في البدء لابد وأن نقرر أنه لا أحد يختلف على قيمة القضاء الإداري المتمثل في مجلس الدولة ككيان قضائي ساهم بشكل كبير في الذود عن حقوق وحريات المواطنين. وله العديد من الأحكام على كافة الأصعدة وخصوصا تلك المرتبطة بحقوق المواطنين، والتي تمثل منارات لكيفية التمسك والدفاع عن الحقوق، وإسهاماته في حث السلطات على احترام حقوق الأفراد لا جدل فيها، وذلك بحسبه يمثل وجود رقابة قضائية على مشروعية تصرفات الإدارة ويمثل ضمانه مهمة من ضمانات حقوق الأفراد وحرياتهم لما في ذلك من تبني لشرعية دولة القانون.
والقاضي هو مفتاح الالتزام بسيادة القانون ويتوقف عليه احترامه بمعناه الواسع الذي يتجاوز التقيد المجرد بالنصوص إلى احترام مضمون القانون من حيث وجوب حمايته لحقوق الإنسان. فإذا عجز القانون عن توفير الحماية لم يصبح جديرا بان تكون له السيادة.
ونجد إسهامات مجلس الدولة متمثلة في أحكامه الصادرة سواء من القضاء الإداري أو من المحكة الإدارية العليا، فمثلا وعلى صعيد الحقوق السياسية، فقد قضت فيما هو متعلق بالمساواة في المعاملة بين الأحزاب السياسية، وهو حكم نهائي صدر من المحكمة الإدارية العليا، في الطعن رقم 14400 لسنة 55 قضائية بجلسة 6 نوفمبر 2011، والقاضي بإلزام اتحاد الإذاعة والتليفزيون بتخصيص جانب من وقت الإرسال بصفة منتظمة للأحزاب السياسية، لعرض برامجهم خلال فترة اﻻنتخابات.
ولا يختلف الأمر في مستوى الحقوق الاقتصادية فيكفي أن ندلل على ذلك بمجموعة أحكام القضاء الإداري في قضايا الخصخصة، فقد أبطلت المحكمة العديد من العقود لفساد لحق بها، ويكفي أن ندلل على ذلك بما جاء في الحكم رقم 40510 لسنة 65 قضائية من قول المحكمة: “وحيث إن المحكمة وهي تؤدي رسالتها القضائية قد تكشف لها ما تقدم من إهدار جسيم للمال العام، وتجريف لأصول الاقتصاد المصري، تم تحت قيادة العديد من الوزارات لأكبر عملية تخريب للاقتصاد المصري، وهي من الجرائم الجنائية، إن ثبت بعد تحقيقها”.
وهذه مجرد أمثلة لما يقوم به مجلس الدولة ممثلا في محكمتي القضاء الإداري والإدارية العليا من وضع أسس وقواعد للمحافظة على الحقوق والحريات من افتئات السلطة عليها.
ومن هذا المنطلق وحتى يكمل مجلس الدولة دوره باعتباره حصنا منيعا للمواطنين، فهناك ملاحظات تعد من قبيل المعوقات لسير العمل القضائي وتعطيل للفصل في القضايا. وتتمثل هذه المعوقات أو الملاحظات فيما يلي:
أولا – هيئة مفوضي الدولة:
نظم القانون أحكام المهام المنوطة بهيئة قضايا الدولة في المواد أرقام 6،27،28،29،30،31 من قانون مجلس الدولة
ويمكننا إجمال دور هيئة مفوضي الدولة في
.تحضير الدعوى وتهيئتها للمرافعة
.إعداد التقرير عن الدعوى
.اقتراح إنهاء النزاع وديا
.الفصل في طلبات الإعفاء من الرسوم القضائية
وأهم ما يمكننا الحديث عنه هو دور الهيئة في إعداد تقرير قانوني في القضايا الواردة إليها، وهذا التقرير غير ملزم للمحكمة أثناء نظرها في موضوع القضية، ويقوم بإعداد التقرير مجموعة من المستشارين أو المستشارين المساعدين والنواب والمندوبين، جميعهم قانونيون. وفي ظل التكدس القضائي أرى أنه من الممكن الاستعاضة عن هذه الهيئة بتوزيع أعضائها على المحاكم، وبالتالي زيادة أعداد الدوائر، حتى تتمكن المحاكم من الفصل في أكبر قدر ممكن من القضايا، وخصوصا لكون تقرير هيئة المفوضين غير ملزم للمحكمة، وكذلك أن المحكمة هي هيئة قضائية لا تحتاج لمساعدة قانونية من غيرها، إلا في المسائل الفنية، وهذه المسائل يتم الاستعانة فيها بخبراء فنيين كل حسب تخصصه وينظم ذلك قانون الخبرة رقم 96 لسنة 1952 بشأن تنظيم الخبرة أمام جهات القضاء.
