ردد البعض هذه المقولة على شعوبنا العربية بأنّها غير مؤهله للديمقراطية، مثلما رددها البعض الآخر على شعوب أمريكا الجنوبية والبرتغال وأوروبا الشرقية وألمانيا في فترات سابقة، صحيح أنّ السياق الحالي في مصر والعالم العربي يختلف عن السياق الذي مرت به هذه البلدان، وأنّ تجارب التحول الديمقراطي “المتأخِّر” لم تعرف انهيارًا لمؤسسات الدولة ولا حروبًا أهلية إنما عملية إصلاح لمؤسساتها بالتوازي مع عملية الانتقال الديمقراطي، وغابت عنها المشاهد التي رأيناها في أكثر من بلد عربي من حروب أهلية (سوريا واليمن) أو انهيار لمؤسسات الدولة (ليبيا).

ويصبح النقاش حول قضية الانتقال الديمقراطي مرتبط في جانبه الأساسي بالسياق الاجتماعي والثقافي والسياسي المحيط، وليس لعيوب جينات في شعوب وثقافات بعنيها.

السياق الحالي

جزء من أزمة الديمقراطية في مصر يكمن في طريقة تعامل الكثيرين معها، فهناك من اعتبرها أيديولوجية تطبق كنصوص مقدسة، والبعض الآخر لم يمانع فرضها من الخارج، وهناك من الناس العادية من ارتاب فيها باعتبارها تؤدي إلى الفوضى والانقسام، خاصة أنّ كثيرًا من الأحزاب السياسية انشغلت بالمغانم أكثر من مصالح البلاد والعباد، وأخيرًا هناك كثير من النخب الحاكمة اعتبروا أن الشعب غير مؤهل للديمقراطية وأنّ علينا أن نحقق أولاً إنجازًا تنمويًا واقتصاديًا ونقضي على الإرهاب كما يقال حاليًا، أو نحقق الاستقلال الوطني والديمقراطية الاجتماعية أولاً كما قيل في الستينيات.

والمؤكد أنّ السياق المصري عرف انقطاعًا لم تعرفه كثير من تجارب الانتقال الديمقراطي بما فيها تونس (حتى مع إجراءات الرئيس قيس سعيد) منذ ثورة 25 يناير وحتى سقوط حكم الإخوان.

  اقرأ أيضًا| الخوف من الديمقراطية

والحقيقة أن غالبية الشعب المصري أيدت تدخل الجيش في 30 يونيو لإزاحة حكم الإخوان وإنهاء مشروع التمكين، وسواء اعتبر أغلبنا أنه لم يكن هناك بديل عن تدخل الجيش لإسقاط حكم الإخوان، أو اعتبر بعضنا أنه كان لا يجب أن يتدخل الجيش ويستمر في الضغط الشعبي حتى يقبل مرسي بانتخابات رئاسية مبكرة، إلا أنّ النتيجة في النهائية هي عجز الاثنين عن فرض آلية ديمقراطية لحسم الصراع السياسي بين الإخوان وأغلب الشعب المصري، وأن المجتمع المصري عجز عن تغيير حكمهم بالوسيلة الديمقراطية.

مع مرور السنين وتراجع “الخطر الوجودي” الذي يمثله تنظيم الإخوان والجماعات المتطرفة، وظهور كثير من المشاكل المرتبطة بالواقع المعاش وليس ما جرى في 25 يناير و30 يونيو، تزايد احتياج الناس إلى إسماع صوتهم

وقد ترتب على هذا التوجه وجود قطاع واسع من الناس يري عدم أهمية الديمقراطية، لأنها لم تسعفنا في تغيير حكم الجماعة الذي أثبت أنه غير قابل للتغيير بالديمقراطية، وأصبح هناك قطاع من الشعب معبَّأ بخبرة تقول إن الديمقراطية جلبت الإخوان، وبالتالي لا داعي لها.

والمؤكد أنه مع مرور السنين وتراجع “الخطر الوجودي” الذي يمثله تنظيم الإخوان والجماعات المتطرفة، وظهور كثير من المشاكل المرتبطة بالواقع المعاش وليس ما جرى في 25 يناير و30 يونيو، تزايد احتياج الناس إلى إسماع صوتهم، وتمنوا أن يكونوا طرفًا في النقاش العام وفي القرارات التي تمس حياتهم اليومية، واشتكوا من مشاكل كثيرة لم يجدوا قنوات شرعية لعرضها، بعيدًا عن خطاب الزكاة ومساعدة الفقراء والمحتاجين.

وبدا واضحًا حدوث تراجع في أصوات “العقائديين” من رافضي الديمقراطية رغم حضورهم الكبير إعلاميًا، تمامًا مثلما تراجع دور المبشرين والمتحذلقين بها وكلاهما اعتبر أن المشكلة في الشعب سواء لأنه غير مؤهل للديمقراطية مع التيار الأول، أو جاهل لا يفهم الديمقراطية مع التيار الثاني.

