أبرز حضور الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قمة بغداد مؤخراً، أسئلة متفاوتة بخصوص الانخراط الفرنسي، السياسي والعسكري والاقتصادي بالعراق. لا سيما مع التراجع الأمريكي. إذ كان من اللافت تأكيد الرئيس الفرنسي تمديد مهمة الوجود العسكري لقواته في بلاد الرافدين. وقال ماكرون: “فرنسا ستبقي قواتها في العراق، في إطار عمليات مكافحة الإرهاب، ما دامت الحكومة العراقية تطلب ذلك. سواء قررت الولايات المتحدة سحب قواتها، أو لا”.

فرنسا تتحرى موضع قدم في العراق

وإلى جانب الدور الاقتصادي المهم والحيوي، الذي تتحرى فرنسا المشاركة فيه مع العراق. خاصة ما يتصل بحل أزمة الكهرباء، ومجالات الطاقة المتنوعة، ودعم تدشين خط مترو أنفاق في بغداد. تضمنت المبادرة الفرنسية جملة إشارات سياسية لافتة تتعلق بمكافحة الإرهاب والتدخلات العسكرية الخارجية، وضرورة “توفيق أوضاع” المجموعات المسلحة والعسكرية. وذلك لضمان “مسيرة السيادة العراقية”.

وتحدث ماكرون عن التهديدات التي تطوق بغداد، حيث عرّج على الهجمات الصاروخية المتكررة والتقليدية لفصائل شيعية مدعومة من إيران. فضلاً عن التدخلات العسكرية التركية. وقال، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الحكومة العراقية: “سنظل ملتزمين لأن المعركة ضد داعش مستمرة. لكن ذلك يجب أن يكون في سياق اتفاق وبروتوكول يحترم سيادة العراق”.

ماكرون ومصطفى الكاظمي
ماكرون ومصطفى الكاظمي

“تعقيب حاد” صدر عن هادي العامري زعيم ميليشيا بدر، المدعومة من الحرس الثوري الإيراني، على تصريحات الرئيس الفرنسي. وقال: “ستخرج قواتك من العراق لأن القرار ليس قرارك”.

غير أن رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، قال إن “فرنسا ساهمت في دعم العراق في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية”. ولفت إلى أن “بغداد وباريس شريكان أساسيان في الحرب ضد الإرهاب”.

وأوضح الرئيس الفرنسي في زيارته الثانية للعراق، خلال أقل من عام، والتي سبقتها عدة زيارات لوزير الدفاع والخارجية الفرنسيين: “نعلم جميعاً أنه لا ينبغي التراخي؛ لأن تنظيم الدولة الإسلامية لا يزال يشكل تهديداً. أنا أعلم أن قتال تلك المجموعات الإرهابية يشكل أولوية لحكومتكم”.

انطوت زيارة الرئيس الفرنسي الأخيرة على مجموعة من الدلالات، تتجاوز العراق إلى الأوضاع المستجدة في الإقليم. خاصة بعد سقوط العاصمة الأفغانية في قبضة طالبان، وقيام ماكرون بجولة دبلوماسية لافتة مؤخرًا، بحسب الباحث العراقي، محمد الجبوري.

ويضيف الجبوري لـ”مصر 360″: الانفتاح الفرنسي على العراق لا يعد أمراً جديداً، إنما له جذور تاريخية، تعود لعقود سابقة. وقد جاءت التداعيات السياسية والتطورات الإقليمية الأخيرة لتعيد هذه الاعتبارات من جديد على أرضية تبدو مغايرة. لكنها تستدعي الحضور المؤثر لباريس، العضو الدائم في مجلس الأمن، كقوة سياسية واقتصادية أوروية”.

أهداف جيوسياسية وراء “تبديل الكراسي”

ويتزامن حضور باريس التي كانت إحدى القوتين الكبيرتين، تاريخياً، خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، مع التراجع الأمريكي. وذلك بعد عقود من هيمنة الولايات المتحدة على خلفية انزواء القوى التقليدية، وسقوط الاتحاد السوفيتي، بحسب الجبوري، وبالتالي، فإن عودة باريس للمنطقة ليس أمراً عفوياً، إنما له أهداف جيوسياسية.

ويردف الباحث العراقي: “انخراط الرئيس ماكرون والدبلوماسية الفرنسية في العراق وشمال إفريقيا، محاولة لاستعادة الدور الفرنسي في الإقليم، والاشتباك مع ملفاته المتقاطعة. بالإضافة إلى التأكيد على أن العلاقات العراقية الفرنسية ترجع لسنوات سابقة، تسبق فترة حكم (البعث). ولذلك، فإنها تواصلت بعد سقوط هذا النظام بقيادة صدام حسين، ثم تحاول أن تعيد تشكيل ملامح علاقاتها من جديد مؤخرًا. وذلك بزيارات رفيعة المستوى، بدأت مع الرئيس السابق فرونسوا هولاند، في نهاية عام 2014، أي بعد اجتياح تنظيم (داعش) الإرهابي لعدة مدن ومناطق عراقية. ليؤكد التزام بلاده بمساعدة العراق في محاربة التنظيم، ومن ثمّ زيارة ثانية مطلع 2017، أي بعد إلحاق الهزيمة بالتنظيم الإرهابي”.

