40 عامًا مرت على قرار الرئيس أنور السادات بتحديد إقامة البابا شنودة الثالث بدير الأنبا بيشوي ضمن اعتقالات سبتمبر 1981. حيث اشتمل القرار على بطريرك الكنيسة القبطية 8 من الأساقفة وبعض الكهنة. إضافة إلى قائمة كبيرة من كتاب الرأي والسياسيين والشخصيات العامة وجدوا أنفسهم جميعًا بين جدران السجن. بينما اكتفى الرئيس الراحل بعزل البابا بين أسوار ديره.

ماذا قالت الصحافة الأجنبية عن تلك الواقعة؟

في مثل هذا اليوم السابع من سبتمبر عام 1981 نشرت صحيفة الواشنطن بوست متابعتها عن الواقعة. حيث كان الرئيس السادات قد أعلن بعد يومين من وضع البابا شنودة رهن الاعتقال تشكيل لجنة خماسية من الأساقفة تتولى إدارة الكنيسة. وهو ما صرح به الأنبا صموئيل أسقف الخدمات الاجتماعية لمراسل الواشنطن بوست آنذاك وفقا لنسخة من الصحيفة يحتفظ بها أرشيف الجامعة الأمريكية بالقاهرة.

الأنبا صموئيل الذي يلقب بشهيد المنصة حيث استشهد جوار الرئيس السادات في حادث اغتياله، شرح لمراسل البوست في القاهرة ما رأى إنه وراء قرارات الاعتقال. مؤكدا أن الرئيس أراد أن يخلق توازنا بين اعتقاله لعدد من الإسلاميين، فتم التحفظ على البابا وعدد من الأساقفة والكهنة. بينما ظل الأنبا صموئيل عضو اللجنة الخماسية من غير المرحب بهم كنسيًا حتى وفاته.

الكنيسة القبطية الأرثوذكسية
الكنيسة القبطية الأرثوذكسية

كان اقتراح اللجنة الخماسية لإدارة الكنسية فكرة القمص متى المسكين الذي التقاه الرئيس السادات وعرض عليه منصب البابا البطريرك بديلًا عن البابا شنودة. حيث كان المسكين وسيطًا بين البابا والرئيس في تلك الفترة، فما كان منه إلا أن أخبر الرئيس السادات أن قوانين الكنيسة القبطية لا تسمح بعزل البابا وتعيين بديل. بينما تمسك السادات بإلغاء الأمر الإداري لتعيين البطريرك الموقع من رئيس الجمهورية.

ثم اقترح عليه القمص متى أن يشكل لجنة خماسية لإدارة الكنسية كحل وسط يحفظ للكنيسة سلطتها في يد الإكليروس والمجمع المقدس بعد التحفظ على البطريرك الذي رفض الرئيس السادات بشتى الطرق إعادته لكرسيه.

كان قرار العزل قد جاء بعد عدة تجاذبات بين القطبين الكبيرين أبرزها تظاهرات أقباط المهجر ضد الرئيس السادات عند زيارته لواشنطن. بالإضافة إلى قرار الكنيسة وقف الاحتفال بعيد القيامة وعدم استقبال المسؤولين الحكوميين كاحتجاج على ما جرى للأقباط في حادث الزاوية الحمراء. الذي يتذكره المصريون بصوت الرئيس السادات مسفهًا من الأمر “بلكونة مواطن نقطت ميه مش نضيفة على مواطن تاني” بينما راح ضحية الحادث عشرات الأقباط وهو ما يذكر محمد حسنين هيكل تفاصيله في كتابه خريف الغضب.

كيف أثر عزل البطريرك على الكنيسة القبطية اجتماعيا وسياسيا؟

يؤكد قرار عزل البابا شنودة على الطابع الشخصي الذي تتسم به علاقة الكنيسة بالدولة المصرية وهو قرار يمكن النظر إليه بالمقارنة بعلاقة الرئيس جمال عبد الناصر بالبابا كيرلس. والتي انعكست بالإيجاب على الكنيسة ومن ثم الأقباط، وكذلك يمكن مقارنته بما سيأتي بعده. حين كانت علاقة الرئيس مبارك بالبابا شنودة الثالث تتبع نموذج العصا والجزرة وهو ما انعكس أيضا على الأقباط بشكل عام وعلاقتهم بالدولة المصرية.

قضى البابا شنودة وإلى جواره الأنبا صموئيل، في دير الأنبا بيشوي سنوات العزل التي بدأت في سبتمبر 1981، وقطعتها أنباء اغتيال الرئيس السادات. وهو ما فسره الأقباط بشكل ديني حيث رأوا في رصاصات الإرهاب التي اخترقت صدر السادات انتقاما سماويًا للبابا البطريرك الذي تم عزله بينما جاء الرئيس مبارك في تلك اللحظة غير عابئ بضرورة إعادة البطريرك إلى كرسيه بالعباسية حتى اتخذ القرار عام 1985. حين قرر مبارك الإفراج عن كافة المعتقلين فعاد البابا محمولًا على الأعناق إلى الكاتدرائية ولكنها عودة مشوبة بالحذر بعد أزمة العزل تلك.

