منذ إعلان جنوب السودان دولة مستقلة قبل عشر سنوات لم تنعم دول الجوار الإقليمي في شرق أفريقيا بأي مكاسب، إذ تفجرت موجات من التوتر والعنف والاقتتال كانت فيها دول الجوار الخاسر الأكبر مع زيادة أعداد اللاجئين بخاصة في السودان وإثيوبيا.

مع تجدد التوتر، أبدت الخرطوم قلقها البالغ من النزاع داخل الحركة الشعبية في المعارضة، وتأثيراته على اتفاقية السلام، خوفا من تداعيات هذا التوتر وإمكانية زيادة المواجهات المسلحة في المناطق المتاخمة للحدود الجنوبية للسودان الشمالي، داعية الأطراف كافة لوقف القتال والالتزام باتفاقية السلام.

في نظرة سريعة للوضع الإقليمي المجاور لجنوب السودان فإن المنطقة قد لا تحتمل انفجار الأوضاع مرة أخرى في جنوب السودان بالنظر إلى تفاقم الأزمة الداخلية في إثيوبيا والصراعات الإثنية بين قوميات الأورومو والتيجراي والحكومة بقيادة أبي أحمد، إضافة إلى اضطراب الأوضاع في السودان الذي لا يزال يعيش فترة انتقالية حساسة تشهد قدر من التوتر بين المكونين المدني والعسكري.

كما يهدد الصراع واستمرار التوتر في جنوب السودان مصالح مصر التي ترى إمكانية التعويل على جنوب السودان في تحقيق مصالح مائية في زيادة إيراد نهر النيل أو تحيد دورها في النزاع القائم مع دول منابع النيل حول تقاسم وإدارة المياه في النهر.

ورغم الحماس الذي أبداه المجتمع الدولي تجاه جنوب السودان ودعم انفصاله خلال العقد الماضي، إلا أن الحرب واستمرار الاقتتال والنزاعات القبلية أظهرت تخلي المجتمع الدولي عنها دون تقديم مساعدات حقيقة لدعم الاستقرار والتنمية المتوازنة.

 

اقرأ أيضا:

مصر وجنوب السودان: مسارات العلاقة وتحدياتها

تاريخ ممتد من التوتر

منذ حصول جنوب السودان على الاستقلال بعد استفتاء 2011 وتصويت 98% من الجنوبين على الانفصال لم يتحقق الاستقرار المأمول بين أطراف النزاع، بينما تجددت الصراعات والاشتباكات المسلحة بين الأطراف المتنازعة على السلطة على رأسهم رئيس الجمهورية سلفاكير ميادريت ونائبه، في وقت لم يحظ فيه اتفاق السلام الموقع في 2015 برعاية الإيجاد بتنفيذ فعلي لإنهاء التوتر والصراع المستمر والذي خلف خسائر قدرت بما يقرب من 400 ألف قتيل وآلاف النازحين.

لم يكن انفصال جنوب السودان يضع حداً لانهاء الحرب الأهلية في السودان، إذ عاد الصراع بقوة منذ 2013، بعد زيادة الخلافات بين الرئيس سلفاكير ونائبه رياك مشار وعزله من منصبه بعد اتهامه بمحاولة الانقلاب عليه عندما أعلن مشار رغبته الترشح في الانتخابات الرئاسية لعام 2015، وهو ما كان الشرارة التي أشعلت الحرب الأهلية –القبلية – والتي استمرت خمس سنوات بين أتباع مشار من قبلية النوير وهي المجموعة الإثنية الثانية، وأتباع الرئيس سلفاكير من قبائل الدنكا التي تمثل الأغلبية السكانية، حتى تدخل السودان ومنظمة الإيجاد للتفاوض بين أطراف النزاع وتوقيع اتفاق السلام.

سلفا كير ورياك مشار

ولم يختلف الصراع في جنوب السودان عنه في باقي مناطق القرن الأفريقي إذ ظل الطابع العرقي والقبلي هو أساس الصراع بين قبيلتي الدنكا والنوير، فمنذ تأسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان في ثمانينات القرن الماضي بزعامة جون قرانق كانت النزعة القبلية الأساس الذي قامت عليه الحركة، حيث سيطرت عليها قبيلة الدينكا التي ينتمى لها قرانق.