فرنسا تحاول إعادة تشكيل ملامح علاقاتها من جديد مؤخرًا. وذلك بزيارات رفيعة المستوى، بدأت مع الرئيس السابق فرونسوا هولاند في نهاية عام 2014، ومن ثمّ زيارة ثانية مطلع 2017.

إلى ذلك، أكد الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، اللواء يحيى رسول، أن “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة رسالة قوة لجميع دول العالم في تحقيق الأمن نتيجة تضحيات قواتنا الأمنية”. وبيّن أن المؤتمر ناقش موضوع الشراكة في مكافحة الإرهاب.

وأوضح أن “عقد مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة مهم، على عدة أصعدة وأهمها الأمنية والسياسية والاقتصادي، وكل ما يحتاجه العراق”. وتابع: “مؤتمر بغداد رسالة قوة لجميع دول العالم. مفادها أن العراق ينعم بأمن واستقرار كبير، نتيجة تضحيات كبيرة من قبل القوات المسلحة العراقية بجميع صنوفها وتشكيلاتها”.

وفي إشارة إلى تعاون أمني، يلفت النظر إلى أن “مؤتمر بغداد ناقش موضوع الشراكة في مكافحة الإرهاب. حيث إن خطر الإرهاب لا يزال يهدد المنطقة جميعاً”. وشدد على أن “استقرار العراق هو استقرار لمنطقة الشرق الأوسط، وبالتالي الكل يعي دور العراق المهم الريادي في المنطقة. لهذا نرى أن نتائج هذه القمة إيجابية بشكل كبير”.

رسائل سياسية.. منافسة إيران وتركيا

وبالعودة للباحث العراقي، فإن حديث الرئيس الفرنسي، خلال قمة بغداد، حمل عدة إشارات ورسائل سياسية لأطراف عديدة، محلية وإقليمية ودولية. بعضها كان لتركيا، والآخر لإيران، فضلاً عن واشنطن. ولذلك، كان من اللافت حرص ماكرون على زيارة كردستان العراق، وكذا قاعدة عين الأسد الجوية التي تعرضت للاستهداف من الفصائل المدعومة من إيران. وهو الأمر الذي يتوافق مع مضمون مبادرته التي خلصت إلى ضرورة دعم “المعركة من أجل سيادة العراق أساسية”. وقال إن “هناك قادة وشعب مدركون لذلك ويريدون أن يحددوا مصيرهم بأنفسهم، وأن دور فرنسا يكمن في مساعدتهم على ذلك”. كما طرح مبادرة أخرى لدعم مشاريع التنمية والإعمار في العراق، لحل التحديات والأزمات الاقتصادية والتنموية التي يقع تحت وطأتها.

ماكرون والكاظمي
ماكرون والكاظمي

 

ويضيف: “ليس من الضرورة الاستغراق في التفاؤل أكثر من اللازم، حول المبادرة الفرنسية. ففي النهاية نحن بصدد رهانات سياسية ومصالح وأهداف دول، تحمل توافقات كما تحمل تناقضات في آن. غير أنه من الضروري أن يدرك العراق أهمية الانفتاح على كافة الأطراف الإقليمية التي تسمح له بدور حيوي. دونما الانزواء في جهة إقليمية محددة بحساباتها الضيقة”. ورجّح صعود قوى أخرى تملأ فراغ الولايات المتحدة مثل “الصين وروسيا حيث إن كل منهما يحاول الاستفادة من التراجع الأمريكي وحلحلة نفوذها التقليدي في عدد من المناطق”.

تحديث السياسة الخارجية الفرنسية

يتفق والرأي ذاته، معهد واشنطن الذي يرى أنه يتم تحديث السياسة الخارجية الفرنسية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط بشكل منتظم. ولكنها تبقى قائمة على خمسة عوامل رئيسية: المصالح الأمنية، العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، النشاط الدبلوماسي، التواصل الثقافي، تعزيز قدرات أوروبا على حماية نفسها.

ويردف: “تتوافق زيارات ماكرون إلى لبنان بين شهري أغسطس وسبتمبر العام الماضي، أو العراق خلال نفس الفترة مع هذه الجهود”. وكذلك “مع التقليد القائم على الحفاظ على العلاقات الثنائية والتوسط عند الإمكان”. ويتابع: “ففي العراق، كانت فرنسا شريكة ملتزمة لكلّ من بغداد وأربيل منذ عام 2014 على الأقل. فقد قام وزير الدفاع الفرنسي السابق ووزير الخارجية الحالي جان إيف لو دريان بعدة رحلات إلى العراق. كما ساهمت فرنسا في “التحالف الدولي لهزيمة تنظيم داعش الإرهابي، حيث وفرت المدفعية، والدعم الجوي، والتدريب لقوات الأمن العراقية. بالإضافة إلى ذلك، دعمت فرنسا إعادة الإعمار في سنجار والموصل في مرحلة ما بعد تنظيم “داعش” وأقرضت العراق مبلغ 512 مليون دولار في عام 2017″.