ومن الناحية الموضوعية للتقاضي، فإنه كثيرا ما يتم إحالة القضايا إلى هيئة المفوضين برغم أنها قد تم رفعها بشكل عاجل للفصل في أمر قضائي له وجهاته للفصل فيه سريعا، كما أن العديد من القضايا تمكث في أروقة هيئة المفوضين لفترات قد تطول أو تزيد عن العام القضائي الكامل، وهو الأمر الذي يصيب العدالة في مقتل بالبطء، وعدم الإنجاز.
والسؤال الذي يطرح نفسة هو: هل المحكمة وهي هيئة قضائية بحاجة فعلية لإعداد تقرير قانوني في أي دعوى؟ أم أن هذه الهيئة بات استخدامها على نحو أكثر في إطالة أمد التقاضي وخصوصا في القضايا ذات البعد السياسي.
وفي حالة الطعن على الأحكام الصادرة من محكمة القضاء الإداري أمام المحكمة الإدارية العليا، فإنه وفقا لنص المادة 45 من قانون مجلس الدولة تُحال إلى هيئة مفوضي المحكمة الإدارية العليا لإعداد الرأي فيه قبل أن تنظرها دائرة فحص الطعون المختصة، وهو الأمر الذي يجعل إجراءات التقاضي تأخذ سنوات حتى يتم الفصل في أي قضية بحكم نهائي بات.
ثانيا – فحص الطعون:
تنظر دائرة فحص الطعون الطعن بعد سماع إيضاحات مفوضي الدولة وذوى الشأن إن رأى رئيس الدائرة وجها لذلك وإذا رأت دائرة فحص الطعون أن الطعن جدير بالعرض على المحكمة الإدارية العليا أما لأن الطعن مرجح القبول أو لأن الفصل في الطعن يقتضي تقرير مبدأ قانوني لم يسبق للمحكمة تقريره أصدرت قرارا بإحالته إليها أما إذا رأت – بإجماع الآراء– أنه غير مقبول شكلا أو باطل أو غير جدير بالعرض على المحكمة حكمت برفضه.
ويكتفى بذكر القرار أو الحكم بمحضر الجلسة، وتبين المحكمة في المحضر بإيجاز وجهة النظر إذا كان الحكم صادرا بالرفض، ولا يجوز الطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن. أما إذا قررت دائرة فحص الطعون إحالة الطعن إلى المحكمة الإدارية العليا يؤشر قلم كتاب المحكمة بذلك على تقرير الطعن ويخطر ذوو الشأن وهيئة مفوضي الدولة بهذا القرار. ولا يترتب على الطعن أمام المحكمة الإدارية العليا وقف تنفيذ الحكم المطعون فيه إلا إذا أمرت دائرة فحص الطعون بغير ذلك. وهذا ما جاء النص عليه في المادة 46 من قانون مجلس الدولة.
وإذا كان من الجائز أن تكون دائرة فحص الطعون هي ذات دائرة الموضوع، التي قد تحال إليها الدعوى، إذا أجازت ذلك دائرة فحص الطعون، فما هي العلة المستوجبة لوجود هذه الدائرة، إن كان من الممكن أن يتم الاستعاضة عنها بزيادة الدوائر التي تنظر الطعون، وذلك من منطلق الحرص على وقت التقاضي، وقصر الإجراءات
لجان التوفيق في المنازعات:
نصت المادة الأولى من قانون التوفيق في بعض المنازعات، والتي جاء استحداثها بموجب القانون رقم 7 لسنة 2000 على أنه “ينشأ في كل وزارة أو محافظة أو هيئة عامة وغيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة لجنة أو أكثر للتوفيق في المنازعات المدنية والتجارية والإدارية التي تنشأ بين هذه الجهات وبين العاملين بها أو بينها وبين الأفراد و الأشخاص الاعتبارية الخاصة “.
