من يتابع المنصات السودانية في سياقات الإعلام التقليدي والجديد يشعر ببساطة بوجود مساحة من قلق تتزايد بشأن مستقبل السودان وطبيعة المعادلات الضامنة لاستقراره من حيث القوة والاستمرار، خصوصا في ضوء تعدد مراكز القوى من ناحية، والانقسامات البينية في كل مركز من ناحية أخرى.

وقد تراكمت مظاهر القلق السياسي العام لأسباب متعددة منها ما هو سياسي مرتبط بالمعادلات الضامنة للاستقرار، ومنها ما هو اقتصادي مرتبط بمعيشة الناس اليومية.

علي الصعيد السياسي هناك تأخر يصل إلى حد الجمود في تكوين المجلس التشريعي، وهو المجلس المعني بتشريعات الفترة الانتقالية، وكذلك حسم القضايا القومية المختلف عليها، وذلك لفترة تقترب من عام، وفي سياق مواز، هناك تأخر في تنفيذ اتفاق جوبا بين الحكومة والحركات المسلحة وجلها في دافور، بينما تزداد وتيرة الصراعات المسلحة في هذا الإقليم لدرجة مقلقة حيث تذهب بعض التحليلات إلى القول إن العلاقة بين أطراف السلطة في الخرطوم تنعكس مباشرة على حالة الأمن في دارفور، ومستويات الصراع فيها التي دائما ما تنتج قتلى بالعشرات.

ولعل غموض مصير العلاقة بين المركز أي الخرطوم ومنطقة جبال النوبة التي يتزعمها عبد العزيز الحلو، تطرح أسئلة إضافية بشأن مصير السودان ذاته.

بالتأكيد حساسية العلاقة بين المكونين العسكريين الرئيسيين في السودان، وهما القوات المسلحة السودانية، وقوات الدعم السريع، تثير أنواعا من القلق السياسي والأمني، حيث إن هواجس ومخاوف سكان الوسط  المنحدرين من أصول عربية في تزايد مؤشراتها، خصوصا في العاصمة حيث ترتفع معدلات الاحتكاكات السياسية بين الطرفين وذلك مع إمكانية تحولها إلى احتكاكات عسكرية، فضلا عن المخاوف المرتبطة بوجود تشكيلات عسكرية للحركات المسلحة في الخرطوم كنتيجة لاتفاق جوبا للسلام، وهو الوجود الذي نتج عنه أكثر من احتكاك كان آخره في مركز شرطة “رهف” حيث رفضت قوات الحركات المسلحة أمرا عسكريا بمغادرة المركز، ونتج عن ذلك احتكاك وقع فيه ضحايا.

وبطبيعة الحال ينعكس بطئ الحركة السياسية لحد الجمود، على حياة الناس اليومية، فمستوى سعر الدولار لم ينخفض، وإن كان قد حافظ على استقرار نسبي، وذلك على الرغم من الإعلان عن إعفاء السودان من ديونه، وتدفق المساعدات الاقتصادية خصوصا الأمريكية منها، كما أن قدرات الدولة في القيام بوظائفها الأساسية شبه مشلولة، وهو الأمر الذي يجعل قدراتها في مواجهة وباء كوفيد ١٩ محدودة للغاية، كما أن انقطاع الكهرباء اليومي يكون لفترات طويلة، وذلك كله بالتوازي مع انفجار حالة طبيعية من المطالب الشعبية المعروفة بعد الثورات الكبيرة في حياة الشعوب، وذلك لدرجة أن مناطق التنقيب وإنتاج البترول في السودان تعيش تحت مظلة توترات كبيرة بسبب مطالبات المجتمعات المحلية بنصيب من ثروات مناطقهم، ولجوئهم في ذلك إلى أساليب خشنة ضد الحكومة.

السودان يرفع الدعم الكامل عن الوقود

هذه الأوضاع جعلت قطاعات واسعة من السودانيين يتخذون قرارا بالمغادرة إلى القاهرة، ولو لفترات مؤقتة، خصوصا من الشرائح الاجتماعية الوسطى من العائلات الذين لديهم أطفال في سن المدارس والشباب المطلوب انخراطهم بالجامعات بعد أن ضاع على هؤلاء جميعا عامان، بسبب وباء كرونا وسيولة الحالة السياسية المقلقة.

ويتوج هذه التفاعلات جميعها حالة قوى الحرية والتغيير، أي قوى الثورة السودانية، التي تعاقدت مع المجلس العسكري في وثيقة دستورية، من المفترض أن تكون هي خارطة الطريق طوال الفترة الانتقالية.

ويبدو أن أسباب أزمة القوى السياسية ضاربة نسبيا في التاريخ السياسي السوداني، الذي عرف عنه انقسامات يغيب عنها الأفق الوطني العام عادة، حيث تعلو المصالح الحزبية أو القبلية أو الطائفية عن المصالح الوطنية العامة، وكان من المأمول أن يتم تجاوز هذه الحالة مع وجود ما نسميه بالنواة الصلبة للثورة ولقوى الحرية والتغيير، وهو تحالف المهنيين السودانيين، لكن سرعان ما انقسم هذا التحالف على نفسه قبل عام تقريبا للأسف، ومارست باقي قوى الحرية والتغيير انقساماتها المعروفة تاريخيا فانسحب كل من حزبي الأمة والشيوعي من قوى الحرية والتغيير، حيث حافظ الأخير على موقع متميز في خرائط التشدد السياسي، بلا أفق يكون ممكنا في عوالم السياسية السودانية.

