لا تزال الجولات الاستكشافية بين مصر وتركيا تحاول الوصول إلى أقصى نقطة في حقول سياسية واقتصادية وأمنية عميقة. وذلك ضمن مسارات يراها متابعون بطئية مقارنة بعلاقات مماثلة مع قطر تبدو متقدمة وصولاً إلى تطبيق كامل للعلاقات.
وفي أعقاب ثاني جولة من المباحثات الاستكشافية، تحدث وزير الخارجية سامح شكري، عن تحمس مصري لحل الخلافات واستعادة العلاقات. لكنه وضع ذلك في محازاة مع مطالب مصرية قال إن القاهرة تنتظر كيف تتعامل تركيا معها.
المطالب المصرية
بدا من حديث شكري أن القاهرة قدمت قائمة مطالب لأنقرة وتنتظر تنفيذها أو التعاطي معها، مقابل استعادة العلاقات. وهي بذلك علاقة تفاوضية قائمة على مطالب من جانب واحد وفيما بدا من حديث الوزير شكري. في ظل غياب الحديث عن مطالب مماثلة من الأتراك، وإنّ كانت ستدور حول ملفات بالمنطقة من بينها الأزمة الليبية وملف المتوسط وجماعة الإخوان.
وقال شكري في مقابلة مع بلومبيرغ الأمريكية، الأربعاء، إن مصر متحمسة للوصول بحل وللصيغة الضرورية لاستعادة العلاقات الطبيعية مع تركيا. لكنه قال إنه مازالت هناك أمور تحتاج لحل وتقييم.
وردا على سؤال حول الجولة الثانية من المحادثات الاستكشافية قال شكري: “أعتقد أنه خلال هذه المرحلة لا يزال علينا تقييم مخرجات الجولة الثانية من المحادثات وخصوصا سياق العلاقات الثنائية وعدد من الإجراءات التي اتخذتها تركيا وتحتاج إلى نوع من المعالجة”. وأضاف: “وعندما نشعر بالرضا تجاه حل هذه الأمور فسيفتح ذلك الباب لتحقيق المزيد من التقدم”.

بدا الوزير شكري في أكثر المرات وضوحا وهو يتحدث عن العلاقات مع تركيا. وعندما سئل عن ما على الجانب التركي تقديمه لتحقيق التقدم نحو استعادة العلاقات، قال شكري إن “مصر قدمت للجانب التركي تقييمها ومتطلباتها. وأعتقد أن الجانب التركي يفهم ذلك جيدًا ويمكنه إنجاز هذه الأمور ونأمل أن يفعلوا ذلك حتى يتسنى لنا المضي قدما”.
ثم أشار إلى الأوضاع المضطربة والمتقلبة في منطقة الشرق الأوسط، خاصة الصراع في اليمن وليبيا، والوضع في سوريا ولبنان. بعدها قال إن “هذه أمور يجب التعامل معها”، وأن “من مصلحة جميع دول المنطقة توسيع التفاهم لتحسين الأمن والاستقرار بالمنطقة”.
الجولة الاستكشافية الثانية
واستضافت العاصمة التركية أنقرة، على مدار يومين، فعاليات جولة جديدة من المباحثات العلنية مع مصر. في زيارة رسمية هي الأولى لوفد مصري إلى تركيا منذ انقضاء ثمانية أعوام على الخلاف بينهما. وذلك في أعقاب سقوط حكم تنظيم الإخوان المسلمين في يوليو 2013، والاتجاه التركي طيلة تلك الفترة لحماية قيادات وعناصر التنظيم.
الزيارة التي قام بها نائب وزير الخارجية المصري، جاءت استجابة للدعوة المقدمة من وزارة الخارجية التركية، وصفها البيان الرسمي المصري بـ”الجولة الثانية من المحادثات الاستكشافية”. في رسالة واضحة انتقى فيها الطرفين كلماتهما بعناية، في إشارة إلى أن الوفاق لم يعد بعيدًا. ويُمكن أن تجذب القاهرة حبل الود كما فعلت في الجولة الأولى التي توقفت في مايو الماضي دون الإعلان عن أي حلول للملفات العالقة. وذلك بعد أن شعرت القاهرة أن “الأقوال وحدها لا تكفي، وخطوات تركيا غير كافية”، وفق وزير الخارجية سامح شكري.

