باتت هيئة قصور الثقافة في السنوات الأخيرة مؤسسة حكومية خاملة، تُعاني من الترهل، بفضل التضخم في عدد الموظفين، واقتصار ميزانيتها على المرتبات ومصروفات الإنشاءات والصيانة. ورغم ذلك لا يمكن الاستغناء عنها كواحدة من القلاع الثقافية الجماهيرية.
هذا الوضع الراكد الذي وصلت إليه الهيئة المعنية بتثقيف الجماهير لا يُمثّل سوى خيبة أمل كبيرة، قياسًا إلى بداية طموحة وعصر مزدهر لا يزال الجميع يُشيد به ويتحسر على أيامه. لكنها انزوت في غيوم كثيفة من الإهمال طيلة عقود، وبدت كأنها في حالة موت دماغي وترقد على أجهزة الإعاشة المتمثلة في منشآت عدة وميزانية ضعيفة. بينما يعترى آخرون الأمل في طرق تُعيد القصور والمواقع الثقافية إلى موضع الحركة مرة أخرى، مع استغلال إمكانيات كبيرة، نجحت المراكز الخاصة في تولي صدارة المشهد دونها.
ثقافة الشعب
في كتابه “الجمهورية الغائبة.. التاريخ الحي للثقافة الجماهيرية”، يرصد الكاتب إيهاب شام، قصة أول مؤسسة ثقافية شعبية في مصر نشأت من أجل تعليم الكبار وتثقيف الشعب. وهي “الجامعة الشعبية” عام 1945، على يد المفكر والكاتب الراحل أحمد أمين، والتي استصدر قرار إنشائها من عبد الرازق السنهوري باشا وزير المعارف العمومية.
هذا المشروع الكبير بدأت هيئته عبر عدد من الشباب العاملين في الإدارة الثقافية بالوزارة، ممن كانوا يستلهمون بعض التجارب الدولية في ميادين تعليم الكبار أو تثقيف المواطنين.
نجحت تجربة “الجامعة الشعبية” سريعًا، وشهدت إقبالا كبيرا في سائر أقاليم القُطر المصري، وصل عدد فروعها خلال السنوات الثلاث التالية إلى خمسة عشر فرعًا. عندها في عام 1948 صدر المرسوم الملكي بتأييد إنشاء الجامعة الشعبية، بجانب تعديل الاسم إلى “مؤسسة الثقافة الشعبية” على أن تعمل من أجل نشر رسالتها في سائر أرجاء المملكة.
ظلت المؤسسة تابعة لوزارة المعارف حتى تم نقلها إلى وزارة الثقافة والإرشاد القومي تحت اسم “جامعة الثقافة الحرة”.
ووفق القانون رقم 692 لسنة 1958، صار على عاتق المؤسسة “نشر الوعي القومي في العاصمة والمحافظات، وتقديم رسالة بالمعنى الواسع”، فقامت بالاتصال بالطبقة العاملة. وفتحت أبوابها للعمال للالتحاق بمختلف شعبها وبرامجها الثقافية، كما وثّقت علاقتها بالنقابات العمالية فقدمت العروض السينمائية، وأدارت الندوات الفنية بإعلان مولد مؤسسة “الثقافة العمالية”.
فأصبحت بعد ذلك جزءًا حيويًا في التنظيم النقابي العمالي، لكن عندما أُلحقت “جامعة الثقافة الحرة” بمصلحة الاستعلامات.
في عام 1963 عانت من أداء مترهل؛ حتى أصدر الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة في 11 نوفمبر 1966 القرار الوزاري رقم 30 بتعديل تسمية “جامعة الثقافة” و”قصور الثقافة” إلى “الإدارة العامة للثقافة الجماهيرية”. وصار مقرها في حيِ راقِ هو جاردن سيتي.