اتجاهات النقاش السودانية تتبلور في اتجاهين بشأن أزمة قوى الحرية والتغيير، الأول تحميل المكون العسكري مسؤولية انقسامات قوى الثورة، وذلك بالتفاعل مع قسم منهم دون الآخر، بهدف استراتيجي هو إضعافهم بشكل عام حتى يضمن المكون العسكري له أمرين: الأول: عدم تغول القوى المتشددة ضده مثل الحزب الشيوعي، الذي يصنف المكون العسكري مجرد لجنة أمنية للبشير، وهو الأمر الذي قد يعرض أفرادا من المكون العسكري للإزاحة التي قد يترتب عليها محاكمات، خصوصا وهم رموز في فترة نظام لبشير، ولهم ممارسات مدانة خصوصا في ملف دارفور.

أما الهدف الثاني للمكون العسكري فهو ضمان تمثيل سياسي في الفترة ما بعد الانتقالية جزئيا كان أم كليا، وهو ما يتم الترويج له على اعتبار أنه ضمانة لاستقرار السودان، حيث يبدو أن هذا الطرح يجد سندا له فيما نعلم على المستوى الدولي حاليا، وهو السند المشروط أن يكون وجود المكون العسكري جزئيا، أو في الخلفية مع وزن سياسي ملموس في صناعة القرار.

أما السبب الثاني في أزمة الحرية والتغيير طبقا لاتجاهات النقاش السودانية، تعاطف تقليدي وتاريخي من جانب القوى القومية للمكونات العسكرية، حيث مارس هذا التعاطف البعثيون في السودان والناصريون في مصر، ولو لفترة مؤقتة من جانب الأخيرين، وهو تعاطف يفتح الباب أيضا أمام انتهازية سواء للأفراد أو الفصائل السياسية.

على أية حال، الشريك المدني مطلوب على المستويات الداخلية والخارجية، “الحرية والتغيير” وهو شريك كان ومازال يحتاج الحاضنة السياسية، للمكون المدني وللحكومة، حيث أن حسابات رئيس الوزراء السوداني، د. عبد الله حمدوك لم تتبلور أبدا في اتجاه تجاوز الحرية والتغيير، رغم أن الفرص كانت سانحة، لو امتلك خطابا سياسيا كاريزميا مؤثرا في جموع الناس، يمكنه من تجاوز الأحزاب المنقسمة وضمان ولاء جماهيري لمشروعه السياسي في تطور ديمقراطي وتنمية مستدامة تملك محاور خمسة شرحها في لقاءات معه على المستوى الشخصي والعام.

حمدوك يحاول تصحيح المسار السوداني

أطروحات حل الأزمة السودانية الراهنة، والمعقدة بطبيعتها تتبلور في اتجاه إصلاح تحالف الحرية والتغيير نفسه، وهي المحاولة التي تم طرحها في يوليو الماضي، وباركها رئيس الوزراء في لقاء مع اللجنة الفنية المعنية بمسألة الإصلاح، وكذلك يباركها المجلس العسكري علي اعتبار أن تحالف الحرية والتغيير هو شريك الوثيقة الدستورية معه، والتي تبلورت في أغسطس ٢٠١٩، وبغياب هذا الشريك  تتعرض الفترة الانتقالية ذاتها لمخاطر، وتعقيدات جديدة.

أما على مستوى التحالف الثوري فقد عاد إليه بعض الخارجين عن سربه، كحزب الأمة.

ولكن يبقى أن معضلة تحالف الحرية والتغيير الرئيسية أنه قد أصبح يحصر نفسه، باعتباره لصيق الصلة بالسلطة التنفيذية باعتباره الحاضنة السياسية للمكون المدني، من هنا يتم الضغط لاختيار عناصر منه في حكومتي الثورة بغض النظر عن الكفاءات المطلوبة لتولي المناصب، وفي تقديرنا الشخصي أن قدرة  التحالف الثوري على امتلاك  مشروعات حقيقية لنصرة الثورة السودانية في تطلعاتها الرئيسية في الحرية والعدالة والسلام، والتي باتت محدودة للغاية، حيث لم يطرح حتى الآن مشروعا موضوعيا للعدالة الانتقالية، يساهم في رفع  مستوى رفع الخبرات السياسية للنشطاء السياسيين خصوصا المسيطرين على أحياء المدن الكبرى في السودان.

من هنا تحفل الساحة السياسية السودانية بالمزايدات المعوقة لتحقيق تقدم سياسي، حيث لم تحسم بعد محددات التعامل مع المتعاملين من نظام البشير المخلوع، حتى لو كانوا مجرد بيروقراط. من هنا تتعطل جهود تكوين المجلس التشريعي مثلا، وتختفي أوزان المكون المدني تقريبا في معادلات حساسة مثل تنفيذ اتفاق جوبا، أو الاستقرار في دارفور.