لا تقتصر أزمة الحكم الذي تؤسسه التنظيمات الدينية على فقط محاولة هندسة حياة الناس، والتدخل في ملبسهم ومأكلهم، ولا قهر النساء والأقليات وكراهية الفن والإبداع، إنما أيضا إقامة نظام حكم قائم على “الحصانة” باسم الدين أو الحكم الإلهي أو الحاكمية لله، وأن نقد هذا النظام يعني نقد الدين ويفتح أبواب جهنم في وجهك وتكفيرك.
صحيح أن النظم المحصنة ليست فقط دينية فهناك من حصنوا أنفسهم باسم الثورة، وباسم الاشتراكية وباسم الوطنية وغيروا في المفردات التي توجه بحق المخالفين: فهم خونة وليسوا كافرين، وهم أعداء الثورة وليسوا أعداء الدين، وهم الرجعية و”البرجوازية العفنة” التي ترفض الاشتراكية، ولكن يبقي أسوئها نظم الحق الإلهي والحكم الديني حتى لو تبارت جميعها في السوء.
التجارب المعاصرة
عرف العالمان العربي والإسلامي تجارب معاصرة مزجت فيها بين الدولة الحديثة والدين، فكانت الوهابية قاعدة لتأسيس الحكم الملكي في السعودية وكانت الثورة الإيرانية أساس نظام الجمهورية الإسلامية.
صحيح أن مسار التجربتين ظل مختلفا، فالسعودية أسست نظام ملكي تحالف مع أمريكا والغرب، وإيران أسست جمهورية إسلامية رفعت فيها لواء مواجهة أمريكا والغرب.
وعرفت إيران نظام حكم سياسي يقوده مرشد الثورة أو الولي الفقيه وفيه أحزاب ورئيس جمهورية منتخب من الشعب لدورتين غير قابلتين للتمديد، ولكن صلاحياته أقل بكثير من الأول. والمرشد الديني يستمد شرعيته من مؤهلاته الدينية، ومنتخب من مجلس الخبراء، وهو مصدر القوة والسلطة الحقيقية في البلاد، ويحرص على وجود رئيس من تياره المحافظ وهو ما جعل المنظومة الدينية الحاكمة في إيران تهندس الانتخابات الأخيرة من أجل جعل فوز الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي سهلا ومضمونا.
ويرتبط منصب المرشد الأعلى للثورة بنظرية ولاية الفقيه التي وضعها الإمام الخميني قائد الثورة الإيرانية في عام 1979، فهو القائد العام للقوات المسلحة وقوى الأمن، وله إعلان الحرب والسلم، وتتبع المرشد مؤسسة تسمى مكتب الإرشاد الأعلى، وتحت أمرته ممثلي المرشد الأعلى الذين ينتشرون في كل الوزارات والمؤسسات الحكومية، ولهم نفوذ أكير من الوزراء ويتدخلون في كافة شؤون الدولة.
هذا النظام لم يلغ الحداثة ولم يحظر الفن والإبداع ولم يمنع المرأة من العمل أو أن يكون لها دور في المجال العام والسياسي، إنما وضع قيودا دينية على زيها (غطاء رأس اجباري)، وجانب من سلوكيات الأفراد وبعض الأنشطة الترفيهية (منع المراقص والخمور ووضع قيود على المشاهد الجنسية في السينما.. الخ)، أما السعودية فلم تعرف حكما إلهيا إنما نظام ملكي مثل باقي النظم الملكية في المنطقة العربية، وعرفت البلاد قيودا كبيرة على عمل المرأة وتحركها وغابت تقريبا الأنشطة الترفيهية والفنية لعقود طويلة حتى عادت مؤخرا مع الإجراءات الإصلاحية التي اتخذها ولي العهد السعودي، وسمح للمرأة بالقيادة وتقلد وظائف عليا.
والمؤكد أن حكم طالبان من 1996 إلى 2001 لا يمكن مقارنته بالنظامين السابقين رغم ما بينهما من تباين وصراع، فقد كان الأسوأ على الإطلاق، حيث حرمت المرأة من التعليم وغابت كل صور الفنون وقضي على المجال العام والسياسي وتحولت الإمارة الإسلامية في أفغانستان إلى مكان بدائي وملاذ آمن للعناصر المتطرفة، حتى قام تنظيم القاعدة بعمليته الإرهابية الكبرى في 11 سبتمبر، وفتح الطريق أمام الاحتلال الأمريكي لأفغانستان الذي دام عشرين عاما، وعاد وترك البلاد لحكم نفس التنظيم الديني أي حركة طالبان.
