في المعجم تعني كلمة الإسراء: السير ليلا. وفي الميثولوجيا الإسلامية فإن رحلة الإسراء كانت واحدة من معجزات النبي محمد، حين أسرى من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليلا، وهو انتقال عجيب بالقياس إلى مألوف البشر إذ انتقل بين المسجدين في سرعة خيالية.
لسنا هنا بصدد عقد مقارنة غير جائزة، وإنما بصدد استشفاف واستخلاص ما وراء الإسراء المعتمل بإيمان ويقين داخلي في عالم لم يعد به أنبياء ولكن مازالت به معجزات. هذه رحلة إسراء 6 أسرى ليلا من أرض بها المسجد الأقصى.
مع الصباح الباكر ليوم الإثنين طالعتنا الأنباء، بمزيج من الصدمة والدهشة، عن هروب 6 أسرى فلسطينيين من سجن جلبوع بمنقطة بيسان شمالي الأراضي المحتلة. لم يكن سبب الاندهاش أن سجناءً نجحوا في الهرب بل أنهم هربوا من سجن صُمم خصيصا كي يتغلب على محاولة الهرب.
نعم، ربما طالعت قصة مشابهة في أحد الأفلام أو المسلسلات ولكن هذه قصة واقعية تفوق خيال المؤلف، فحين سأل غسان كنفاني قبل عقود: لماذا لم يطرقوا جدران الخزان؟! أتاه الرد متأخرا: لقد حفرنا جدران السجن يا غسان.
سجن جلبوع
في عام 2004 ومع تزايد أعداد الأسرى الفلسطينيين بعد الانتفاضة الثانية، أنشئت إسرائيل سجن جلبوع بمنطقة مرج ابن عامر كامتداد لسجن “شطة”، وقد سُمي بـ”شطة ب” قبل أن يتحول لسجن مستقل باسمه الحالي، وهو واحد من 5 سجون إسرائيلية مشددة الحراسة.
وقد استعانت إدارة السجون الإسرائيلية بشركة أيرلندية لبناء السجن على شكل حصن منيع، وفقا لفلسفة “بانوبتيكون” التي تعني مراقبة الكل، وهو نوع من السجون صممه الفيلسوف الإنجليزي جيريمي بنثام عام 1785، ويقوم على مفهوم السماح لمراقب واحد بمراقبة جميع السجناء دون أن يكونوا قادرين على معرفة ما إذا كانوا مراقبين أم لا. وهنا لاحظ كيف تحول ضم الفاعل إلى نصب المفعول به.
“لقد استخلصنا العبر من محاولات الهرب عبر الأنفاق من سجني مجدو وشطة.. لن يهرب أحد من جلبوع” هكذا ظنت مصلحة السجون الإسرائيلية عند افتتاح السجن.
وكي تتضح صعوبة عملية الهرب أكثر، فإن السجن مر بعدة مراحل من تطوير المراقبة والحراسة عبر السنين الأخيرة. يقع جلبوع على مساحة 23 ألف متر مربع منهم 12 ألف متر من البناء، ويحيطه سور بارتفاع 7 أمتار ثم سهل يكشف كل تلك المساحة. ويستوعب ما يقرب من 600 أسير ممن تعتبرهم إسرائيلي “شديدي الخطورة” وغالبيتهم من أصحاب الأحكام الطويلة.
بنيت أقسامه -5 أقسام كل قسم به 15 غرفة، وكل غرفة تتسع لثمانية أسرى- على شكل خزائن منفصلة كل قسم يتكون من عدة غرف للحيلولة دون هروب الأسرى، وأجنحة عزل كل جناح فيها مربوط بممر اسطواني بالمبنى المركزي، ولذلك كان الاسم الشائع للسجن هو “الخزنة”.
ببساطة، “الخزنة” هو تفاخر واضح بالهندسة الأمنية وإجراءات الرقابة الصارمة التي منها منظومة متطورة لحظر المكالمات الخلوية تُستعمل لمنع اتصال الأسرى عبر الهواتف المهربة، وكاميرات مراقبة متطورة. وفي عام 2014 عُززت إجراءات الأمن والمراقبة بعد محاولة هروب فاشلة لأسرى عبر نفق من داخل زنزانتهم.
تقول مؤسسة الضمير الفلسطينية: “يعد السجن ذا طبيعة أمنية مشددة جدا، ويوصف بأنه السجن الأشد حراسة، ويحتجز الاحتلال فيه أسرى فلسطينيين يتهمهم الاحتلال بالمسؤولية عن تنفيذ عمليات داخل أراضي فلسطين المحتلة عام 1948”.
