هذه زاوية لا تطرق عادةً في الأحاديث والكتابات الكثيرة عن مشكلات الدور الأمريكي في النظام الدولي، وفي تاريخ العلاقات الدولية، وحاضرها ومستقبلها، وبالتالي في الكثير من دول العلم ومناطقه أو نظمه الإقليمية؛ إذ يتركز الاهتمام غالباً علي جانب (العرض بلغة الاقتصاديين) في ذلك الدور الأمريكي، أي على أخطاء أمريكا، ونكسات سياساتها الخارجية، وأسباب تلك النكسات والأخطاء، وتثور التساؤلات حول جدوى هذا الدور، واحتمالات وموعد انسحاب أمريكا من شؤون العالم لعجزها عن الاستمرار في القيادة، وعن المدى الزمني المتوقع لانهيارها، وحلول الصين مثلاً محلها.

مشكلة هذا التركيز علي جانب (العرض) في علاقة أمريكا بالعالم أنّها تغفل استمرار حاجة العالم ككل للولايات المتحدة، ومن ثمّ يصبح التحليل غير مكتملٍ، ويؤدي إلى سوء الفهم، وإلى غلبة نمط من التفكير بالتمني أو بالتشفي

مشكلة هذا التركيز علي جانب (العرض) في علاقة أمريكا بالعالم أنّها تغفل استمرار حاجة العالم ككل للولايات المتحدة، ومن ثمّ يصبح التحليل غير مكتملٍ، ويؤدي إلى سوء الفهم، وإلى غلبة نمط من التفكير بالتمني أو بالتشفي، مما يؤدي بدوره إلى أخطاء في الحسابات قد تكون كارثية هنا أو هناك في هذا العالم.

إذن، ما طبيعة احتياج العالم لدور قيادي أمريكي دولي؟ وكيف يمكن ترشيد هذا الدور، وتجنيب العالم ويلاته؟ وكيف يُمكن لأمريكا ذاتها ومن داخلها إعادة تقويم هذا الدور؟ تلك هي الأسئلة الأولى بالإجابة أو بالبحث عن إجابات في هذه اللحظة التي يلعب فيها الأمريكيون  جراح نكستهم المدوية في أفغانستان.

دون تنظير أشهد أنني سمعتُ مباشرة في مقابلات صحفية وندوات من ألسنة مسؤولين كبار  وباحثين مخضرمين- فضلاً عن قراءة مئات الصفحات- في منطقتين بالغتي الأهمية من الناحية الجيوبوليتيكية، هما الجوار الآسيوي للصين بدءًا من الهند حتي اليابان، وكل دول أوروبا الشرقية، أقول سمعت عبارة واحدة تتكرر هي: نحن بخير ما بقيت أمريكا بخير،  فالولايات المتحدة من منظور حكومات وشعوب جنوب وشرق آسيا هي ضامنة التوازن الدولي، الذي يمنع تغوّل العملاق الصيني علي محيطه الإقليمي، وهي من المنظور الشرق أوروبي ضامنة التوازن الكابح للتمدد الروسي على كل دول حلف وارسو السابق في شرق أوروبا والبلقان، بل إن أوروبا الغربية تستند في أمنها في مواجهة التفوق الاستراتيجي الروسي الساحق على المظلة الأمريكية، ومثلما كان ذلك صحيحًا في حقبة الحرب الباردة فهو صحيح الآن وفي المستقبل المنظور، بغض النظر عن ضيق بعض الأوروبيين الغربيين قليلاً أو كثيرًا بما يسمونه تجليات غطرسة القو الأمريكية، وبغض النظر كذلك عن رفضهم أحياناً ضغوطًا أمريكية لمنع التوسع في التعاون الاقتصادي مع روسيا، خاصة في مجال الطاقة.

