عندنا دستور ليبرالي ديمقراطي وفي الوقت ذاته عندنا نظام حكم فردي مطلق.

دستور ليبرالي بمعني أنه يحتفي احتفاءً عظيمًا بجملة الحريات الفردية والعامة والحقوق والواجبات التي كافحت من أجلها الإنسانية منذ صدور ما عُرف باسم الوثيقة العظمي “الماجنا كارتا” أو وثيقة الحقوق التي أجبر نبلاء الإنجليز الملك علي إقرارها والالتزام بها في مطلع القرن الثالث عشر ١٢١٥م. الدستور المصري جمع كل الحريات والحقوق والواجبات كما لم يجمعها دستور أي بلد أوروبي عريق في الليبرالية، من حرية الملكية الخاصة، الي حرية العقيدة، إلي حرمة الحياة الخاصة، إلي آخر ما قد يخطر أو لا يخطر علي البال من حريات وحقوق وواجبات.

وثيقة الماجنا كارتا
وثيقة الماجنا كارتا

ثم هو دستور ديمقراطي بمعني أنه يرسم دولة مؤسسات وقانون، السلطة الأعلى فيها محفوظة للشعب وحده، فهو السيد وهو صاحب السيادة وهو يعلو و لا يِعلى عليه، فهو الذي يختار الحكام وهو الذي يعزلهم، وبين الاختيار والعزل له الحق الكامل – بالقانون ومن خلال المؤسسات- في مراقبة الحكام ونقدهم ومحاسبتهم ومساءلتهم بل ومحاكمتهم.

وليس في الدستور مادة واحدة تلغي حق الشعب وتنسبه إلى أقدار الله جل في علاه، فليس في الدستور مادة تقول إن الله يأتي بالحكام الى مواقع الحكم أو أنه -تعالي – يستبقيهم فيها إلى أجل لا يعلمه إلا هو، أو أنه – تبارك اسمه – هو من يقرر متي يرحلون عنها. فالدستور هو توافق مكتوب بين المواطنين المصرين المحكومين منهم والحاكمين، وهو نص دنيوي يضبط علاقات دنيوية لها مواقيت معلومة ولها مقادير محدودة ومتفق عليها باستفتاء شعبي مباشر، ولا يوجد فيها ما هو متروك للغيب وإلا كان عقداً مبنياً على غير معلوم ومعقوداً علي غرر مجهول.

 وعلي هذا الأساس فدستورنا ديمقراطي يفترض أن الشعب هو من يحكم نفسه دون إملاء من خارج إرادته.

يخلط البعض بين ما هو ليبرالي وما هو ديمقراطي، وبإيجاز شديد: نعني بالليبرالية جملة الحريات الفردية والعامة والحقوق والواجبات التي كافحت ومازالت تكافح لأجلها الإنسانية، وهي كما تقدمت الإشارة إليها – أسبق بقرون عديدة من الديمقراطية. فالديمقراطية تعني تمكين الشعب من اختيار الحكام وعزلهم وهذا تقليد حديث جداً يعود الي الثورتين الأمريكية ثم الفرنسية في خواتيم القرن الثامن عشر، بينما تعود جذور الليبرالية الي مطالع القرن الثالث عشر، ولهذا قد تجد بلادا فيها ليبرالية لكن ليس فيها ديمقراطية مثل سنغافورة، وقد تجد بلاداً فيها ديمقراطية لكن فيها تضييق علي الليبرالية مثل تركيا أردوغان، وقد تجد بلادا ليس فيها ليبرالية وليس فيها ديمقراطية مثل الصين وإيران، لكن الصين فيها حكم رشيد له قواعد وقوانين غير شخصية وغير فئوية، بينما ايران محكومة بمنظومة مغلقة تسمح بالتنافس فقط بين ورموز متعددين لفكر واحد.

مصر فريدة في تطورها السياسي، فهي منذ مطلع القرن التاسع عشر وهي منفتحة علي أوروبا، ورغم الاختلافات الجوهرية بين تياراتها السياسية الكبرى من إسلاميين وليبراليين ويسار إلا أن المجرى الرئيسي كان ومازال يتحرك صوب ما هو ليبرالي وديمقراطي رغم ما حدث ويحدث من تضييق علي الحريات وتلاعب في الانتخابات سواء في العهد الملكي أو العهد الجمهوري مع تفوق للعهد الجمهوري في الأمرين معا؛ سواء في التضييق علي الحريات أو في التلاعب في الانتخابات والاستفتاءات العامة وهي سمة مميزة لكل عهود النظام الجمهوري من ١٩٥٣م إلى ٢٠٢١م مع اختلافات طفيفة بين رئيس وآخر لا تؤثر علي مُجمل الصورة.

