عن بهائي الميرغني في ذكرى وفاته
من النادر في هذه الدنيا أن تجد شخصًا يجمع كثيرين عليه، وعلى صفاته، وما قدمه من عمل وعطاء طوال مسيرته بالحياة بتفان وإخلاص وصدق غير مسبوقين.
هؤلاء الأشخاص أصبحوا عملة صعبة في هذا الزمان وهذه الأيام، وعليك إذا وجدت مثلهم أن تمسك فيهم بأيدك وسنانك، فأنت أمام كنز نفيس أغلى قيمة من الذهب والياقوت والمرجان.
ولعلي أظن أن أبي بهائي الميرغني أحد ضحايا فاجعة حريق مسرح قصر ثقافة بني سويف الأليمة يوم 5 سبتمبر عام 2005 والتي نحن في ذكراها الـ16، هو واحد من تلك الفئة النادرة من البشر التي قلما يجود بها الزمان.
صحيح أنه أبي، وشهادتي مجروحة فيه، ومن منا لا يحب أباه ويراه أعظم إنسان على وجه الأرض، ولكنني هنا أكتب عن الأستاذ والمعلم والفنان والفيلسوف بهائي الميرغني وفقًا لمسيرته الكبيرة وما قدمه من عطاء وإرث فني ورسالة حملها بكل شجاعة، وثقافة أصر على إيصالها للبسطاء والغلابة من أبناء هذا الشعب المكافح، دونما الانسياق وراء هدف تجاري هدفه فقط شباك التذاكر وفئة معينة من الجماهير.
اختار الميرغني الحل الأصعب بتوصيل الثقافة والفن والعروض المسرحية المتنوعة لكافة قرى ونجوع المحروسة من شمالها لجنوبها لشرقها وغربها، حيث قدم 25 عملاً مسرحيًا مميزًا طوال مسيرته من إخراجه وإعداده لمسارح الثقافة الجماهيرية على مستوى مصر بأكملها، بجانب عمله كمدير لفرق الأقاليم بالإدارة العامة لهيئة قصور الثقافة وكذلك عمله كمخرج محترف وناقد مسرحي، قبل أن يشاء القدر أن تنتهي مسيرته الفنية والمهنية ورسالته الخاصة بالمسرح قبل أن يكمل الخمسين من عمره، بحادث مسرح بني سويف الأليم الذي مثل مزجا غريبا ومؤلما بين بدايته وحياته فيه ونهايته به.
رحلة الميرغني
ولد أبي بهائي الميرغني في محافظة المنيا بتاريخ 19-12-1955 ثم انتقل مع أسرته للعيش بالقاهرة أواخر ستينيات القرن الماضي، بعد وفاة والده الشيخ محمد الميرغني أحد أعمدة الأزهر الشريف وأكبر شيوخ المنيا، ثم تخرج في كلية الآداب جامعة عين شمس قسم الفلسفة عام 1979، وكان قد بدأ احتكاكه المباشر بالمسرح في سن السادسة بالغناء والتمثيل مع أشقائه على المسرح، وصار عضوًا مؤسسًا لفرقة المنيا المسرحية عام 1967.
وفي سن السادسة عشر انضم لصفوف الحركة الطلابية الوطنية طوال السبعينيات، وارتبط بمسرح الثقافة الجماهيرية مؤسسا فرقة شبرا الخيمة المسرحية في أول تجربة وظيفية له عام 1982، وقدم أول أعماله مخرجًا ومؤلفًا لباكورة أعمال مسرح أطفال شبرا الخيمة في مسرحية “الغريب وعم حمزة” عام 1984.
كما قام بتنفيذ فرقة للإبداع الجماعي في قرية شما أشمون بالمنوفية، وقدم عرض “الفأس والشمروخ” في ساحة مركز الشباب، الذي امتلأ بآلاف المتفرجين كان منهم العديد من النقاد والمهتمين بالتجارب المسرحية الجديدة في سبتمبر 1986.