الديمقراطية حاجة وليست مشروع أيديولوجي

كثير منّا تابع خناقات الكرة بين الأهلي والزمالك، وكثير منّا استاء من الشتائم والهتافات العنصرية والتنمر المتبادل بحق أندية ولاعبين، ومع ذلك لم يسألوا عن أسباب هذه العشوائية والفوضى والاستباحة في المجال العام، خاصة المجال الرياضي وبشكل أخص المجال الكروي؟ والحقيقة أنّ الأخير هو صورة “غير ناصعة” للديمقراطية الفاشلة أو المشوهه التي طبقت  جانبًا واحدًا فقط من المنظومة الديمقراطية وهي مجازًا “حرية الرأي والتعبير”، وغيَّبت الضلع الثاني لبناء الديمقراطية وهو دولة القانون، أي القواعد التي تحاسب المستبيحين ومروجي البذاءة وكبار المحرضين، وتقبل فقط أصحاب الرأي.

الديمقراطية ليست بالأساس مشروعًا أيديولوجيًا يردد الناس شعاراته في الصباح والمساء، كما فعلت النظريات العقائدية المغلقة، إنّما هو حل لتباينات أو صراعات موجودة داخل كل المجتمعات

والحقيقة أن الديمقراطية ليست بالأساس مشروعًا أيديولوجيًا يردد الناس شعاراته في الصباح والمساء، كما فعلت النظريات العقائدية المغلقة، إنّما هو حل لتباينات أو صراعات موجودة داخل كل المجتمعات، فإذا أردنا أن نفتح نقاشًا في قضايا جادة تتعلق بأداء الحكومة في مجال الصحة والتعليم والمواصلات، فسنجد أن هناك آراءً كثيرة علمية تختلف مع الخطاب الرسمي في التعامل مع هذه القضايا، ولكنها تحتاج إلى آلية ديمقراطية لكي تعبر عن نفسها، سواء في حزب أو مؤسسة أهلية، لمواجهه الرؤى الأخرى، وهنا لن نجد وسيلة إلا الانتخابات الديمقراطية لكي يختار الشعب رؤية من بين هذه الرؤى المختلفة، وإذا ثبت فشلها في حل مشاكلهم، فعبر أحد آليات الديمقراطية، وهي الانتخابات، يمكن تغييرها.

مشاكل الناس اليومية والقضايا السياسية الكبري تقول إنه لا توجد طريقة واحدة للتعامل معها وأنه بشكلٍ عملي لو أردت أن تناقش مثلاً تطوير الأحياء في مصر لاكتشفت أن أغلب الناس يقدرون الإنشاءات التي بنيت في الطرق السريعة، وفي الوقت نفسه يرفضون ما جرى في أحياءهم السكنية حين وضعت كباري السيارات كأولوية ومعيار للتطوير والنجاح، وتناست أن في الأحياء السكنية الأولوية دائمًا لأماكن آمنة لعبور المشاة، وإن الدوران الحر (U turn) المعتمد في معظم أحيائنا يرحل مشاكل المرور ولا يحلها.

السؤال لو كانت في بلادنا محليات تناقش وتقدم حلولاً حتى لو عانت في البداية من سوء تنظيم وعشوائية فإنّ الحصيلة بالتأكيد ستكون أداء أفضل بكثير في التعامل مع مختلف أحياء القاهرة التاريخية.

لا ديمقراطية ناجحة ومنجزة بدون دولة قانون ومؤسسات محايدة ونزيهة ومنفصلة عن السلطة التنفيذية، وهذا شرط لمواجهة المشكلات الموجودة داخل المجتمع من أمية ونقص الوعي وفقر وغيرها

يقينا الديمقراطية هي حل سلمي لمشاكل وتباينات وآراء موجودة في الواقع، وهي تخص الناس ولمصلحة الناس.

صحيح أنّه لا ديمقراطية ناجحة ومنجزة بدون دولة قانون ومؤسسات محايدة ونزيهة ومنفصلة عن السلطة التنفيذية، وهذا شرط لمواجهة المشكلات الموجودة داخل المجتمع من أمية ونقص الوعي وفقر وغيرها بفعل حقيقي لا بترديد مقولة خاطئة أنّ الشعب غير مؤهل للديمقراطية.

دولة القانون التي تنظم الانتخابات وتحارب المال السياسي لا أن تتواطأ معه، ونظام سياسي يؤسِّس لدولة قانون لا دولة فوق القانون، هي كلها من شروط الانتقال الديمقراطي، وأن على كل مواطن أن يعرف أن قضية الديمقراطية ليست نقاشًا نخبويًا إنما هي الحل الأسلم والأضمن والآمن لمشاكل الناس في القرى والنجوع والأحياء.