هذه الجولة من المحادثات العلنية، جاءت في أعقاب سنوات من المحادثات في الغرف المُغلقة، بين ممثلي الأجهزة الأمنية في البلدين. أو عن طريق وساطة بلدان أخرى صديقة للطرفين، حاولت فيها تركيا إبداء مرونة ومراوغة في آن واحد. بينما أصّرت القاهرة بثبات على نقاطها التفاوضية الواضحة. غير أن العام الماضي شهد تحولاً، عندما حاولت تركيا إعادة صياغة سياساتها الخارجية، ورغبة مصر في تحقيق التوازن بالشرق الأوسط.
وفيما يبدو للبعض أن تركيا تتحرك ببطء، يرى محللون أن التقارب المصري القطري يبدو أسهل من نظيره المصري التركي. وهو ما ظهر في اللقاء الأخير بين الرئيس السيسي وأمير قطر في بغداد قبل أسبوع. ويعتقد أن قطر ليست في صراع مع فرنسا وقبرص واليونان، حلفاء مصر. والذين “قد يشكلون عوامل ضغط لعدم تقدم العلاقات” كما ذكر المحلل السياسي التركي فراس رضوان أوغلو، قبل أشهر.
حدود المناقشات
ركزت مناقشات الجولة الأولى، التي عقدت منتصف العام الجاري، على العلاقات الثنائية، ووقف أي استهداف لمصر وقيادتها من الأراضي التركية. فضلاً عن وقف الاستهداف الإعلامي عبر منصات فضائية في تركيا، واحترام قواعد القانون الدولي في العلاقات بين الدول وحسن الجوار. وألا تتيح تركيا المساحة لجماعات إرهابية متطرفة تعمل ضد مصر. فضلا عن عدم تعرض تركيا لأي مصالح مصرية أو تهديد الأمن القومي المصري والعربي سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي.
لكن تلك المفاوضات توقفت بسبب خلافات حول ملف ليبيا والمتوسط، ومراوغة تركيا بخصوص التعامل مع عناصر الإخوان المقيمين في تركيا.

يقود المفاوضات من الجانب التركي وزير الخارجية مولودو تشاووش أوغلو. والذي أعرب عن تفاؤله، في تصريحات إعلامية أمس الثلاثاء، أشار فيها إلى أن المفاوضات مستمرة عبر وفود من البلدين تجري زيارات متبادلة”. وأعرب عن أمله في الاقتراب من تحقيق خطوات أكبر قائلاً: “من الممكن الاتفاق على عودة السفراء. كما يمكننا التفاوض حول مناطق الصلاحية البحرية بما يحقق مكاسب حقيقية للقاهرة”. وأكد أن التعاون التجاري بين البلدين في تزايد مستمر.
أوغلو، الذي تولى منصبه بعد عامين من انقطاع العلاقات المصرية التركية، أعلن قبيل انطلاق الجولة الأولى من المحادثات الاستكشافية، خلال مقابلة أجرتها معه قناة “تي آر تي” الحكومية، أن المحادثات الجارية تقدمت بشكل تدريجي ووصلت لمستوى وزيري الخارجية.
ميزان القوة في صالح المفاوض المصري
تهدف تركيا من خلال جولة المفاوضات الثانية لاستعادة استقرار أوضاع إقليمية وداخلية أضر بها الخلاف مع مصر، خاصة الملف الاقتصادي. وأثّرت الخلافات بشكل بالغ على الاقتصاد التركي، ما قد يُنذر بكرة ثلج جديدة تتكون في مواجهة نظام حزب العدالة والتنمية، الذي يواجه في الآونة الأخيرة عدة أزمات. منها ارتفاع حجم الديون الحكومي منذ دخول النظام الرئاسي حيّز التنفيذ بعد إلغاء النظام البرلماني في صيف عام 2018. والذي ارتفع بنسبة 109% منذ منح أردوغان صلاحيات واسعة بعد إلغاء منصب رئاسة الوزراء. الذي شغله لآخر مرة بن علي يلدريم، الحليف الوثيق للرئيس التركي، وأحد أبرز أعضاء حزبه الحاكم.
