تجديد الخطاب الديني، عبارة تتكرر وينشط الحديث عنها ثم يتوارى لبعض الوقت قبل أن يعاود الظهور مجددا. كما هو شأن عبارات أخرى من هذا النوع، يرتبط الاهتمام بها بتصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي، فكلما أدلى بتصريح تحدث فيه عن اهتمامه بتجديد الخطاب الديني سارع الجميع إلى إعلان تأييدهم لهذا المسعى، وتحدث البعض عن تاريخهم الطويل من المطالبة بتحقيق هذا الهدف، بينما أصدرت جهات رسمية مختلفة بيانات تؤكد التزامها بتوجيهات الرئيس للمشاركة في العمل على هذا المشروع. ما يغيب في كل مرة هو أي مناقشة جادة للعبارة نفسها وللهدف أو المشروع الذي تشير إليه. لا يبدو أن أحدًا معني بطرح الأسئلة التي ينبغي أن تثيرها العبارة في حد ذاتها، وكأن معناها معروف مسبقا ومتفق عليه، ولا يبدو أن ملامح الهدف أو المشروع الذي تشير إليه يحتاج إلى بحث أو تدقيق، وكأن الجميع يعرفون هذه الملامح بالفعل، وكذلك ما يتطلبه تحقيقها على أرض الواقع.
ثمة افتراض رئيسي ضمني في عبارة “تجديد الخطاب الديني”. هذا الافتراض هو أن ثمة خطاب ديني واحد، هذا الخطاب أصبح قديما، بمعنى أنه لم يعد ملائما لمتطلبات الواقع الحالي، ومن هذه المتطلبات القدرة على مواجهة الأفكار المتطرفة، وبصفة خاصة تلك المعادية للدولة المصرية بشكلها الحالي. ينبني هذا الافتراض على آخر هو أن تلك الأفكار المتطرفة لا تنتمي إلى الخطاب الديني، الذي يفترض أنه وحيد، وبالتالي صحيح، ومن ثم فكل ما هو خاطئ لا ينتمي إليه. ويمكننا من ذلك أن نستنتج أن عملية التجديد المطلوبة لا تنطوي بأي شكل على تعديل الخطاب الديني، بقدر ما تتعلق بتقديمه بالصورة التي تخدم الهدف المتمثل في تحصين الشباب بصفة خاصة ضد الانخداع بالأفكار المتطرفة الخاطئة، التي قد تقودهم إلى معاداة الدولة والخروج عليها والعمل على إسقاطها.
المشكلة في افتراض أحادية الخطاب الديني وضرورة أن يعكس الحقيقة المطلقة لصحيح الدين، أنه نفس الافتراض الذي يستخدمه أصحاب ما يسمى بالأفكار المتطرفة، وعلى أساسه يضعون الدولة بشكلها الحالي في تناقض مطلق مع صحيح الدين مما يجعل الخروج عليها فريضة دينية. النتيجة أنه في ظل هذا الافتراض تدور أي معركة تخوضها الدولة في مواجهة الأفكار المتطرفة حصرا حول صوابية الخطاب الديني الرسمي الذي تقدمه. والمشكلة في ذلك أن صوابية هذا الخطاب لا يكفي لإثباتها بأي حال أن مصدره هو المؤسسات الدينية الرسمية التابعة للدولة. في الواقع رسمية هذه المؤسسات وتبعيتها للدولة في حد ذاتهما ينتقصان بشدة من إمكان تصديق الكثيرين لصوابية الخطاب الصادر عنها، وبالتالي فمعركة صوابية الخطاب الديني، إما محكوم عليها بأن تكون خاسرة أو غير محسومة على أفضل تقدير.
لحسن الحظ، ليس افتراض أحادية الخطاب الديني أو صوابيته المطلقة ساريا في الواقع العملي، حتى وإن كان أغلب الناس يعتقدون في صحته. الواقع أكثر عشوائية وتعددية من أن يسود فيه خطاب ديني واحد متجانس ومتماسك بحيث يفرض على الجميع التصديق الكامل فيه. إضافة إلى ذلك، ليس أي خطاب، مهما كانت نسبة انتشاره في أي مجتمع، كافيا في حد ذاته لتشكيل كافة سلوكيات وأفعال كل من يعتقدون فيه. لا يعني ذلك على الإطلاق أن انتشار الأفكار الأكثر تطرفا لا يمثل خطرا ينبغي مواجهته، فالتجربة التي عشناها محليا وعاشها العالم كله في مواجهة الإرهاب الديني تثبت عكس ذلك. ولكن الحقيقة أن الصراع حول صوابية الخطاب الديني، الذي لم يحسم في أي يوم سابق، ولا سبيل إلى حسمه في أي يوم قادم، لم يكن له بذاته دور يذكر في نشأة أو تطور ظاهرة الإرهاب الديني، ومن ثم فلا يمكن توقع أن يكون له دور حقيقي في مواجهتها.