عصر ذهبي
شهدت الثقافة الجماهيرية في عهد الوزير الراحل الدكتور ثروت عكاشة نهضة وتوسعات كبيرة، حيث تقرر في عام 1960 إنشاء جهاز متحرك يجوب القرى والمدن. في مشروع سُمي بـ “القافلة الثقافية”، لأنه لم يكن قد أُنشئ قصر ثقافة في كل مدينة أو وحدة محلية. بعد أن تقرر إنشاء قصور الثقافة في عام 1959؛ وكانت “القافلة الثقافية” عبارة عن عربة تحمل ألوانا مختلفة من المعارف، مثل الكتب، والسينما، ووحدة إذاعة؛ إلى جانب الأخصائيين الذين سيقومون بإمداد الجمهور بالخدمة الثقافية.
وفي العام ذاته بدأ إيفاد مجموعة من العاملين إلى بعثات خارجية، كان أولها إلى يوغسلافيا لتلقي دراسات في المسرح. والسينما، والموسيقى، والفنون التشكيلية، والمكتبات، والتنظيم والإدارة، وقد تم تصنيع المسارح والمكتبات المتنقلة على سيارات من نوع خاص ومجهزة لنقل تلك الخدمة إلى الريف والقرى.
في كتابه “مذكراتي في السياسة والثقافة” تحدث ثروت عكاشة عن الثقافة الجماهيرية. قائلا: “إنه كان يرى أنه لا ازدهار لثقافة قومية إلا إذا عبرت عن فئات المجتمع المختلفة في المدينة والقرية على السواء. فإذا أهملت فئة من الفئات كانت ثقافة ينقصها الشمول، ولا قيام لثقافة جامعة إلا إذا مكّنا الكل من الارتشاف من المناهل الثقافية. لا فرق بين طبقة وطبقة، ولا بين فرد وفرد”.
هكذا رأى عمال المصانع فاصل من باليه وأوبرا “الأمير إيجور” لألكسندر بورودين. وأوبريت “الأرملة الطروب” المعربة لفرانز ليهار، وشاهد أهل أسوان باليه “نافورة بختشي سراي” لأصافييف. بينما استمتع أهالي البحر الأحمر بعروض فرق الرقص الحديثة، وأقيمت الندوات التثقيفية للفلاحين في الريف. ليمزج بين ثقافة العاصمة وثقافة الأقاليم “.
غير أن ديمقراطية الثقافة لا تعني الهبوط بها إلى مستوى العامة فتفقد الثقافة جوهرها. وإنما تعني الأخذ بيد العامة ليرقوا إلى مستواها”، وكان خير ما يمهد لهذا ويؤكده ويوثقه هو إقامة القصور الثقافية. وبث قوافلها في مناحي الريف البعيدة، وكانت هذه هي المرة الأولى التي شهدت فيها مصر القصور الثقافية.
ظلت “الثقافة الجماهيرية” بمسماها ذلك لمدة 23 عامًا، شهدت فيها أجيال عدة من المبدعين. والذين تحول بعضهم فيما بعد إلى قامات في عالم الفن والأدب، ثم تغير اسمها للمرة الأخيرة إلى “الهيئة العامة لقصور الثقافة” وفق القرار الجمهوري رقم 63 لسنة 1989. والذي نص على أنها تهدف إلى المشاركة في رفع المستوى الثقافي، وتوجيه الوعي القومي للجماهير في مجالات السينما، والمسرح، والموسيقى، والفنون الشعبية، والفنون التشكيلية، وخدمات المكتبات في المحافظات.
لكن مع تراكم السنوات بدأ عشرات المشاكل في الهيكل الإداري والبنية التنظيمية في الظهور، ولم يعد العمل في هذا القطاع النشيط المنوط بنشر الثقافة سوى مؤسسة حكومية أخرى تُعاني من الترهل.