إلا أن انشقاق مجموعات بقيادة رياك مشار المنتمى لقبيلة النوير، ولان أكول من قبيلة الشلك في بداية التسعينيات كان بداية الصراع الداخلي في جنوب السوادن قبيل تحقيق الانفصال.

ومنذ تحقيق الاستقلال وانفصال جنوب السودان عن الشمال تحول الصراع من حرب أهلية جنوبية شمالية إلى حرب واقتتال جنوبي – جنوبي، فيما فشلت جميع مبادرات السلام لتحقيق الاستقرار ووقف الاقتتال بما في ذلك اتفاق السلام 2015، حتى نجحت وساطة الخرطوم في 2018، وعاد رياك مشار لمنصبه كنائب للرئيس سلفاكير في فبراير من العام الماضي.

سلام شكلي واستمرار التوتر في جنوب السودان

عودة رياك مشار لمنصبه كنائب للرئيس في فبراير 2020 يمكن اعتباره مجرد تحقيق لسلام شكلي دون ضمانات حقيقية بوقف العنف من أي من الطرفين أو وجود توافق بينهم لإدارة السلطة في البلاد، وهو ما كشفه تقرير للجنة حقوق الإنسان لجنوب السودان التابعة للأمم المتحدة في بيان لها في نوفمبر 2020 قالت فيه إن اتفاق السلام قد يسمح بتهدئة الأعمال العدائية على المستوى الوطني، لكن لا يزال ضعيفا للغاية لإحداث تغير على المستوى المحلي بين القبائل حيث لا تزال مستويات العنف مرتفعة بخاصة في مناطق جنوب خط الإستواء وتصاعد الاشتباكات بين السكان في ولايتي واراب في الشمال وجونقلي في الشرق.

رياك مشار

فيما تشير التقديرات الأممية إلى قتل أكثر من ألف مواطن وزيادة حوادث الخطف بين أبناء القبائل، وهو ما يضاعف معاناة السكان الذين يواجهوا أيضاً مخاطر الجفاف والفيضانات وغزوات الجراد التي دمرت المحاصيل.

ولا تزال التقارير الحقوقية الدولية تتحدث عن مذابح واعتداءات على المدنيين وحالات اغتصاب وتجنيد أطفال على نطاق واسع، فيما رصدت العديد من التقارير تدهور الوضع الاقتصادي في جنوب السودان الغنية بالنفط بعد استحواذها على مناطق غنية بالنفط بعد انفصالها عن شمال السودان.

فشل المصالحة تطال البرلمان والجيش والحكومة

لا تزال العلاقة المتوترة بين الرئيس سلفاكير ورياك مشار تحول دون تحقيق أي تقدم أو تطور ملموس على الصعيد السياسي، فرغم قبول العدوان المصالحة بضغوط دولية وإقليمية لا تزال هناك محاولات لتعطيل أي خطوات إصلاحية أو احترام الالتزمات المقررة في اتفاق السلام الموقع في فبراير 2020.

كان الرئيس سلفاكير قد أعلن عن تشكيل البرلمان القومي الانتقالي في مايو الماضي، ليضم ممثلي جميع الأطراف الموقعة على اتفاق السلام المنشط، في خطوة لاستكمال هياكل ومؤسسات الفترة الانتقالية، حيث أدى 588 نائباً ممثلين عن الحزب الحاكم وفصائل متمردة سابقة وقعت على الهدنة، اليمين الدستورية من أجل انشاء مجلس وطني شامل لتعزيز الثقة بين الخصميين السياسيين بعد سنوات من غياب السلطة التشريعية في البلد منذ انفصالها عن الشمال.

إلا أنه لا يزال هناك ما يقرب من 62 نائبا متغيبين عن أداء اليمين الدستورية بسبب الخلافات مع الحكومة حول ترتيب تقاسم السلطة.

ورغم التشكيل الصوري للبرلمان الذي اعتبر شرط لاتمام المصالحة والتحول الديمقراطي إلا أنه لم يجتمع لمرة واحدة منذ الإعلان عن تشكيلة قبل أربعة أشهر.

