالروح المنغلقة، التي ترد على فكرة الإنسانية بأنها منشغلة بحالها وبحال كل ما يؤثر فيها مباشرة، وبأن في ذلك الكفاية، وبأنها ليست قادرة على تحمّل مأساة العالم بأكملها، وتجاه هذه الروح المُتقلصة وبديهياتها الخاطئة، أكن في داخلي روحا منفتحة تسمح لي بالإحساس بالإنسانية لحد أنني أكاد ألمسها، وتجعلني قادرا على أن أكون أخا في الإنسانية لمن لا تربطني به أية صلة قربى، وربما يجب علينا أن نعترف بأنه إذا أردنا أن نتوجه إلى هذا النزوع الإنساني المنفتح على العالم، يصبح علينا أن نجتهد دائما لنكون إنسانيين، أي أنه علينا دوما أن ننمي هذه الروح المنفتحة، وأن نعتمد عليها لإيجاد حل لهذه الأزمة، يشمل: الإنسانية، وتذكر هذا الكرم الذي لاقاه أسلافهم من قبل، كي يتمتعوا بهذا الكرم، وبحسن الضيافة.