مشكلات مالية
تأتي التعقيدات المالية التي تواجهها الهيئة على رأس المشكلات التي ساهمت في الانحدار الكبير. حيث يوجد عدد ضخم من الموظفين الذين تشغل درجاتهم المالية والإدارية ما يزيد عن 600 موقع ثقافي بين قصر وبيت ثقافة وأقسام إدارية من هيئات وقطاعات. بلغ عددهم 16 ألف موظف وفق ميزانية عام 2017/2018، برواتب بلغت 443 مليون و457 ألف جنيه، وهي الميزانية نفسها التي شهدت إنفاق خاص بالسلع والخدمات والأنشطة بلغ 48 مليون جنيه. ومشروعات قصور الثقافة 66 مليون جنيه، بلغ إنفاق الفرق الفنية 12 مليون جنيه، فيما شهد ذلك العام عدم تخصيص ميزانية للمنح. في العام نفسه، لم يوافق مجلس النواب على طلب وزارة الثقافة بزيادة ميزانية الوزارة الخاصة بمشروعات وتطوير قصور الثقافة، حيث تم خفض الميزانية التي طلبتها الوزارة وهي 279 مليون جنيه إلى 66 مليونًا!.
لم يختلف الأمر كثيرًا خلال الفترة الحالية، فحتى العام الماضي يقتطع 92.5% من ميزانية الهيئة للأجور والمرتبات بعد أن أثقلت الهيئة بعمالة كثيفة. ورغم المشروعات العديدة التي أطلقتها وزارة الثقافة في الفترة الأخيرة، مثل “صيف بلدنا” وغيرها، تشارك الهيئة باعتبارها أحد أكبر القطاعات. والمفترض أن تقوم بتوصيل هذه الخدمات الثقافية إلى كافة ربوع البلاد؛ إلا أن الكثير من الأنشطة التي يتم بثها، سواء عبر صفحات الهيئة على مواقع التواصل الاجتماعي. أو البيانات التي يتم إرسالها إلى الصحفيين عبر المجموعات البريدية، لا تتعد فكرة الإجراءات الحكومية التي يقوم بها موظفي الدولة لإخلاء طرفهم من أية مسؤولية. وإظهار إتمام التكليف أمام رؤسائهم؛ فتأتي أغلب البيانات فقرتين أو ثلاث فقرات تحمل عشرات الأخطاء الإملائية، مع مجموعة صور متوسطة الجودة، مع عناوين توحي للمتلقي بأن الأمر مجرد “سّد خانة”!.
بلا مثقفين
“ماكينة عملاقة لكنها مُعطّلة”، هكذا يصف صبحي موسى المدير السابق لإدارة النشر بهيئة قصور الثقافة، وضع المؤسسة الجامد منذ سنوات، موضحًا أنه رغم عمله بالهيئة، والذي امتد لسنوات. لا يُمكن أن يجد إجابة واضحة لهذا السؤال الذي شغله هو نفسه بشكل كبير.
الشاعر والروائي الذي قضى فترة كبيرة متنقلًا بين أروقة وزارة الثقافة أشار في تصريح لـ “مصر 360” إلى أنه رغم ما أعلن عنه الدكتور عماد أبو غازي قبل عشرة أعوام. إبان توليه وزارة الثقافة بأن قصور الثقافة “وزارة وحدها”، واعدًا بالتطوير، أو ما أعلنه الرئيس عبد الفتاح السيسي قبل عامين أن 2019 هو عام قصور الثقافة. مُعطيًا تعليمات بأن يتم تطويرها على أعلى مستوى، لكن على المستوى الداخلي لم يحدث أي نوع من التغيير، فرغم ذلك لم يتم تخصيص ميزانية كبيرة تليق بالهدف المنشود.
الميزانية الموجودة تلتهم المنشآت والصيانة والمرتبات ثلاثة أرباعها، أما النشاط نفسه، أو ما يُمكن القول إنها حصة المواطن في الهيئة. لا تتجاوز العشرة بالمائة، لذلك لدينا جيش من الموظفين لكن من لديه أفكار منهم لا يستطيع تفعيلها.