وقام بتأسيس فرقة الطيف والخيال وهي من أوائل الفرق الحرة التي بدأت نشاطها في أواخر الثمانينات، وبحثت الفرقة في الأشكال المسرحية الشعبية وقدمت أولى تجاربها بمسرحية سهرة مع خيال الظل والأراجوز التي قدمت على مسرح الطليعة عام 1988، وأعيد عرضها في سياق مهرجان القاهرة التجريبي الأول.
مسرحيات الميرغني
ثم توالت مسرحيات الميرغني وقدم سكة السرايا الصفرا عام 1989 وقد نالت التجربة التفاتًا نقديًا كبيرًا، وأعيد تقديمها في مهرجان القاهرة التجريبي الثاني، ثم جاءت رائعة المؤلف الفرنسي “ايف جامياك” دون كيشوت، التي أخرجها بهائي ببراعة على مسرح السامر، وواصل أعماله الرائعة كمخرج في الثقافة الجماهيرية بكل قرى ونجوع مصر، بعرض الفرافير ليوسف إدريس وحكايه الزعيم حبظلم لفاروق خورشيد.
وأخرج الميرغني لعدد من المؤلفين الكبار أمثال ألفريد فرج عن رواية جواز على ورقة طلاق عام 1999، وإيزيس للمبدع توفيق الحكيم في نفس العام وحرب البسوس لشوقي عبد الحكيم، وصعلوك في وادي الملوك لفرقة المنيا للراحل الرائع صالح سعد، وغيرها من العروض المميزة التي شاركت جميعها في المهرجانات الختامية لفرق الأقاليم.
ونال جائزة أحسن مخرج في عدة عروض أهمها، اللعب في الممنوع إعداد محمد الشربيني والملك جلجل لفؤاد نور وملحمة السراب لسعد الله ونوس، وحرب البسوس لشوقي عبد الحكيم والفرافير والسيرة الهلالية لفرقة بني مزار، وعروسة القمح لفرقة إهناسيا، ونال عنهم جميعا جائزة أحسن مخرج.
وقام بإضافة مهرجان مسرحي جديد لم يكن معروفًا آنذاك، وهو مهرجان التجارب الخاصة ومسرح المكان المفتوح الذي يبعد فيه عن المسارح المغلقة للعرض في الحدائق والأماكن المفتوحة، ولاقى هذا المهرجان المفتوح إقبالًا كبيرًا من الجماهير التي رفعت الميرغني على الاعناق احتفالا به وبعروضه الرائعة. وأصبحت فكرته الآن تلك منتشرة في كل ربوع مصر حتى المهرجانات الرسمية التابعة لوزارة الثقافة، فيما كان يكتب مقالات دورية تتابع أهم ما يعرض على مسارح القاهرة في مجلة الصدى الإماراتية وعدة مجلات وإصدارات أخرى مهتمة بالمسرح وأموره.
أبي كان فيلسوفًا منذ نشأته ثم دراسته، حكيمًا عاقلاً الجميع يأخذ رأيه، مثقفًا لأقصى درجة، ودودًا لأبعد مدى وخفيف الظل بشهادة كل من عرفه، بشوشًا ولا يتأخر عن مساعدة أحد مهما كان، وجوده كان يخلق أجواءً دافئة بالمنزل وبجلسات أصدقائه وعمله، كان الفن الحقيقي الراقي شريان حياته وكان بسيطًا لأقصى درجة يمكن أن يتخيلها أحد وزاهدًا في الدنيا.
لقد عاش كما أراد ورحل بعدما استنفذت طاقته كما تمنى وكتب في خواطره، بل الأغرب أنه توقع نهايته عندما كتب بخط يده قبل سنوات ضمن هذه الخواطر “وأحيا في الحريق”، وداعًا يا أبي لن ننساك حتى نلقاك .. وداعًا يا فارس مسرح وثقافة الغلابة.