وفي العام الأول لافتتاح السجن، خرجت شهادات عن انتهاكات جسيمة أوقعها الاحتلال على الأسرى، منها محاولة اغتصاب جرت من قبل السجانين لعدد من الأسرى في أحد الأقسام، وبعد رفض المعتقلين ومقاومتهم تم عزلهم في زنازين انفرادية.
وأوضح أسرى التقاهم محامي “نادي الأسير” حينها أن السجانين أجروا التفتيش العاري المذل للمعتقلين وكانوا يُدخلون أسيرين أو ثلاثة إلى غرفة وهم عراة لبعض الوقت. وأشار الأسرى إلى سياسة فرض غرامات مالية عليهم لأتفه الأسباب، وفي مواقيت الصلاة يجبر بعض المعتقلين على ترك الصلاة والحضور من أجل اتمام العدد، بالإضافة إلى الوضع الصحي المتردي وإجراءات الزيارة المعقدة والمهينة.
تُبرز لنا الشهادات الفلسطينية مزيدا من الصورة الذهنية السيئة عن ذاك السجن، تنهمر التفاصيل فيتضح معها أكثر كيف أن عملية الإسراء تلك إعجازية بحق.
تقول سارة: “اللي بيشوف سجونهم صعب صعب يصدق هيك خبر. حراسة أمنية شرسة ومراقبة إلكترونية بتخليك ولا مرة تتخيل إنه نملة تقدر تتجاوز سور السجن الضخم. لما كنا نزور بابا كان العجز أكتر شي يتملكني، شعور بيقنعك إنه حتى حدوث معجزة في هذا المكان صعب جدّا. لكنهم والله أقوى منّا جميعّا”. وتكشف مي ثأرا شخصيا: “الإبرة ما كانت تمرق.. يفتشون أهالي الأسرى عُراة، ويتركونهم بالساعات ينتظرون خارجاً تحت الشمس والمطر”.
الأسرى الستة.. محكومون بالأمل
جميعهم من جنين، وغالبيتهم من أصحاب الأحكام الطويلة، وثلاثة منهم تصنفهم إدارة السجن “سجاف”، وهو اختصار من ثلاثة أحرف لثلاث كلمات: “احتمالية عالية للهرب”.
زكريا زبيدي
تحت عنوان “الصياد والتنين: المطاردة في التجربة الفلسطينية من عام 1968-2018” قدم زكريا زبيدي رسالة الماجستير التي طبقها عمليا بعدها بسنوات حين هرب رفقة 5 أسرى آخرين من سجن جلبوع، وهم: مناضل نفيعات، ومحمد قاسم العارضة، ويعقوب محمود قدري، وأيهم كمامجي، ومحمود العارضة، والخمسة تابعون لحركة الجهاد الإسلامي.
وزبيدي هو قائد سابق لكتائب شهداء الأقصى، الجهاز العسكري التابع لحركة فتح خلال الانتفاضة الثانية، والذي نفذ عدة عمليات داخل الأراضي المحتلة. ولد زبيدي في مخيم جنين وتوفيت أمه وشقيقته خلال اجتياح المخيم عام 2002. وقد اعتقل عام 2019 بتهمة عمليات إطلاق نار والضلوع بعمليات أخرى. وخلال جلسة محاكمته الأخيرة وبينما كانت الابتسامة تعلو وجهه أخبر القاضي “حطلع غصب عنك”.
تحمل شخصية زبيدي الكثير من الجوانب، فإلى جانب بحثه الأكاديمي الذي طبقه عمليا، يبدو في عدة مقاطع فيديو كمقاتل شرس وشخصية قيادية. تُظهر إحدى المقاطع كيف يتوعد إسرائيل بحماسة بالغة “الحرب بدأت، أعدكم لن ينعموا بهدنة أبدا.. لقد قلنا إن العملية الفدائية ستكون في وسط تل أبيب. لا شيء لدي لأخسره”.
وعلى النقيض تماما من صورة المقاتل الشرس، يطالعنا زبيدي بابتسامة هادئة بينما يتحدث مع بعض الأطفال في “مسرح الحرية” بالمخيم، حيث كان واحدا من مؤسسيه كمكان احترافي وحيد للمسرح والوسائط المتعددة في شمال الضفة الغربية، وفق تعريف المسرح على صفحته الرسمية.
تنقل قناة “كان” الإسرائيلية عن مصدر أمني قوله إن زبيدي قدم بالأمس طلبا للانتقال إلى زنزانة أخرى وتمت الموافقة عليه. كانت تلك الزنزانة هي التي هرب منها رفقة الأسرى الخمسة.
“لا يمكنك أن تصنعي فيلما عني لأن لا أحد سيصدقه” هكذا قال زكريا يوما، والآن ربما نتفق معه أن قصته عصية على التصديق.