وأضاف: “إذا ما تحدثنا عن الموظفين سنجد مشكلة ضخمة تخص الجميع، سواء القيادات أو من يتبعوهم ضمن الهيكل الإداري. لدينا تقريبًا واحد من الألف بالمائة من هؤلاء هم من المثقفين أو يتمتعون بثقافة حقيقية. بينما الباقين مجرد موظفين ينتظرون التوقيع في دفتري الحضور والانصراف وبينهما بضع ساعات! أتحدث عن هيئة تضم ما يقرب من 19 ألف موظف بينهم عشرين أو ثلاثين موظف فقط”؛ وأشار كذلك إلى خطأ كبير وقع فيه القائمين على السياسات الثقافية. وهو أنهم وصّلوا للقيادة السياسية أن الثقافة مقتصرة على الرواية والشعر والمسرح دون بقية الفنون. بينما الثقافة تقع في كل عنصر في الحياة، والدليل أننا عند الحديث عن ظاهرة سيئة مثل ألفاظ معينة أو غيرها نقول إنها نوع من التردي الثقافي. وما يدعو إلى تغيير منظومة المفاهيم نفسها.
لا أحد يعرف!
في سياق متصل، ترى الروائية ضحى عاصي، عضو مجلس النواب، أن “الناس لا ترفض أنشطة قصور الثقافة.. هم فقط لا يعرفون عنها”. مُشيرة إلى أن الخريطة الثقافية وجداول الأنشطة لقصور وبيوت الثقافة ممتلئة، لكن ببساطة تكمن المشكلة في أمرين، الكثير من هذه البرامج إما عفا عليها الزمن، أو لا يتم تسليط الضوء عليها إعلاميًا بالقدر الكافي”. تضيف: ” ربما هناك عمل جيد حقًا لكنه قد لا يتناسب مع طبيعة أو ثقافة مجتمع صار يتسم بالسرعة والانفتاح على العالم الخارجي. لقد تغير اهتمام الجمهور ويجب مواكبته بما يتناسب مع أهداف التثقيف والتوعية.
لفتت الروائية صاحبة الباع الطويل في العمل الثقافي، سواء كروائية أو صاحبة تجربة لأحد المراكز الثقافية الخاصة، إلى أن بضع خطوات بسيطة يُمكنها أن تضمن لهذه الأنشطة الانتشار في المجتمعات المحيطة. تقول: “إذا قام القائمين على المواقع الثقافية بالهيئة بدعوة مجتمعهم المحلي، مثل أطباء وممرضي المستشفى القريبة. أو طلبة المدارس المحيطة، فسوف يكسب أغلبهم جمهور شبه دائم. شاهدت في أحد المواقع التابعة لمدينة المنصورة عرضًا رائعًا للفرق الفنية، لكن كان ينقصه الجمهور للأسف”.
وترى عاصي أن جزء من إدارة كل موقع ثقافي يجب أن يتضمن متخصصُا في الأفكار الترويجية التي تُناسب الحي أو القرية أو المدينة “إذا ما فهمت طبيعة الجمهور سوف تستطيع الوصول إليه”.
تشير ضحى، نائب الدقهلية التي تشغل حاليًا عضوية لجنة الثقافة والإعلام بمجلس النواب، لـ”مصر 360″ إلى أن هناك الكثير من المقترحات التي تتبناها وآخرين للارتقاء بما تقدمه المواقع الثقافية بالمحافظات. قائلة “هذه المواقع العديدة ثروة قومية يُمكنها أن تحقق عظيم التغيير إذا ما استطاع القائمون عليها التواصل الفعلي مع الجمهور”.
ولفتت إلى أن المراكز الثقافية الخاصة ناجحة وتصل إلى شرائح مختلفة ومتنوعة بسبب ما تقدمه. رغم كونها بدون إمكانيات أو تعمل بإمكانيات بسيطة. قائلة: “لكنهم قادرين على توصيل أفكارهم، فما بالنا بإمكانيات ومواقع كثيرة وميزانية موجودة بالفعل. يُمكنها أن تحقق النقلة الثقافية التي نرغب فيها إذا تم اعتبار المباني ثروات يتم استغلالها عبر طاقة بشرية مدركة لأهمية الدور الذي تقدمه”.