في الوقت نفسه، لا تبدي القاهرة استعدادًا لتقديم أية تنازلات في مقابل مطالبها. وترى المباحثات تراوح مكانها لاعتبارات تتعلق بتباين الرغبة نحو تطبيع العلاقات. وعلى عكس الثقة التركية المهزوزة، يبدو الموقف المصري مُفعمًا بالقوة التي تسمح بفرض شروط. فالدولة التي تتفاخر بإنجازات البنية التحتية، وإقامة القواعد العسكرية، والسيطرة على الملف الأخطر في المنطقة، وهو العلاقة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، لم تعد هي نفسها الدولة التي كانت تسعى قبل سنوات لحشد تأييد المجتمع الدولي تجاه القرار المصري في 30 يونيو 2013. بل صارت الحليف البارز للقوى الكبرى، والشريك الأساسي في منتدى غاز المتوسط. بل لم تعد محاولات البرامج الإخوانية لاستثارة العالم تنال من غضبها، وهي البرامج التي سارعت تركيا مؤخرًا بإغلاقها. وإعطاء أوامر للقائمين عليها بعدم انتقاد النظام المصري، وهي أكبر خطوة علنية قام بها أردوغان لمغازلة الجانب المصري.
ملف المتوسط.. مناورة مصرية وتحجُّر تركي
تأتي قضية ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط كأهم الملفات التي تسعى تركيا لانتزاع اتفاق بشأنها مع مصر. بعدما قادت القاهرة هذه الملفات منفردة، ووقعت مع اليونان في أغسطس العام الماضي، اتفاقية لترسيم حدودهما البحرية. بالإضافة لتأسيس “منتدى غاز شرق المتوسط”، الذي يضم دولاً عدة أهمها مصر وقبرص واليونان وإسرائيل والأردن وإيطاليا. ما زاد قلق تركيا لاستبعادها من تقاسم حقول الغاز، وسط أزمتها مع قبرص واليونان بسبب التنقيب في مناطق متنازع عليها.
وتكمن أهمية هذه الاتفاقية في أن منطقة شرق المتوسط التي تطل عليها سواحل البلدين من المناطق الغنية بالغاز الطبيعي. ويقدر تقرير لهيئة المسح الجيولوجية الأمريكية عام 2010 وجود 3455 مليار متر مكعب من الغاز. وكذلك 1.7 مليار برميل من النفط في المنطقة.

رغم ذلك، كانت مصر من الذكاء بحيث تركت بادرة لا تدفع تركيا إلى الاختناق في حال احتمالية عودة العلاقات مستقبلًا. فرغم ترسيم الحدود، حذفت منطقة مثيرة للجدل إلى الجنوب من جزيرة كاستيلوريزو، وهي أبعد موقع يوناني تزعم تركيا أنه يقع داخل منطقتها الاقتصادية الخالصة. هكذا أعطت مصر للأتراك- في حال الاتفاق ثانية- فرصة لمنافسة قبرص واليونان. لكن الجانب التركي لم يقدم تنازلاً يقنع مصر بالقيام بهذه الخطوة، خاصة أن للقاهرة علاقات استراتيجية قوية مع قبرص واليونان.
وفي الوقت الذي حافظت فيه مصر على علاقات أوروبية قوية، يدعم الحلفاء الأوروبيون موقف اليونان. وكان وزير الخارجية الألماني هايكو ماس قد حث أنقرة خلال زيارة سابقة لأثينا على التوقف عن “الاستفزازات في شرق المتوسط”. كما عبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن دعمه الكامل لقبرص واليونان، وأدان انتهاك تركيا لسيادة الدولتين. وقال إنه “لابد من معاقبة كل من يهدد الفضاء البحري لأحد أعضاء الاتحاد الأوروبي”. ما يجعل تركيا تأمل من خلال التوصل لاتفاق مع مصر، لتخفيف حدة الحلفاء الأوروبيين تجاه عملياتها في المتوسط.
الخط الأحمر.. موازنة الموقف المصري في ليبيا
ليس وضع الإخوان وحده هو الملف المتعثر، بل هناك ملفات أخرى اعتادت تركيا المراوغة فيها دون الوصول لاتفاق حاسم. ويصر المصريون، وفق وزير الخارجية، على أن تصاغ العلاقات المصرية التركية على أساس المبادئ التي تحكم العلاقات الدولية المستقرة. بما في ذلك عدم التدخل في الشؤون الداخلية وحسن الجوار، وعدم السماح بأي نشاط على أراضي الغير في إطار زعزعة استقرار دولة أخرى.