وعلى صعيد تشكيل الحكومة لا يزال هناك خلافات جوهرية بين الرئيس ونائبه في عمل بعض الحقائب الوزارية الموزعة بين كل فصيل، حيث كان تشكيل الحكومة قد شهد حصول جناج سلفاكير على 20 حقيبة وزارية من بينها شئون الرئاسة والداخلية والأمن الوطني والعدل والاستثمار، بينما حصل جناح المعارضة بقيادة مشار على 15 حقيبة أبرزهم الدفاع والتي تولتها وزجته أنجلينا أتينج.

ويبقى التحدى الأكبر في دمج قوات الجيش بين المجموعات الموالية للحكومة والرئيس سلفاكير والمجموعات العسكرية الموالية لمشار وحركات المعارضة، حيث كان وزير شئون الحكومة مارتن إيلياقد أعلن الأسبوع الماضي عن اتفاق بين سلفاكير ومشار يمهد لدمج قواتهما المسلحة، يستهدف السيطرة على قيادة الأمن القومي في البلاد، من خلال المشاركة 60% لحزب سلفاكير مقابل 40% لصالح مشار وقوى من المعارضة، بحيث تكون القوات بمثابة قطاع أمني موحدا يعمل لصالح شعب جنوب السودان وليس لحزب سياسي أو جماعة سياسية.

ويعد إنشاء جيش موحد تحت قيادة واحدة هو أبرز عناصر اتفاق السلام الموقع في 2018 لضمان إنهاء النزاعات المسلحة بين الفرقاء السياسيين، إلا أنه رغم الاتفاق الأخير بين كير ونائبه مشار لا يزال يواجه تحديات كبيرة في امكانية تنفيذه بعد التوتر والنزاع داخل مجموعة مشار بعد محاولات لعزله من رئاسة حزبه.

الانقلاب على مشار وعزله

وبعد أن كان النزاع محتدما بين الخصميين الأساسين سلفاكير ومشار، تصاعدت حدة الانقسامات داخل حزب المعارضة الذي يقوده مشار، وهو ما يهدد بقوة إمكانيات تحقيق سلام فعلي، حيث انقسمت قوات الحركة الشعبية في المعارضة إلى ثلاث مجموعات متحاربة، انتهت بعزل رياك مشار من موقعه كرئيس الحركة الشعبية، مع استمراره في منصبه كنائب للرئيس حتى الآن.

كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان المعارضة قد أعلنت مطلع أغسطس الماضي عزل مشار من رئاستها ومن ذراعها العسكري، وتم تعيين القيادي العسكري سيمون غاتويش دويل، رئيساً بالوكالة، وذلك بعد اتهام مشار بأنه فشل في إظهار صورة القيادي، وأضعف ثقل الحركة داخل الحكومة الائتلافية التي تشكّلت في فبراير 2020 وهو ما يكشف عن استمرار الصراع والخلاف على عمل الحكومة الانتقالية ونسب تمثيل المعارضة بها.

الحركة الشعبية

وتصاعد التوتر والخلاف داخل جناع المعارضة في الحركة الشعبية ضد قيادة رياك مشار منذ توقيع اتفاق السلام في 2018، حيث تم اتهامه بالانفراد في اتخاذ القرارات وتوزيع الحقائب الوزارية على أفراد أسرته، حيث كان قد تم تعيين زوجته وزيرة للدفاع، ووالدة زوجة ابنه بوزارة الصحة متهمين مشار بأنه أصبح مهددا للسلام، وهو التصعيد الذي اعتبره مشار انقلابا فاشلا في وقت يمر فيه تنفيذ اتفاق السلام بمرحلة مصيرية وهي توحيد القوات العسكرية في جيش واحد.

يرى مراقبون أن خطورة الانشقاق والانقلاب على مشار تكمن في عرفلة تنفيذ البنود المتعلقة بالجيش وتوحيد القوات العسكرية خاصة وأن المنقلبين على مشار هم المتحكمون في الجيش والمواليين السابقين لسلفاكير بما يشير لمحاولات من سلفاكير لتقليب أنصار مشار عليه والإطاحة به من المشهد السياسي بشكل عام، وهي ما قد تكون الفرصة الأكبر للتخلص من خصمه الرئيسي للأبد بتجريده من حلفائه ومراكز قوته.