فقد كان البابا أكثر هدوء بينما الأقباط أكثر ثورة فما كان منه إلى أن بدأ استراتيجية جديدة استبدل فيها المجال العام بالكنيسة. فأسس نوادي اجتماعية ورياضية في الكنائس ومسارح ومنح مساحة أكبر لأسقفية الشباب التي تولت بناء قاعدة عريضة من الشباب المسيحي. يبتعد عن المجتمع وينغمس في الكنيسة وهي كلها ظواهر جاءت كرد فعل على استفحال التيارات الإسلامية في المجتمع ومجاله العام. سواء الأحزاب أو الجامعات أو الشارع المصري الذي بدأ يعيش أولى مظاهر الأسلمة من انتشار للحجاب وللحية وغيرها وهي المرحلة التي شكلت تغيرا اجتماعيا لافتا على كافة الأصعدة كان الأقباط بلا شك جزء منه.

متى المسكين والبابا شنودة
البايا شنودة ومتى المسكين

استمر الحال كذلك في عصر مبارك، بطريرك يرى في عزلة الأقباط طوقا للنجاة ورئيسا يؤمن أن البطريرك هو المسؤول عن الأقباط سياسيا واجتماعيا. وهو الأمر الذي ساهم في تحويل الأقباط من مواطنين إلى رعايا، فقد كان البابا شنودة هو الوسيط بين الدولة والمواطن القبطي. وهي الوساطة التي لم تشكل أي ضغوط على دولة مبارك فلم ينجح مثلا في استصدار قانون لبناء الكنائس بل ظلت تلك الأزمة من أهم أسباب الفتن الطائفية في هذا العهد الطويل.

كان البابا شنودة يلجأ للاعتكاف في الدير كتعبير عن الغضب عن إدارة شؤون الأقباط في مصر، وهي الآلية التي لجأ إليها في قضية مثل “كاميليا شحاتة” الشهيرة. بينما الدولة كانت ترى في الأقباط كتلة انتخابية يتم تجييشها للتصويت للحزب الوطني مقابل بعض المزايا التي تحصل عليها الكنيسة، مثل تعيين الأقباط في البرلمان أو الموافقة على بناء بعض الكنائس.

كيف تأثرت الكنيسة داخليًا بما جرى؟

لم تكن الكنيسة بعيدة عن الاستقطاب المسيحي الإسلامي الذي خلفه الرئيس السادات الذي لقب نفسه بالرئيس المؤمن. فقد خلقت سياسات السادات استقطابا داخليًا أبرز ملامحه نمو الصراع بين البابا شنودة والقمص متى المسكين. وهو صراع قديم أججته قضية عزل البابا التي ظهر فيها القمص متى كوسيط بين الطرفين ومقرب من الرئيس السادات. وهي المواقف التي لم يغفرها البابا شنودة حتى وفاته للقمص متى وتياره وتلاميذه.

كان من بين المغضوب عليهم في تلك الفترة اللاهوتي الشهير جورج حبيب بباوي الذي أدلى بحديث لبعض الصحف البريطانية والأمريكية. أكد فيه على ضرورة الفصل بين الكنيسة والدولة معتبرا أن البابا شنودة يقحم ملايين الأقباط في صراع سياسي لا قبل لهم به. وهي التصريحات التي ظلت في الذاكرة حتى نما الصراع بين البابا شنودة وبباوي وانتهى بحرمان الأخير كنسيًا.

خرج البابا شنودة من محبسه ومعه الأساقفة الذين تم وضعهم في سجن المرج وهم ثمانية أساقفة كان الأنبا بيشوي مطران كفر الشيخ من بينهم. ليصبح بعد ذلك عصا البابا شنودة الغليظة التي نالت من متى المسكين وتياره وتلاميذه كرئيس للجنة المحاكمات الكنسية حيث شهد عصره منع كل كتابات القمص متى من التداول كنسيًا. وظل هذا التيار مسيطرا ومستفحلا حتى وفاة البابا شنودة عام 2012 ووصول البابا تواضروس إلى سدة كرسي مارمرقس بأجندة إصلاحية أميل إلى أفكار القمص متى المسكين. وهو الأمر الذي تسبب في صراعات داخل مراكز القوى بالكاتدرائية مازالت الكنيسة القبطية تعيشها حتى اليوم على أصعدة مختلفة.

لقد كانت لحظة اعتقال البابا شنودة بقرار رئاسي أبعد من سجن بطريرك الكنيسة في ديره، إنما شكلت لحظة تغير اجتماعي وسياسي في علاقة الدولة بالكنيسة. مازالت الكنيسة القبطية تحاول التعافي من آثاره حتى اليوم، رغم تغير العلاقة بينها وبين الدولة منذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحكم وسعيه إلى بناء حلف اجتماعي وسياسي مع البابا تواضروس الثاني. وهو الأمر الذي يؤكد فرضية أساسية تتمثل في أن العلاقة بين البابا والرئيس تؤثر على ثنائية الكنيسة والدولة التي تنعكس بطبيعة الحال على المواطن القبطي.