عادت عقارب الساعة السياسية في ليبيا نصف دائرة للوراء، واستعادت من تبقى من عائلة الزعيم الراحل معمر القذافي. وهي محاولة قد يرى فيها البعض تهيئة سياسية في إطار عقد الصفقات قبيل الانتخابات المرتقبة، بينما قد يعتقد آخرون أن البيئة المتحركة تحت أقدام الملف الليبي قد تدفع الأطراف المتصارعة إلى دائرة الحرب مرة أخرى، ولكن هذه المرة بوجود طرف لديه ثأر لنفسه وللراحلين من بني جلدتهم، وهو أنصار القذافي.
قبل أيام بدأت حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة في ليبيا الترويج لبرنامج مصالحة وطنية شامل، لم تفصح عن تفاصيله حتى مع إعلانه رسميًا مكتفية بالقول إنها أطلقت مبادرة المصالحة، لكن خطواتها الميدانية كشفت عن شيء من هوية هذا البرنامج وعلى رأسه العفو عن أركان النظام السابق، وإخراج المسجونين منهم، وعدم قطع الطريق على من يرغبون في العودة للسياسة أو الحكم، من خلال شطب بند في قانون الانتخابات يحرم أعوان النظام السابق من مستقبل اللعبة السياسية في البلد.
الخطوات بدأت بالإفراج عن الساعدي القذافي الذي كان مسجونًا في طرابلس منذ العام 2014، ومعه مدير مكتب القذافي سابقًا العقيد أحمد رمضان، والإعلان عن جملة من الإفراجات خلال الأيام المقبلة. رافق ذلك سيل من البيانات الدولية والمحلية التي تثمن الخطوة وتدفع في اتجاه استكمالها.
موجة إفراجات ومشروع “المصالحة الوطنية”
سبقت عملية الإفراج مناقشات بين أطراف محلية، تتخلص جميعها في ضرورة الإفراج عن عدد من سجناء. بدأت بلقاء جمع رئيس المجلس الرئاسي محمد النفي، ووزيرة العدل بحكومة الوحدة الوطنية، المستشارة حليمة عبدالرحمن في 30 أغسطس الماضي، وجرى مناقشة ملف الإفراجات الصحية عن بعض السجناء “لدواعٍ إنسانية وصحية”.
وبعد أيام من تأكيد المنفي ضرورة الإسراع في حل إشكالية السجناء الذين صدرت بحقهم أحكام بالإفراج ولم يتم تنفيذها. أعلنت حكومة الوفاق إطلاق سراح الساعدي القذافي تنفيذًا للإفراج الصادر في حقه من النيابة العامة. وقتها ربط رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة لأول مرة بين الإفراجات عن السجناء “وتحقيق المصالحة وإقامة الدولة وتحقيق العدل”.
بعدها بساعات، وتحديدًا الإثنين، أعلن المجلس الرئاسي إطلاق العقيد أحمد رمضان، وهو السكرتير الخاص للزعيم الراحل معمر القذافي. وقال المجلس، في بيان، إن إطلاق رمضان يأتي في إطار إرساء المصالحة الوطنية الشاملة، والإفراج عن السجناء السياسيين الذين انتهت مدة محكوميتهم، أو الذين لم تتم إدانتهم قضائيًا.
اقرأ أيضًا| ليبيا.. محاولة لتقليم أظافر أمراء الحرب وفرصة لتقوية أنياب الدولة
في اليوم نفسه أطلق رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، مشروع مبادرة لا تحتوي إلا على اسمها “المصالحة الوطنية“، دون أن يقدم تفاصيل بشأن هذه المبادرة أو الأطراف التي تشملهم، أو كيف سيتم تنفيذها، وهل تتعلق بالانتخابات أم لا.