محمود العارضة
أما “الأسير الأكثر خطرا” والذي كان مهندس تلك العملية فهو محمود العارضة مسؤول الجهاد الإسلامي في السجن والذي حاول عدة مرات الهروب من السجن وسبق أن حفر نفقا ولكنه ضُبط في مراحله الأخيرة.
ولد العارضة في بلدة عرابة بجنين، وكان اعتقاله الأول عام 1992، وقضى بالسجن 4 سنوات، ثم أعيد اعتقاله عام 1996 بتهمة الانتماء لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، والمشاركة في عمليات مقاومة قُتل فيها عدد من الصهاينة ليُحكم عليه بالسجن المؤبد مدى الحياة، أمضى منها 26 عاما قبل انتزاع حريته.
وقد تعرض خلال فترة اعتقاله للتضييق والعزل، ففي عام 2011 عُزل ستة أشهر متواصلة، ثم في عام 2014 وعلى خلفية محاولته الهرب بحفر نفق في سجن شطة، أمضى أكثر من عام في العزل.
“ليت كل الشباب مثل محمود. محمود مليح وطول عمري رافعة راسي فيه، واللي عمله رفع راس كل الناس” تقول والدة الأسير الذي انتزع حريته.
(قائمة الأسرى الستة)
كواليس وردود أفعال
قالت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية إن مسؤولو السجن يعتقدون أن الستة فروا عبر نفق يصل خارج جدران السجن تمكنوا من حفره خلال الأشهر القليلة الماضية من أسفل مرحاض زنزانتهم. وأفاد جهاز الأمن العام (الشاباك) أن السجناء نسقوا مع أشخاص خارج السجن باستخدام هاتف محمول مهرب، وكانت لديهم سيارة هروب في انتظارهم حين أتموا عمليتهم في الواحدة والنصف صباحا.
وكشف تسجيل صوتي البلاغ الأول للشرطة الإسرائيلية من قبل أحد المزارعين المحليين الذي تشكك في أحد الأسرى وتواجده في المكان في مثل هذا التوقيت، قبل أن تكتشف إدارة السجن عملية الهروب في الرابعة فجرا خلال عملية العد الصباحي. ونقلت “هآرتس” عن مسؤول في مصلحة السجون الإسرائيلية، وصفه عملية الهروب بأنها “فشل أمني واستخباري كبير”.
عملية الهروب تزامنت مع الاحتفالات الإسرائيلية برأس السنة العبرية، وهو ما سبب حرجا كبيرا للمسؤولين الأمنيين ودفع رئيس الوزراء نفتالي بينيت للتعليق “الفرار من سجن جلبوع أمر خطير ويحتاج إلى معالجة المنظومة كلها”، وذلك خلال تفقده موقع تسوفيم العسكري شمال الضفة قائلا للجنود: “ينبغي أن تكونوا على أهبة الاستعداد واليقظة لاعتقال الأسرى الذين هربوا من سجن جلبوع، أفتخر بكم واعتمد عليكم”.
لاحقا بدأت المزيد من التفاصيل في التكشف، فوسائل الإعلام الإسرائيلية قالت إن الشرطة الإسرائيلية تفحص احتمال ضلوع سجّانين في عملية فرار الأسرى، والتقديرات أن الأسرى تفرّقوا على مجموعات صغيرة بعد خروجهم من السجن. وأن عددا منهم غادر صوب الحدود الأردنية، دون أن يتضح هل نجحوا في الدخول أم لا. بينما اتضح أن طول النفق يتراوح بين 20 إلى 25 مترا، وأن الجندي المسؤول عن برج المراقبة المتواجد بجوار فتحة النفق كان يغط في نومه بتلك الأثناء.
الصدمة الإسرائيلية من الحدث دفعت رامي عفوديا، المسؤول السابق في مصلحة السجون الإسرائيلية للقول: نجاح الأسرى الفلسطينيين من الهرب من سجن جلبوع يشبه فشل إسرائيل في حرب 73″. وللمصادفة، فإن وزير الأمن الداخلي هو عومير بارليف نجل رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق حاييم بارليف، الذي سمي على اسمه خط بارليف في سيناء. الآن، جدارا الأب والابن سقطا.
انهالت المباركات السياسية الفلسطينية من حماس وفتح والجهاد الإسلامي على الأسرى الستة، تهنئهم بانتزاع الحرية، لكن في الوقت نفسه كان نفق الحرية يوجه رسائله إلى الجميع بأن ذاك الأفق المسدود يُمكن أن يُفتح فقط إذا ما تكاتفت الأيادي في الحفر وآمنت بالنور في نهايته.
تحمل تلك القصة الكثير من الدلالات الرمزية، فمن سجن أقيم بسهلٍ كان موضع معركة عين جالوت التاريخية، وفوهة نفق فتحت النيران على أعتى منظومة أمنية، تبقى الرمزية سببا لإحياء الأمل مع كل لحظة يأس.