الانتخابات الرئاسية في 2018
الانتخابات الرئاسية في 2018

أما أن عندنا حكم فردي مطلق:

فهو فردي لأنه تقريباً لا يسمح بمنافسة حقيقية لا علي مستوي الرئاسة ولا علي مستوي البرلمان، فتقريباً هو مرشح فعلي واحد وحيد للرئاسة في ٢٠١٤م ثم في ٢٠١٨م، ثم هو بعد فوزه بالرئاسة من يشكل البرلمان وفق مواصفاته هو ووفق مقاساته هو كرئيس للجمهورية وقد حدث ذلك مرتين في برلمان ٢٠١٥م ثم في برلمان ٢٠٢٠ م. وقد جرت الانتخابات الرئاسية في ٢٠١٤م تحت مظلة نظرية الاستدعاء، بما يعني أن الشعب – في أغلبيته الكافية – قرر أن يتوجه إلي رجل واحد  ويستدعيه ليتولى قيادة السفينة في لحظة ضبابية عاصفة مضطربة، وهذا الاستدعاء في حد ذاته يلغي الحاجة لفكرة الانتخابات الرئاسية من جذورها ويجعلها مجرد تحصيل حاصل أو استيفاء الشكل بغض النظر عن المضمون.

وحدث شيء قريب من ذلك في انتخابات ٢٠١٨م فلم يتنافس مع المرشح الفعلي إلا مرشح شكلي وصوري ومن أشد مؤيديه ومحبيه، بِمَا يلغي فكرة التعدد من جذورها، فالمرشحان هما – في الحقيقة مرشح واحد فقط – بما يلغي للمرة الثانية لزوم الانتخابات ويجعل ما ينفق فيها من مال ووقت وجهد مجرد هدر وتبديد ليس من ورائه منفعة عامة إلا مجرد استيفاء الشكل دون المضمون .

هذا معنى الحكم الفردي، أما معنى الحكم المطلق فيكمن في نقطتين: أولاهما أن الرئيس هو من يشكل البرلمان ومن ثم فلا توجد مؤسسة تشريعية رقابية توازن ما يستمتع به الرئيس من صلاحيات تنفيذية. وثانيهما: أن الرئيس – من ١٩٥٣ إلي ٢٠٢١م – عندما يعدل الدستور فهو يضمن أمرين أخطر من بعضهما: يضمن عدم انبعاث صوت موازن من داخل جهاز الدولة بكل مؤسساته، ثم يضمن بقاءه في السلطة دون منازع. وطبعاً معنى أن ينجح الرئيس في تعديل الدستور هو أنه نجح – بالفعل – في ترويض أو تطويق أو تحييد أي معارضة شعبية، فكل الرؤساء في العهد الجمهوري لا يقدمون على تعديل الدستور إلا عندما يضمنون ويأمنون أي معارضة حقيقية من داخل مؤسسات الدولة وكذلك من صفوف الشعب، فتعديل الدستور – بما يعنيه من ضمان السيطرة والبقاء – يكون نقطة مفصلية في قصة كل رئيس، فهو نقطة فاصلة بين مرحلتين: مرحلة الكفاح لتثبيت سلطته قبل التعديل، ثم مرحلة الاطمئنان لتثبيت سلطته بعد التعديل، وفي هذه اللحظة يكون الحكم الفردي المطلق قد نضج واكتمل،  ثم استقر واطمأن، ثم يبدأ التعود عليه والتعامل معه كشيء طبيعي في الداخل والخارج علي السواء كأنه حقيقة من حقائق الحياة كانت قد غابت قليلاً ثم ما لبثت أن عادت سريعا.