لكن المنفي ربط المبادرة بما قال إنها “جهود بُذلت في سبيل تحقيق ما تم التوصل إليه من مصالحة”، معتبرًا أن تلك القرارات (الإفراج عن السجناء) “ما كان لها أن تتخذ، لولا الرغبة الحقيقية لطي صفحات الماضي المؤلمة، وتجاوز الخلافات”، وهي بذلك تشير بوضوح إلى أنّ جزءًا كبيرًا من المصالحة يتضمن العفو عن أركان نظام القذافي، بل والسماح لهم بممارسة الحياة العامة مستقبلاً، وفق المؤشرات الحالية.
الدبيبة وعقيلة صالح
في اليوم التالي كان رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة على موعد من واحدة من أكثر المواقف العلنية تململاً، عندما أذاعت القنوات المحلية جلسة مساءلة البرلمان للحكومة بعد سجال دام لأسابيع وتراشق وتلاسن بين الطرفين، لكن رئيس الجلسة “عقيلة صالح” اختتمها من حيث بدأها، بقوله إن البرلمان قرر تأجيل جلسة المساءلة للغد لأن الحكومة تأخرت عن موعد حضورها للقاعة.
كانت تلك مفاجأة غير متوقعة وإحراج علني لرئيس الحكومة، كشف عن خلافات عميقة، بعدها اضطر المتحدث باسم الحكومة للحديث بلهجة لا تخلو من التعبير عن الانزعاج. وقال محمد حمودة إن “حكومة الوحدة الوطنية تستغرب تأجيل عقد جلسة مساءلة الحكومة من قبل مجلس النواب الليبي بحجة وصول الحكومة في وقت متأخر عن موعد عقد الجلسة وعدم تبقي وقت كافِ لعقدها، ورغم مطالبة المجلس بعقدها بشكل عاجل في وقت سابق”.
وعندما كان الدبيبة وعقيلة صالح يشتبكان بشكل غير مباشر في طبرق، أعلن رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي يعلن الإفراج عن أحد أهم رموز النظام السابق ناجي حرير القذافي، وقال إن ذلك جاء “في إطار المصالحة الوطنية”.
هكذا فإن العلاقة بين حكومة الوحدة الوطنية والأجسام السياسية والعسكرية في المنطقة الشرقية إلى طريق مسدود، وهو امتداد لتصريحات سابقة اعتبر فيها عقيلة صالح أن حكومة الوحدة الوطنية تحولت إلى “حكومة طرابلس”، في إشارة إلى ميلها للمنطقة الغربية.
الإسلاميون والقذاذفة
هذه التطورات المتلاحقة طرحت سؤال يبدو وجيهًا أمام الرأي العام، مفاده احتمالية تحالف الإسلاميين، والأجسام السياسية في المنطقة الغربية مع أنصار النظام السابق وقبيلة القذاذفة. ويبدو هذا الطرح مشفوعًا بعمليات الإفراج المتواصلة حاليًا والمرجح أن تستمر إلى الإفراج عن كافة أنصار النظام البائد، بالإضافة إلى علاقة رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة بسيف القذافي، لاسيما أن الأول لا يعارض ترشح سيف للرئاسة، بحسب تصريحات سابقة أدلى بها لموقع “جون آفريك” الفرنسي عام 2018.
أما الحديث المسترسل عن المصالحة وعدم الإقصاء السياسي، يجعل فكرة التحالف بين المنطقة الغربية وأنصار القذافي أمرًا واردًا، لاسيما أن جبهة الأطراف السياسية والعسكرية في المنطقة الشرقية بدت مفككة، وعاجزة عن التوافق حول مشروع واحد يمكن المنافسة من خلاله في الانتخابات المرتقبة.
