(1)

أينما وليت وجهك ستجد مطالبين بـ”الحرية”، فالحرية عباءة فضفاضة يظن البعض أنها تخفي تحت طياتها كل الأمنيات الطيبة، وما أن تتحقق للمرء حريته التي يطالب بها حتى تتفتح أمامه أبواب السعادة الأبدية.

كلما جاء ذكر “الحرية” تدور في ذهني أسئلة كثيرة منها: هل الحرية أداة أم هدف؟ ولماذا يقاتل أشخاص دفاعا عن نوع من أنواع الحرية وينكرون أنواعا أخرى؟ وكيف يقرأ كل شعب كتاب الحرية؟ هل الحرية عند الشرقيين لها نفس المفهوم عند الغربيين؟ وهل رؤية الفلاح المصري البسيط عن الحرية هي نفسها رؤية الناشط السياسي القاهري؟… هل الحرية مصطلح جامد أم أنها تتلون بلون العصر وروح الزمن؟

(2)

ربما سأصدم البعض حين أقول: إن الحرية التي نمارسها في حياتنا اليومية بعيدة كل البعد عن العبارات الرنانة المكتوبة بعناية وزخرفة في كتب السياسة ودساتير الحكم، فهي محدودة بحدود قدراتنا وأزمات عصرنا وثقافة المجتمع الذى نعيش فيه، ويظهر ذلك جليا في دراسة نشرت في “هارفارد بيزنس ريفيو” عدد مايو- يونيو 2021 حيث رصد كل من: “رنا ميتر” أستاذة تاريخ وسياسة الصين الحديثة بجامعة أكسفورد، و”إلسبيث جونسون” مدير الاستراتيجية السابق للأعمال الآسيوية في إحدى شركات التكنولوجيا، عددا من المفاهيم الغربية حول الصين واعتبراها أساطير خادعة، أول هذه الأساطير: أن الاقتصاد والديمقراطية وجهان لعملة واحدة.

وذكر الكاتبان أن النمو في الصين جاء في سياق حكم شيوعي شمولي مستبد، مما يشير إلى أن الديمقراطية والنمو لا يعتمدان بشكل حتمي على بعضهما البعض. في الواقع، يعتقد العديد من الصينيين أن الإنجازات الاقتصادية لبلادهم والحد من الفقر على نطاق واسع، والاستثمار الضخم في البنية التحتية، والتنمية كمبتكر تقني عالمي المستوى قد تحققت بسبب، وليس على الرغم من، الشكل الاستبدادي للحكم في الصين. كما كشف استطلاع أجراه مركز “آش للحكم الديمقراطي والابتكار” بجامعة هارفارد في يوليو 2020، عن رضا المواطنين الصينيين عن حكومتهم بنسبة 95٪.

الأسطورة الثانية: لا يمكن للأنظمة السياسية الاستبدادية أن تكون شرعية يذكر الكاتبان أن: الكثير من الصينيين يعتقدون أن نظام حكومتهم مشروع وفعال، بل أكثر شرعية وفعالية من النظام الغربي.

هذه الدراسة توضح أن المفاهيم الغربية حول الحرية والديمقراطية واقتصاد السوق والتي تصدر للعالم كله على نطاق واسع لها معان أخرى في الصين وبلاد أخرى حول العالم.

اقرأ أيضا:

مقدمات في حرية الكلام

(3)

النظام العالمي الحالي، لا يسير نحو منح المزيد من الحريات لجموع البشر كما يروج الساسة في خطاباتهم الانتخابية ويؤمن ملايين المخدوعين، بالعكس، الأنظمة المستبدة والديمقراطية المزيفة والأفراد فاحشي الثراء يضيقون الخناق على البشرية ويعيدون تشكيل الوعي والمفاهيم ويختمون على ظهور الناس بختم الأمر الواقع الذي تم هندسته على مهل لصالحهم.

تقرير لمنظمة “أوكسفام” البريطانية غير الحكومية يظهر أن ثروة 1%من أغنى أثرياء العالم تفوق ثروات بقية العالم مجتمعة وهذا معناه ببساطة أننا ذاهبون لعهد جديد من العبودية المقنعة حيث يرتدى الذئب ثوب الحمل.

غالبية سكان العالم يتم التحكم بهم ومراقبتهم وغسل عقولهم لخدمة الـ1% والتي يعمل لحسابها العديد من الحكومات والقادة حول العالم، سيسمح لنا فقط بحريات الدواب وعلى رأسها الحرية الجنسية، أما الحرية التي تؤدى للعدالة والكرامة الإنسانية فلن تجد لها سندا أو دعما. على سبيل المثال: قيم الثورة الفرنسية المعلنة: الحرية والإخاء والمساواة، يدعي اليمين الفرنسي الصاعد أنه حارس وراع لتلك القيم الفرنسية الأصيلة،  لكنه يمنعها عن المهاجرين بدعوى أنهم لا يمتثلون للقيم الفرنسية!!! هذا اليمين المتطرف يذكرني بسكان “إليزيوم”.

(4)

فيلم أمريكى إنتاج 2013 يدور فى عام 2159،  Elysium

وهو من فئة الخيال العلمي، ويظهر فيه طبقتان من الناس: الأولى فاحشة الثراء تعيش على متن محطة فضائية “كمبوند” مزود بكل وسائل الراحة يُطلق عليه إيليزيوم (الجنة)،  أما الطبقة الثانية فهي باقي سكان كوكب الأرض، الذين يعيشون في أطلال كوكب عمه الخراب، ويحاول كل فترة عدد من سكان الأرض الهجرة لـ”إيليزيوم” للعلاج والتمتع بمزاياه،  لكن يتم التصدي لهم بكل عنف وصلف، أحيانا يتم تصفيتهم جسديا وأحيانا يتم ترحيلهم سالمين إلى الأرض.

يعاون سكان إليزيوم جيش من الروبوت مبرمجين على نظام وضعه نخبة هذا المنتجع فاحش الثراء، ساسة “إليزيوم” يتحدثون بفخر عن الحرية والديمقراطية والقيم السائدة بينهم، لكنهم لا يطبقونها على سكان الأرض الذين يعاملونهم معاملة العبيد. كلما تذكرت الفيلم أسرح بخيالي وأقول يا ترى كم “إليزيوم” على الأرض؟ مع الأخذ في الاعتبار أن هذا الأمر سيكون أشد وضوحا وتبيانا خلال العقود القادمة مع تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي.

 

(5)

ماذا تبقى من الحرية كمصطلح قديم بعد تلك المقتطفات التي شاركت القارئ إياها؟، وماذا سيبقى منها من وجهة نظرك حين يتم الهيمنة على البشر بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي؟، وخاصة أن الخبراء يجمعون على أن من يقود الذكاء الاصطناعي في عام 2030 سيحكم العالم حتى عام 2100.

لا أطرح في مقالي إجابات لكن أطرح أسئلة “بكره” لعلنا نستيقظ من سباتنا الطويل.