ومنذ إعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في شهر مايو من العام الماضي أن تجاوز مدينة سرت وقاعدة الجفرة الجوية الليبية تعتبر بمثابة “خط أحمر” بالنسبة للأمن القومي المصري، أدرك الأتراك أن الوضع المتأزم في ليبيا قد يشهد تورطًا دمويًا. فقد حدد السيسي موضع وقف إطلاق النار على حدود المدينة الواقعة منتصف الساحل الليبي، والقاعدة الحصينة. واللتان تفصلان بين قوات الجنرال خليفة حفتر، حليف القاهرة وأبو ظبي، وقوات حكومة الوفاق الليبية المدعومة من تركيا.
كان الرئيس المصري يتحدث عن احتمالية التدخل، بينما يتفقد قواته على الحدود الغربية. في رسالة مصورة لجاهزية الجيش لتنفيذ الأمر. خاصة تأكيده أن أي تدخل مباشر من مصر في ليبيا باتت تتوفر له الشرعية الدولية، وهو ما أقلق الجانب التركي.
“طريقة تركيا في إدارة الموقف في ليبيا أفقدتها الكثير”، يقول الباحث في شؤون الشرق الأوسط محمد حميدة لـ”مصر 360”. ويشير إلى أن التدخل التركي لصالح حكومة الوفاق الليبية كان يتم برعاية أمريكية. إلا أن تحركات موزونة قامت بها القاهرة جعلت الدعم الأمريكي يخفت رويدًا. ويقول إن التأكيد الدولي بشأن خروج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا. ومن بينها القوات التركية “جعل الولايات المتحدة تشعر بأن البساط ينسحب من تحت قدميها لصالح أطراف أخرى، منها روسيا وفرنسا”.
يلفت حميدة إلى أن تركيا على مدار الأشهر الماضية، خاصة في أعقاب فشل الجولة الأولى من المفاوضات، عاشت وقتًا عصيبًا جعلها تبدي مرونة أكبر للعودة إلى طاولة الحديث “فالرئيس أردوغان يرغب في كسر العزلة التي تعيشها بلاده في الشرق الأوسط وأوروبا. بعدما صارت تركيا محاطة بالأعداء من الجهات الأربع.
ورقة الإخوان
كما باتت بقايا جماعة الإخوان المسلمين، المستقرة في تركيا، صداعًا في رأس النظام التركي، والذي شملها بالرعاية منذ عام 2013. لكنه اضطر للتخلي عن تلك الفكرة، بعدما صارت الجماعة ورقة محروقة بالنسبة لألعاب الضغط التي يمارسها في مواجهة النظام المصري. كان من نتائج ذلك توجيهات بإيقاف البرامج السياسية بفضائيات الإخوان التي تبث من إسطنبول وهي “وطن” و”الشرق” و”مكملين”. أو تحويلها لفضائيات خاصة للمنوعات والدراما.
كذلك جمدت تركيا منح الجنسية لعدد من عناصر الإخوان. لكن القاهرة طالبت بإجراءات دائمة، منها تسليم عناصر بعينها صدرت ضدها أحكام قضائية في مصر. من بينهم يحيى موسى وعلاء السماحي، كما طالبت أيضًا بتسليم العائدين من صفوف داعش بسوريا إلى تركيا.
يقول حميدة: “رغم إصرار مصر، لكن ملف الجماعة تراجع في أهميته لدى السلطات في مصر”. وهو يعتقد أن المطالب ثابتة، فالقاهرة تطلب تسليم من صدرت ضدهم أحكام بالفعل وليس مجرد اتهامات. والذين يشكلون خطورة على الأمن القومي المصري، فبعضهم يقود خلايا إرهابية موجودة في مصر. أما الباقون فلا تهتم مصر لأمرهم.
كان التعاون المصري التركي قد شهد تحركًا ملحوظًا، فبعدما طالبت مصر بوقف أي اجتماعات سياسية لقادة الإخوان في تركيا رد الأمن التركي بأنه تم تنفيذ ذلك. كما أن بعض قادة الجماعة قاموا بنقل أسرهم إلى خارج تركيا. بينما بقي آخرون في تفاوض مع أنقرة، خاصة بعد وقف ما قيل إنها “أنشطة خيرية لعناصر من الإخوان في تركيا”. وذلك لحين مراجعة مصادر أموالهم بناء على التوصيات المصرية.