المنتج الديني والمنتج السياسي
استخدمت في مقال سابق نموذج السوق للحديث عن عملية تسويق المنتج السياسي. والواقع أن المنتج السياسي هو فقط أحد أنواع المنتجات الثقافية، والتي يمكن أن نعد من بينها أيضا المنتج الديني. في جميع الحالات يتم تقديم المنتجات الثقافية لجمهورها من خلال خطابات مختلفة. ولأن أي خطاب هو عملية تواصل وتفاعل بشرية تخضع لسياق معقد فليس ثمة خطاب ديني أو سياسي أو علمي خالص، بمعنى أن أي خطاب في الواقع العملي يشير دائما إلى خليط من المنتجات الثقافية. ومن ثم فعندما نتحدث عن خطاب ديني أو خطاب سياسي، فما نعنيه أن محتوى الخطاب أو سياقه يؤديان إلى تلقيه على أنه ديني أو سياسي. هذا بالطبع أبعد ما يكون عن تصور الخطاب كما تعكسه عبارة “تجديد الخطاب الديني”. والحقيقة أن تصور الخطاب الديني كما تقدمه هذه العبارة، أي أنه أحادي، متجانس، وصائب، هو في حد ذاته منتج ثقافي، أما العبارة نفسها، فهي جزء من خطاب يسوق لهذا التصور، إلى جانب تصورات أخرى، هي بدورها منتجات ثقافية، سياسية أو دينية.
إذا كان المنتج السياسي هو صورة للعالم الاجتماعي فالمنتج الديني هو صورة لما وراء أو فوق هذا العالم. في صورة العالم الاجتماعي لمنتج سياسي ما، ثمة غالبا مكان للدين، ومكان للدولة، وللعلاقة بينهما. وفي الصورة التي يقدمها المنتج الديني ثمة مكان للعالم الاجتماعي في مجمله، وقد تكون الدولة أو السلطة الزمنية متضمنة في هذا العالم الاجتماعي، أو يكون لها مكان مستقل خارج العالم الاجتماعي وعلى علاقة به، وبالسلطة الإلهية. في التراث الغربي يمكن القول أنه لم يكن ثمة وجود لمنتج سياسي خالص قبل نشاة الدولة الحديثة. وإحدى صور تتبع نشأة هذه الدولة منذ بداياتها يمكن ملاحظتها في تطور الصورة التي قدمها منتج ديني، وكانت عناصرها الأساسية هي السلطة الإلهية والكنسية والسلطة الزمنية والرعية. وفي نموذجها الأقرب إلى نشأة الدولة الحديثة وهو نموذج الملكية المطلقة التي تستمد شرعيتها من الحق الإلهي، كان الملك، ممثل السلطة الزمنية يستمد هذه السلطة من السلطة الإلهية مباشرة دون المرور بالكنيسة، وخطا هذا النموذج خطوة إضافية عندما تحول الملك إلى رأس الكنيسة ذاتها، في حالة هنري الثامن كمثال واضح وصريح لتلك العلاقة. هذا النموذج لم يكن مستقرا ولم يدم طويلا ولكنه كان مرحلة انتقالية مهدت للتحول الذي اكتملت به نشأة الدولة الحديثة، من خلال الثورات البرجوازية والذي تمثل في قطع رأس الملك/السلطة الزمنية، وبالتالي بإسقاط الملكية المطلقة انقطعت علاقة السلطة الإلهية بالعالم الاجتماعي.
الدولة الحديثة هي في حد ذاتها أحد أنواع المنتج السياسي، وهي علمانية بالضرورة، ليس لأنها تفصل بين الدين والدولة بالمعنى الشائع، ولكن لأنها تتضمن الدين داخل صورة العالم الاجتماعي الذي تهيمن عليه، ومن ثم فمهما كبر حجم الدين وزاد ثقله في صورة العالم الاجتماعي للدولة الحديثة تظل هيمنتها عليه إحدى ضرورات وجودها. وحتى يتحقق لها ذلك لابد أن يظل أي منتج ديني، شأنا شخصيا لمواطنيها، ولا ينبغي أن يكون ثمة مكان للدولة في الصورة التي يقدمها هذا المنتج، وإلا فإن من يعتنقونه سيؤمنون طيلة الوقت بضرورة هيمنة الدين على الدولة وليس العكس. في الواقع عندما تحاول الدولة الهيمنة على المجتمع باستخدام الدين، بدلا من الهيمنة على الدين نفسه كأحد عناصر العالم الاجتماعي، فإنها تعود خطوة إلى الوراء، أي إلى نموذج الحكم بالحق الإلهي وتوسط السلطة الزمنية بين السلطة الإلهية والمجتمع، وهي تخاطر في هذه الحالة باستقرارها.