وعلى ذلك فإنه يشترط فقط لوجوب عرض المنازعة على لجان التوفيق قبل اللجوء للقضاء أن يكون شخص معنوي عام طرفا في هذه المنازعة، ويعنى ذلك أنه يشترط أن يكون أحد أطراف هذه المنازعة إما أحد أشخاص السلطة المركزية كالوزارات أو أحد أشخاص السلطة اللامركزية سواء الأشخاص المرفقية العامة (الهيئات العامة) أو الإقليمية (كالمحافظات)، أو أحد أشخاص القانون العام الأخرى كالنقابات المهنية.
ويستوى في هذه الشأن أن تكون المنازعة مدنية أو تجارية أو إدارية، ومن ثم لا أهمية للتعرف على معيار المنازعة الإدارية في هذا الشأن (ومع هذا فلا يمنع ذلك من الإشارة إلى نص المادة العاشرة من قانون مجلس الدولة التي تحدد المنازعات الإدارية التي يختص بها مجلس الدولة )، إذ يكفى أن يكون طرف المنازعة شخصا من أشخاص القانون العام .
طبيعة ما يصدر عن لجان التوفيق وحجيته:
وفقا لما نصت عليه المادة التاسعة من القانون، فإن ما يصدر عن لجان التوفيق في طلبات التوفيق مجرد توصيات تلتزم بإصدارها اللجنة خلال ميعاد لا يتجاوز ستين يوما من تاريخ تقديم طلب التوفيق إليها، وتحديد هذه المدة الغرض منه الحرص على حقوق المتقاضين وتحقيقا للتوازن بين مطالبتهم باللجوء للجان التوفيق أولا لتسوية المنازعة وحقهم في اللجوء للقضاء دون تأخير من ناحية أخرى .
ويتوقف قوة ما يصدر من لجان التوفيق على قبول أطراف الخصومة له حيث تعرض التوصية على السلطة المختصة في الجهة الإدارية والطرف الآخر في المنازعة خلال مدة معينة فإذا اعتمدتها السلطة المختصة وقبلها الطرف الآخر خلال المدة المقررة تقوم اللجنة بإثبات ما تم الاتفاق عليه في محضر يوقع عليه الطرفان ويلحق بمحضر الجلسة وتكون له قوة السند التنفيذي ويبلغ للسلطة المختصة لتنفيذه (م 9 من القانون) .
ويترتب على تقديم طلب التوفيق إلى اللجنة المختصة وقف المدد المقررة قانونا لسقوط وتقادم الحقوق أو لرفع الدعوى بها وذلك حتى انقضاء المواعيد التي ينفتح بها باب اللجوء إلى القضاء (المادة10 فقرة 2) .
ووفقا لنص المادة 11 من قانون التوفيق فإن اللجوء إلى المحاكم المختصة بشأن المنازعات التي تخضع لأحكام هذا القانون قبل عرضها على لجان التوفيق يترتب عليه عدم قبول الدعوى، ومن ثم فحتى تقبل الدعوى أمام القضاء المختص بالنسبة لهذه المنازعات يشترط:
أولا: أن يتم تقديم طلب التوفيق إلى اللجنة المختصة بنظر النزاع فإذا قدم الطلب إلى لجنة غير مختصة أمكن الدفع أمام القضاء بعدم اختصاصه بنظر النزاع لعدم عرض النزاع على لجنة التوفيق المختصة .
ثانيا: أن ينقضي الميعاد المقرر لإصدار التوصية أو الميعاد المقرر لعرضها دون قبولها من أحد أطراف النزاع، ويكون اللجوء إلى هذه اللجان بغير رسوم (م 4 من القانون) .
ومن الناحية الواقعية فإن عمل هذه اللجان ليس له أي جدوى حقيقية أو عملية، وهي لا تمثل سوى خطوة روتينية لا مفر منها قبل رفع الدعاوى أمام الجهات القضائية المختلفة، وذلك لكون ما يصدر من هذه اللجان ليس له أي صدى في الحياة الواقعية، حيث لا تقوم أي جهة مخاطبة بقرارات هذه اللجان بتنفيذ ما جاء فيه، وهو ما يمثل بشكل رئيسي إهدارا لموارد الدولة فيما لا طائل منه ولا منفعة.
وإجمالا نؤكد على كون سرعة الفصل في القضايا هو أهم دلائل ومؤشرات تحقيق العدالة، وهو ما يعني بمفهوم المخالفة أن البطء في أداء الأجهزة القضائية، وإطالة أمد التقاضي هو مؤشر خطير على تفويت الفرص أمام المتقاضين، كما أنه يمثل مخالفة صريحة لنص المادة 97 من الدستور المصري الأخير بقولها “وتعمل على سرعة الفصل في القضايا”.