اقرأ أيضًا| ارتباك المشهد الليبي.. عودة الانقسام ونُذر مواجهة عسكرية
كما أن تيار “ليبيا المستقبل” الذي يقوده دبيبة هو استمرار لمشروع “ليبيا الغد” الذي أطلقه سيف الإسلام القذافي في 2006، وكان حينها دبيبة أحد أركان هذا المخطط الإصلاحي للنظام من الداخل، والهادف لتطوير البلاد. كما أن الطرفين يمتلكان فكرًا إصلاحيًا، فضلاً عن كون الدبيبة وهو رجل اقتصاد سبق أن تقلد مناصب حكومية اقتصادية قبل أن ينشق عن النظام في العام 2011.
ملامح الصفقة
يقوي هذا الاتجاه، ما تردد بشأن حصول الدبيبة على دعم أنصار القذافي في الانتخابات المصغرة التي فاز خلالها برئاسة الحكومة، مقابل القائمة الشرقية برئاسة عقيلة صالح. لذلك يمكن تفسير التوتر السائد حاليًا بين الدبيبة والمنطقة الشرقية على أنها تخوفات موضوعية لتحالف بات قريبًا بين غرب البلاد وأنصار القذافي، الذين يمتلكون قاعدة جماهيرية وكتلة تصويتية بإمكانها أن ترجح كفة المنافس.
اقرأ أيضًا| ليبيا.. ماذا تعني عودة سيف القذافي؟
هذا الارتباك والخوف من عودة قوية لأنصار القذافي ونجله، أثار مخاوف عقيلة صالح في السابق عندما انتقد إصرار عدد من النواب على حذف بند من شروط الترشح لرئاسة ليبيا تتيح لسيف القذافي أن يتقدم خطوة نحو المنصب، بالنظر إلى أنه حصل على براءة أمام القضاء الليبي، وقتها قال عقيلة موجهًا حديثه للنواب: “أستغرب أن يشترط ألا يكون قد صدر عليه حكمًا باتًا… واحد محكوم عليه من الجنائية الدولية هل يترشح لرئاسة الدولة؟! ما دام محكوم عليه خلاص… لا يحق له الترشح ويجب أن تكون النصوص واضحة ومعقولة”.
تفكك جبهة فبراير
وفي مطلع أغسطس الماضي، طرح سيف القذافي نفسه على الرأي العام باعتباره طامحًا في استعادة عرش والده. كان نجل القذافي يتحدث عن تفاصيل دقيقة في المشهد الليبي عندما استضاف مراسل صحيفة “نيويورك تايمز“. وقتها قال إن الظروف تغيرت وأن المقاتلين الذين اعتقلوه قبل عشر سنوات قد تحرّروا من وهْم الثورة وأدركوا في نهاية المطاف أنه قد يكون حليفًا قويًّا لهم.
في موجة صعود عائلة القذافي من جديد، كان معسكر الثورة يبدو مرتبكًا، لكنه لا يملك من أمر نفسه أو الشارع شيئًا. وجاءت أغلب تعليقات أنصار فبراير كأنها تقول “مبارك عليكم المصالحة.. ولنا جولة أخرى”، لكنهم لم ينكروا أن ثمة مؤشر قوي لاتجاهات الرياح السياسية، بهدف إعادة تموضع مختلف الأطراف.
وإن كانت المؤشرات تقود إلى “مصالحة عائلة القذافي”، فإن دعائم تلك الموجة محليًا ودوليًا، بالنظر إلى كم الترحيب السياسي والإنساني، يقطع أي محاولة لمجرد استنكار إعادة أنصار النظام الراحل إلى الواجهة. لكن كل هذه التفاصيل تشي بما هو أهم “أن المعركة على السلطة والمال قد استعرت”.
هذه الاتجاه مدفوع بصراع مستمر منذ أسابيع بين وزير النفط والغاز بحكومة الوحدة الوطنية محمد عون ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله، بعدما أقال الأول الثاني بزعم أن صنع الله سافر للخارج في زيارة عمل بدون إذن الوزير، لكن خلف هذا الصراع الذي فشل حتى رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة في احتوائه، تقف عدة رسائل أهمها أن مرحلة الصراع على السلطة والمال قد تبدلت هذه المرة وأن أطرافًا جديدة قد صعدوا إلى حلبة المنافسة.