حكم التنظيم الديني
بانسحاب آخر جندي أمريكي من أفغانستان أصبحت الحركة هي الحاكم الفعلي لأفغانستان، وأصبح أمامها تحدي بناء نظام سياسي جديد وليس فقط إحداث موائمة مع المجتمع الدولي.
والحقيقة أن إشكالية هذا الحكم تكمن في ثلاث قضايا رئيسة: الأولي تتعلق بطريقة وصول الحركة للسلطة، فهي ستحكم عقب انتصارها في حرب مسلحة ضد الأمريكان والحكومة الأفغانية التي صنعتها، وليس عبر ثورة شعبية مثل إيران شارك فيها ملايين البشر من كل الأطياف السياسية والحزبية، أو عبر انتخابات ديمقراطية مثل الأحزاب السياسية المدنية التي لديها مرجعية إسلامية كما هو الحال في المغرب وتونس وتركيا، إنما عبر تنظيم مسلح مغلق ومنضبط، حتى لو امتلك حاضنة شعبية كبيرة ويحاول أن يتواصل مع أطرف قبلية وعرقية وسياسية مختلفة إلا أن إرثه التنظيمي سيظل عائق كبير أمام الانفتاح على الآخرين.
أما المسألة الثانية فهي أن حركة طالبان على المستوي الفكري والعقائدي ترفض الديمقراطية وتداول السلطة، ودولة القانون، فهي تعني فقط تطبيق أحكام الشريعة، فالحاكمية لله وليست للشعب، ولذا لم يكن غريبا إنها طوال سنوات حكمها الأول لم تضع دستور ينظم شئون البلاد واحتفظت بالشعار العام البراق التي تردده معظم التنظيمات الدينية أن “القرآن والسنة هما دستورنا”.
أما المسألة الثالثة فهي في بنية التنظيم الديني الذي سيحكم البلاد فهو ليس حزب مدني له مرجعية إسلامية يمكن أن تصل معه لحلول وسط بالضغط والحوار والمقاطعة أو حتى برفض كل توجهاته، فالتنظيمات الدينية مثل الحوثيين وطالبان وحزب الله والإخوان المسلمون، معضلتها الأساسية أنها اقتحمت المجال السياسي بشروط التنظيم الديني وليس الحزب السياسي، وبالتالي فإن بنيتها الداخلية هي بالطبيعة والتكوين خارج مفاهيم الدولة المدنية الحديثة وقيم الدستور والقانون.
صحيح أن ذلك لا يعني عدم التفاوض معها ومحاولة الوصول لتفاهمات أو اتفاقات مثلما فعل المجتمع الدولي مع طالبان، إنما يجب أن يكون معروف منذ البداية الصعوبات التي ستواجه الجميع في داخل أفغانستان وخارجها من الحكم الطالباني ولو المعدل.
سيبقي أمام طالبان نموذج إيران في الحكم فهي من الوارد أن تقدم طبعته السنية بأن يكون “الملا هبة الله أخويند زادة” هو مرشد البلاد وقائدها الديني والسياسي، وتسمح في نفس الوقت بوجود مجلس شورى معين، وتشكل حكومة تقودها وتسيطر عليها وبمشاركة بعض القوميات والعرقيات الأخرى من خارج “البشتون” الذين يشكلون ما يقرب من نصف سكان أفغانستان وأكثرهم دعما لحركة طالبان.
لقد علمتنا كل التجارب الإنسانية أن أحلام الإمارة الإسلامية النقية أو دولة الخلافة الإسلامية الواعدة أو الثوار الحالمين بمجتمع مثالي، كل هؤلاء مهما كان دفاعهم عن مبادئهم قبل وصولهم للسلطة فهم يتغيرون ويتحولون عقب وصولهم للسلطة
سيكتشف حكام أفغانستان الجدد بأسرع مما يتصورون كيف ستتحول القيم الدينية التي حافظ عليها كثير من قادة التنظيم قبل الوصول للسلطة إلى مغانم وحصانة لكثيرين طالما غابت الرقابة الشعبية ودولة المؤسسات، وإن مآلات هذه النظم مالم تحدث مراجعات جراحية لنمط إدارتها للحكم هي انتاج نظم الفشل والاستبداد.