تبنّت واشنطن مفهوم التنمية في كل دول الجوار الصيني، وهو ما أسفر عما سمي فيما بعد ظاهرة النمور الآسيوية، التي تأسست خططها للتنمية الصناعية على الصناعات التصديرية

قبل أن نغادر هاتين المنطقتين، فمن المهم أن نعرف شيئًا من تفاصيل الدور الأمريكي في كل منهما، ففي مواجهة الجاذبية الإيديولوجية الهائلة وقتها للصين الشيوعية، وبعد النكسة الأمريكية الشائنة في حرب فيتنام في إطار المواجهة ضد التمدد الشيوعي، ومن قبلها في الحرب الكورية تبنّت واشنطن مفهوم التنمية في كل دول الجوار الصيني، وهو ما أسفر عما سمي فيما بعد ظاهرة النمور الآسيوية، التي تأسست خططها للتنمية الصناعية على الصناعات التصديرية، أي على تلبية الطلب الخارجي، ولم تكن أسواق التصدير لنمور آسيا إلا السوق الأمريكية ذاتها أولاً، ثم أسواق أوروبا الغربية، وصولا إلى العالمية، ونعرف الآن أن هذا هو النموذج الذي احتذته الصين نفسها، واتخذته سبيلاً للصعود المنافس الآن لأمريكا، ومن الناحية الاستراتيجية البحتة كانت الولايات المتحدة هي داعمة البرنامج النووي الهندي، بل والمحرضة عليه، حتى لا تحتكر الصين الهيمنة النووية في آسيا، وكانت واشنطن هي التي أبلغت الهند بتطور المشروع النووي الصيني قبل أن تفجر الصين قنبلتها النووية التجريبية الأولي في منتصف الستينيات من القرن الماضي، وذلك حين أوفد الرئيس الأمريكي  ليندون جونسون، روبرت ماكنمارا رئيس البنك الدولي ووزير دفاعه السابق إلى نيودلهي خصيصا لهذا الغرض.

في أوروبا الغربية لم تكن الولايات المتحدة فقط هي المنقذ العسكري في الحربين العالميتين، ولكنها أيضًا كانت المنقذ الاقتصادي بعد الحرب الثانية بمشروع مارشال الشهير، والمنقذ الاستراتيجي طويل الأجل بحلف الأطلنطي

وفي أوروبا الغربية لم تكن الولايات المتحدة فقط هي المنقذ العسكري في الحربين العالميتين، ولكنها أيضًا كانت المنقذ الاقتصادي بعد الحرب الثانية بمشروع مارشال الشهير، والمنقذ الاستراتيجي طويل الأجل بحلف الأطلنطي، والقواعد العسكرية المنتشرة في ألمانيا وغيرها. والأهم أن الدور الأمريكي كان ولا يزال هو المانع الجامع لاندلاع حروب عالمية جديدة، جنبًا إلى جنب طبعًا مع توازن الردع أو الرعب النووي.

نأتي إلى الشرق الأوسط الذي تتأجج فيه موجات الكراهية للولايات المتحدة، مثل منطقتنا في ذلك مثل أغلب شعوب أمريكا اللاتينية، إذ على الرغم من هذه الكراهية في منطقتنا تبقي الولايات المتحدة هي الضامن الحقيقي لأمن الخليج، وهي الضامن لاتفاقات السلام المصرية الإسرائيلية، بل لعلِّي أقول دون مبالغة ورغم كراهيتي لانحياز أمريكا الأعمى لإسرائيل، فإنّ واشنطن كانت ولا تزال تكبح جماح المتطرفين الصهاينة من قادة إسرائيل من طراز شامير وشارون وليبرمان، ونيتانياهو الذين يتوقون إلى ترحيل الفلسطينيين من الضفة والجليل، أو ما يسميه أولئك القادة بالترانسفير، وعلينا أن ندرك أيضًا أنّ كل القرارات العسكرية الكبرى في إسرائيل لابد أن تحظى بموافقة أمريكية أولاً، وذلك اعتبارًا من جانبها لدرس السويس عام ١٩٥٦، وهو ما حدث في حرب ١٩٦٧، وفي غزو لبنان، وفي الغارة على المفاعل النووي العراقي، وبالطبع فإن الفيتو الأمريكي هو مامنع حتى الآن العدوان الإسرائيلي على إيران.