كل الأدوات قيد الاستعمال
هكذا فإن كل الأدوات قيد الاستعمال في خضم معركة السلطة والمال بليبيا، التي يبدو أنها ماضية بإصرار دولي على استقرار الحكم في يد مجموعة يجري إعدادها وانتقائها بعناية شديدة، غالبا سيكون تيار فبراير خارجها إلا من بعض الحلفاء المتحكمين بالمال.
المؤشرات السابقة أيضًا تقول إن أنصار القذافي كسبوا ورقة مهمة للغاية ستعطيهم دفعة كبيرة لتوحيد وإعادة تهيئة صفوفهم، مدعومين بكتلة تصويتية هي الأكثر تنظيما حتى الآن، وحتى بعد مرور عشر سنوات على تفكيكها، يتساوى مع ذلك كتلة عسكرية يمكن إخراجها للنور في غضون أيام.
لا يمكن فصل هذا الافتراض عن استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “ديوان للأبحاث”، وهي شركة متخصصة في إجراء استطلاعات الرأي، أظهر أن سيف القذافي يحظى في أقاليم ليبيا الثلاثة بنسبة تأييد تتراوح بين 20 إلى 25% من الأصوات. قد ترى هذه النسبة قليلة، لكنك ستغير رأيك عندما تعلم أن عقيلة صالح رئيس البرلمان لم يستطيع انتزاع أكثر من 4% من الرأي الإيجابي لصالحه.
بالإضافة إلى ذلك فإن 82% من المستطلعة آراؤهم عبروا عن ثقتهم في أن تحقق الانتخابات المرتقبة الاستقرار في ليبيا، و40% قالوا إنهم يثقون في عبدالحميد الدبيبة 54% قالوا إنهم يثقون في حكومته و7% فقط قالوا إنهم يثقون في عقيلة صالح.
مشروع الدبيبة
إذن، ترجح المؤشرات إلى أن الملعب الآن قد جرى تهيئته للاعبين جدد، سيشكل أنصار القذافي جزءًا منه، بالتحالف مع أطراف بالمنطقة الغربية، إن لم يحدث أية تغيرات مفاجئة في المشهد، كأن يختار أحد الأطراف العودة للقتال لحسم السيطرة على البلاد ومواردها.
يبرز في وسط ذلك، تصاعد مشروع الدبيبة (ليبيا المستقبل) الذي يتقاطع في الكثير منه مع مشروع سيف القذافي، وهو ما يفتح الباب لتحالف مبني على وحدة الهدف والإجراءات، في المقابل يبدو أن أنصار فبراير قد خسروا جولتهم هذه المرة بمؤشر قياس الرأي العام، خاصة مع فشلهم في تكوين كتلة موحدة ينافسون من خلالها المتحالفين الجدد.
الترحيب الشعبي في العديد من المدن خاصة بني وليد والأصابعة وسرت، مصحوبًا بعرس إعلامي، لا يدع أمام المتابعين أو حتى أنصار حراك فبراير إلا التسليم بحكم الشارع، الذي قيل عنه ذات يوم لو عاد إليهم القذافي نفسه لتولى الحكم، بعد عشرية سوداء من الحرب والدمار.
أضيف إلى ما سبق، رغبة المجتمع الدولي في توظيف تيار القذاذفة لكسر جمود والصراع بين القطبين الرئيسيين في غرب وشرق البلاد. مع تأييد فاعلين دوليين لهذا المشروع الحديث القائم على مزج الحاضر بالماضي، “ليبيا المستقبل” الذي تمثله أطراف فاعلة في المشهد حاليا و”ليبيا الغد” التي اندثر أثرها قبل عشر سنوات. من بين الداعمين والمتحمسين لهذا المشروع روسيا وإيطاليا تزايد توجه داخل الأمم المتحدة لدعم هذا الإطار.