خروج المصريين ضد حكم الإخوان
خروج المصريين ضد حكم الإخوان

– الحكم الفردي المطلق بمعني مجيء الحكام وبقائهم ورحيلهم بغير إرادة الشعب هو الأصل في تاريخ الدولة الحديثة في مصر ١٨٠٥ – ٢٠٢١م ، والحكم الحالي ٢٠١٣ – ٢٠٢١م ليس استثناءً في هذا الباب، وإن كان استثناءً غريباً لأنه جاء بعد ثورتين كان للشعب نصيب فيهما، وكانت الحريات والديمقراطية من مطالبهما، ولكن، رغم ذلك، يظل هذا الحكم الفردي المطلق ابن سياقه التاريخي وظرفه الاجتماعي الذي ولد فيه والذي بلغ ذروته في أمرين: أولهما حالة التفكك التي دبت في أوصال الدولة والمجتمع بعد انتخابات الرئاسة في ٢٠١٢م، سواء لعجز الحكام الجدد وفشلهم الموضوعي لنقص خبرتهم، أو بسبب ما واجهوه من رفض سواء من داخل الدولة، أو من صفوف الشعب، أو من جهات إقليمية مناوئة لهم. وثانيهما: الوضع الإقليمي غير المسبوق الذي شهد فراغاً سياسياً ضخما، حيث سقطت أنظمة، وعجزت نخب، وانقسمت شعوب، واندلعت حروب أهلية في أكثر من قطر عربي. صحيح أن مصر – كدولة وكشعب – لديها حصانة ومناعة، حصانة لأن جيشها وطني حقيقي فهو بوتقة لكل المصريين بلا طائفية ولا فئوية ولا جهوية ولا تمييز من أي نوع ولا على أي أساس، ومناعة شعبها فهو شعب ذو نسيج متكامل غير قابل للقسمة والتشطي شعوباً وقبائل، كل ذلك صحيح، لكن الصحيح كذلك: أن حالة من السيولة كانت تضرب الإقليم كله، وأن موجات عنيفة من الإرهاب باسم الدين كانت تجتاح الإقليم وبالذات حيث سقطت الأنظمة وتداعت الدول وعجزت النخب وفشلت الحلول وانقسمت الشعوب. في ذاك السياق التاريخي نشأ الحكم الفردي المطلق الراهن، نشأ وفي يده مبرراته الواقعية وغير الواقعية، نشأ وعلي لسانه تبريراته الصادقة وغير الصادقة، نشأ في ظل مخاوف أصلها حقيقي لكنه زاد عليها وضخم منها، وتستطيع وأنت مطمئن القلب والعقل أن تصفه بأنه نظام حكم غير ليبرالي لأنه لا يضمن الحريات ، وتستطيع أن تصفه بأنه غير ديمقراطي لأنه لا يأتي بانتخابات حقيقية، ولكنك – في مقابل ذلك – يلزمك أن تشهد له بما يلي: استعاد الاستقرار وكان مفقوداً، واستعاد الأمن وكان عزيزاً، فأنت تستطيع السفر في ليل أو نهار من أدنى البلد إلى أقصاها لا تخاف سرقةً أو تثبيتاً أو قطع طريق أو خطفاً أو أي خطر من ذلك النوع.

لكنك في الوقت ذاته تخاف أن تتكلم أو تكتب كلمةً تفقد بها حريتك أياماً أو شهوراً وربما سنوات خلف أسوار السجون، وهذا شأن الحكم الفردي المطلق يحمي مواطنية من كل خطر باستثناء خطره هو، ويجعلهم يأمنون من كل خوف ألا الخوف منه هو .

وهذا هو جوهر السبب الذي جعل مفكرين كثيرين في عهود النهضة والاصلاح في أوروبا، وبالتحديد من مطلع القرن السادس عشر حتى خواتيم القرن الثامن عشر يقفون مع الحكم الفردي المطلق ضد كل مناوئيه سواء كان مناوئوه هم الكنيسة أو النبلاء أو البرلمانات، وربما كان الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز ١٥٨٨ – ١٦٩٧م النموذج الصارخ لذلك، ولكنه ليس النموذج الوحيد، فحتى قيام الثورتين الأمريكية ثم الفرنسية بل وحتى مطلع القرن التاسع عشر لم يكن يجرؤ فيلسوف أو مفكر أوروبي أن يصف نفسه بوصف أو لقب ديمقراطي دون أن ينال ما يكفيه من التوبيخ والازدراء، وكان مستقراً بين مثقفي تلك القرون ال ١٦ وال ١٧ وأكثر ١٨ أن الحكم الفردي له مزاياه في تأسيس الدولة وخلق الهوية الوطنية وغزو المستعمرات وحماية البلاد من شرور الفوضي التي كانت هي والديمقراطية مترادفان .

توماس هوبز ١٥٨٨ – ١٦٩٧م كُتب الكثير في تأييد الحكم الفردي ومحاربة الكنيسة والدين والديمقراطية، ولأجل مكافحة الديمقراطية ترجم عن اليونانية ما كتبه المؤرخ الاثيني ثيوكيدبدس عن نهاية الديمقراطية الإثينية التي ازدهرت في القرن الخامس قبل الميلاد ، ليحذر مواطنيه الإنجليز المؤيدين للبرلمان ضد الملك من عواقب الديمقراطية التي يحلمون بها ، فلم تكن عنده أكثر من مجموعة شرور ، وكان يحلو له أن يصف الديمقراطيين بالخونة وبالفاسدين وبالذين يحرضون علي الحروب الأهلية، وكانت وجهة نظره باختصار: الملك له كل السلطات وليس مسؤولاً أمام أحد . وبعد الثورة الفرنسية كان نابليون بونابرت يشاركه وجهة النظر ذاته، فبعد علاقة تعاون قصيرة جمعت نابليون مع الليبراليين العلمانيين عاد وانقلب عليهم بعد تفرده بالحكم ووصفهم بأنهم ليسوا غير مجموعة من الملاحدة .

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

السؤال الآن: هل يستمر هذا التناقض بين دستور ليبرالي ديمقراطي وحكم فردي مطلق ؟!

الجواب موضوع المقال في الأسبوع المقبل بإذن الله.