أما في أمريكا اللاتينية فمن منظور حكوماتها- لا شعوبها التي عانت طويلاً من استغلال الرأسمالية الأمريكية- فقد كان للمعونات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية دور رئيسي في مواجهة المد الثوري اليساري، وحروب العصابات في تلك القارة، ثم وبعد انتهاء الحرب الباردة كان لواشنطن دور رئيسي أيضًا في دعم خطط التحول الديمقراطي هناك.

وحتي في أفريقيا، فقد كان للولايات المتحدة دور حاسم في سقوط نظام الحكم العنصري الأبيض في جنوب إفريقيا، طبقًا لاعتراف نيلسون مانديلا شخصيًا.

بطبيعة الحال لا تزال بنية العلاقات والصراعات والتوازنات الدولية على ما كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد انتهاء الحرب الباردة، ومن ثمَّ فلا يزال هناك طلب عالمي على الدور الأمريكي، لحفظ التوازنات القائمة على الأقل. وشخصيًا وعلى سبيل المثال لا أثق كثيرًا في مشروعات الاستقلال الدفاعي الأوروبي عن الولايات المتحدة، اذ فشلت كل هذه الخطط من قبل المرة تلو المرة، وآخرها مشروع الاتحاد الدفاعي الأوروبي الثلاثي بين ألمانيا (شرودر) وفرنسا (شيراك) وبلجيكا، الذي أعلن تأسيسه تجسيدًا لمعارضة هذه الدول للغزو الأمريكي للعراق، وأكثر من ذلك فقد فشلت أوروروبا أكثر من مرة في إنهاء النزاعات المسلحة على أرض القارة دون تدخل أمريكي حاسم، سواء في البلقان، أو في أيرلندا الشمالية.

على واشنطن التوقف عن الاعتماد شبه الكامل على الأداة العسكرية، وعليها أن تدرك أنها نجحت بالتنمية حيث فشلت بالحروب، وعليها أن تفهم أيضًا أن الديمقراطية لا تفرض بالسلاح، ولكن التنمية الاقتصادية كانت في أغلب الأحيان مدخلاً جيدًا للتحولات الديمقراطية

تساءلنا في بداية المقال عن العقبات الداخلية والدولية أمام الدور القيادي الأمريكي في شئون العالم، وعن إمكانيات ترشيده، وقد تحتاج الإجابات إلى مقال ثانٍ، لكن باختصار، فعلى واشنطن التوقف عن الاعتماد شبه الكامل على الأداة العسكرية، وعليها أن تدرك أنها نجحت بالتنمية حيث فشلت بالحروب، وعليها أن تفهم أيضًا أن الديمقراطية لا تفرض بالسلاح، ولكن التنمية الاقتصادية كانت في أغلب الأحيان مدخلاً جيدًا للتحولات الديمقراطية، ولحرص الشعوب على السلام  والاعتدال، وهو نموذج يصلح للتطبيق أو للتجريب في حربها التي لا تتوقف ضد ظاهرة الإرهاب الدولي، الذي لا يتوقف هو الآخر خصوصًا في منطقتنا، وأفترض أن التفاهم الأمريكي مع إيران سوف يغير مناخ الإقليم بالكامل؛ شرط أن يتبعه تقدم جوهري في القضية الفليسطينية.

وأما العقبات الداخلية في أمريكا نفسها فلا أتوقع انتصارًا نهائيًا للاتجاه الانعزالي الذي يرفع شعار أمريكا أولاً، بل العكس هو الصحيح كنمط تاريخي؛ إذ إنّه من الصعب أن تستغنى أمريكا عن العالم مثلما أنه من الصعب أن يستغنى العالم عن أمريكا، ولكن تبقى مشكلة التكلفة الاقتصادية لهذا الدور ومصالح المجمع العسكري الصناعي في التربح من الحروب وعسكرة السياسة الخارجية للولايات هي التحدي الذي لا تصور نظريًا أو عمليًا لمواجهته حتى اللحظة، باستثناء فكرة زيادة الإنفاق الدفاعي من شركاء الأطلنطي واليابان وكوريا الجنوبية، على أنّ يخصص جزء كبير من هذه الزيادة للمشتريات من السلاح الأمريكي.