تسويق الخطاب الديني
شروط تسويق أي منتج ديني لا تختلف كثيرا عن شروط تسويق منتج سياسي. في النهاية، ليس ثمة وزن للصوابية المطلقة للمنتج الديني، فالاعتقاد في هذه الصوابية هو في حد ذاته جزء من المنتج المراد تسويقه. في نهاية المطاف يعتمد رواج أي منتج ديني على الصورة التي يقدمها والمكان الذي يرى كل مستهلك محتمل نفسه فيه، وبالتالي القيمة الرمزية التي يمنحها له هذا المكان. ويمكننا أن نرى ذلك بوضوح عندما نراقب عمليات التسويق الفاشلة لمنتج ديني. في الآونة الأخيرة تكررت الحالات التي تعرضت فيها مؤسسة دار الإفتاء لهجوم عدد كبير من متابعي صفحتها على موقع التواصل فيسبوك عندما قدمت فتوى يمكن تصنيفها على أنها معتدلة، خاصة إذا ما تعرضت هذه الفتوى لموقع المرأة إزاء الرجل داخل مؤسسة الزواج. لا يمكننا أن نرد مثل هذا الهجوم لمدى صوابية الفتوى نفسها، لأنها عادة تكون مدعومة بأدلتها النصوصية، كما أنها تصدر عن متخصصين تفوق معرفتهم الدينية بالضرورة معرفة الغالبية الساحقة من المهاجمين، ولذا فهؤلاء في الواقع يرفضون الفتوى لأنها تقدم لهم منتجا دينيا يعتقدون أنه يبخس القيمة الرمزية لمكانهم كرجال (أو كنساء أيضا) في مؤسسة الزواج.
يرتبط تسويق أي منتج ثقافي بصفة عامة بعائد القيمة الرمزية التي يشعر المستهلك بأن هذا المنتج يمنحه له. وفي مجتمع يعاني من انسداد مسارات الصعود الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، يتعلق الأفراد أكثر فأكثر بالقيمة الرمزية التي تمنحها لها هوياتهم الاجتماعية المكتسبة بالميلاد، مثل النوع أو اللون أو الديانة، أو التي يمكن اكتسابها بفعل مجاني، مثل تشجيع أحد الأندية الرياضية. الاستثمار في هذه الهويات وفي القيمة الرمزية التي تمنحها لأصحابها في مقابل الهويات البديلة يصبح دائما هو الهم الأكبر للغالبية المؤثرة من أفراد مثل هذا المجتمع، فتتضخم مع الوقت أوزان هذه الهويات، كما تروج سوق السلع الثقافية التي تضيف إلى هذه الأوزان. وبالنسبة للمنتج الديني، فكلما كان أكثر تطرفا كانت القيمة الرمزية التي يمنحها للهوية الدينية التي يتعلق بها أكبر. وهو إضافة إلى ذلك سيكون أكثر رواجا إذا منح قيمة رمزية أعلى للمواقع والأدوار التقليدية للرجال والنساء، ومرة أخرى يتعلق ذلك بالمنتج الديني الأكثر محافظة أو تقليدية. بعبارة أخرى لا يتعلق ميل أفراد مجتمع ما إلى الاستجابة لخطاب يروج لمنتج ديني ما بقدر صوابيته، ولكن بقدر العائد المتخيل لسيادته في المجتمع على مكانتهم فيه. ويعتمد تقييم الأفراد لهذا العائد على المسارات المتاحة أمامهم لتعظيم القيمة الرمزية لموقعهم في المجتمع.
ما يعنيه ما سبق هو أن أي صراع حول صوابية الخطاب الديني، وهو الصراع الذي تخوضه الدولة عند اختيارها الاستثمار في مشروع مثل تجديد الخطاب الديني، هو صراع عبثي، وربما ضار أيضا. فهو عبثي لأنه لا يحقق الهدف المرجو منه ويبدد الموارد المستثمرة فيه دون عائد. وهو عرضة لأن يكون ضارا لأنه يستثمر في تصور ملتبس لعلاقة الدولة بالدين. في المقابل لا يمكن وقف الميل السائد نحو الاستجابة للخطاب الديني الأكثر تطرفا دون معالجة العوامل المنتجة له. بمعنى أوضح، دون التعامل مع انسداد المسارات المختلفة لتعظيم القيمة الرمزية لمواقع الأفراد بالمجتمع، بخلاف تلك المعتمدة على الهوية، أي المسارات التي تسمح بتطلع الأفراد إلى تعظيم رؤوس أموالهم الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. ليس ثمة حل سحري يمكن من خلاله “تجفيف منابع الإرهاب” بمجرد العمل على نشر خطاب بعينه، فأي خطاب لا يوجد معلقا في الفراغ دون صلة بالواقع الاجتماعي الذي ينتجه ويسمح بانتشاره. وكلما سارعنا في إدراك هذه الحقيقة والعمل على أساسها، كلما أمكننا أن نوفر على أنفسنا إضاعة الوقت والجهد فيما لا يفيد.